مجتمع

نوابغ مغربية: العربي اللوه .. حاز العلم وقاوم مع الخطابي وأبدع في التأليف والتدريس

تميز المغرب عل مدار تاريخه ببزوغ شخصيات نابغة أبدعت في مجال تخصصها وأسهمت في بناء الإدراك المعرفي للمجتمع وشحذ الهمم والارتقاء بالوعي الجمعي، كما رسخت عبقرية المغاربة بتجاوز إشعاعها حدود الوطن، ومنهم من لا تزال إنتاجاتهم العلمية والمعرفية تُعتمد في الحياة وتدُرس في جامعات عالمية.

هم رجال دين وعلماء ومفكرون وأطباء ومقاومون وباحثون ورحالة وقادة سياسيون وإعلاميون وغيرهم، منهم من يعرفهم الجميع وآخرون لم يأخذوا نصيبهم من الاهتمام اللازم، لذا ارتأت جريدة “العمق” أن تسلط الأضواء على بعضهم في سلسلة حلقات بعنوان “نوابغ مغربية”، لنكتشف معًا عبقرية رجال مغاربة تركوا بصمتهم في التاريخ.

الحلقة العاشرة: العربي بن علي اللُّوه.. حازَ العلم وقاوم مع الخطابي وأبدع في التأليف والتدريس

فتح عينيه في بلدته الصّغيرة “تيغينمن” بقبيلة “بقّيوة” المجاهدة والمغرب ما يزال بعد مستقلا ذا سيادة على ترابه، وذلك سنة 1905، وترعرع في بيت نخوة وشرف ودين، على يد والد رعاه فأدّبه، ولقّنه مبادئ المروءة والشجاعة، وهو الذي سيلتحق مكافحا ضمن حرب التحرير بقيادة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي.

سنوات بعد ذلك، وعلى منوال أبيه؛ سيشارك السيّد العربي اللّوه في الحركة الخطابية المجيدة، داعما لها بالتّعبئة في صفوف القبائل، ووسيطا نزيها بين قادة القبائل الجبلية مهمّته ضمّهم إلى حركة ابن الخطابي الوحدوية لتقوية الجبهة ضدّ الأعداء، ومقاوما حاملا للسلاح في مواجهات ميدانية ضدّ الإسبان في الرّيف.

حفظ القرآن وترقّى في مدارج تلقّي العلوم والمعارف الدينية، وسعى لتوسيع مدركاته ورصيده في الفقه والشّريعة، فانتقل إلى قرى “جبل الحبيب” من توابع طنجة الكبرى، و”وادراس” من توابع تطوان المحروسة، آخذا من أفواه علمائها وسادتها، فتميّز بحفظ المتون وإتقان علوم اللّغة العربية وعلم الفرائض؛ مما حفّزه لمواصلة الدّراسة بجامع القرويين العريق.

غير أنّ ظروف الثّـورة الـريفية المحاصرة من طرف جيوش الاستعمارين الفرنسي والإسباني والتّطويق الذي ساد المنطقة، حرم الطّالب الـمجدّ من متابعة طريقه صوب القرويّين للتتلمذ على يد علمائها الأفذاذ.

شغفه بالعلم جعله يـتحدّى العوائق الجغرافية وظروف الحرب الريفية – الجبلية؛ فاتّــخذ لنفسه مسارا جديدا، فيه من الشّجاعة وتحمّل الضّنك وتعب التّجول في الأقطار فرارا من رقابة شرطة الاحتلال ما يذكّرنا بكفاح أقطاب العلم من سادتنا السّلف أمثال ابن القيم الجوزية والبخاري وسفيان بن عيينة وهشام بن عمّار وابن الـمقفّع وغيرهم..،.

فـولّى العربي اللّوه وجهه شطر تونس العاصمة، عابرا عبر الجزائر إلى جامع الزيتونة العريق، حيث استقرّ به المقام من 1923 إلى غاية 1929، حصّل فيها زادا جليلا من علوم الدّين والأدب والعربية والتّاريخ والـمنطق والحساب، وحاز شرف الدّراسة والإجازة على أيدي فضلاء الزّيـتونة وعلمائها الـمبرّزين أمثال فضيلة العلّامة الطّاهر بن عاشور رحمه الله، والفقيه محمد الصّادق النّـيفر رحمه الله، والشيخ محمد الشّاذلي الجزيري رحمه الله.

وفي علوم الحديث والرّواية؛ نال الإجازة عن شيخيه البشير النّيفر وبلحسن النّجار رحمهما الله. وكان في مقامه ذاك؛ عاكفا على الاستزادة من العلوم، حاضرا دروس الوعظ والإرشاد برحاب جامع الزيتونة الأفخم، مزكّيا نفسه بالأوراد والأذكار.

هذا الرّصيد الكبير من العلم بلغ به مرامات عليا فور عودته إلى الريف؛ حيث تصدّر للإفتاء، جعل الشّريعة في خدمة نوازل عصره وقضايا مجتمعه. وما إن دخلت سنوات 1931 – 1932 – 1935 حتى انتقل من مجد إلى مجد، يعلو به علمه وتــزكو به مكانته وتسبقه سمعته؛ فولّي القضاء بقبيلة بني يدر الجبلية، ومهمّة نائب مدير الأحباس في النّاظور، ثم مستشارا شرعيا بنيابة الأمور الوطنية بمدينة تطوان، فـكاتبا عاماّ للصّدر الأعظم الراحل محمد الـغنمية، ورئيسا لمكتب المحكمة العليا للعدلية الـمخزنية بعاصمة المنطقة الخليفية؛ تطوان.

كان القدر سخيا مع هذا الرجل العالم العامل الـمجد، فبعد تلك التّجارب المهنية والعلمية الهامة في مسيرته؛ دشّن عهدا جديدا من المسؤوليات التي رفعه إليها علمه وذكاؤه، ذلك أنّه ولّي الكتابة العامة لحكومة المنطقة الخليفية، ثمّ وزيرا للأحباس بمنطقة شمال المغرب بدء من 28 دجنبر 1952.

ومن منصبه هذا؛ سيعمل سنة بعد ذلك، أي في 1953، سنة نفي السّلطان؛ على جمع كلمة الـملأ المخزني والسياسي في تطوان على دعم السّلطان المنفي ورفض البـيعة لـابن عرفة الـمنصّب من قبل الإقامة العامة الفرنسية، وأقنع وزراء حكمة خليفة السلطان وكبار أعيان مدينة تطوان ونواحيها، وقضاتها وفقهاءها وكبار تجّارها بفكرة توقيع ورفع عريضة إلى المندوب السّامي الإسباني “غارسيا فالينيو” للتّشنيع بسلوك فرنسا وموقفها العدائي ضدّ العرش العلوي، وذاك ما كان.

وتوّج مساره السّياسي غداة استرجاع المغرب استقلاله؛ بخوض تجربة الانتخابات التشريعية التي حاز على إثر نجاحه فيها عضوية البرلمان المغربي سنة 1963.

هذه الانشغالات السياسية والمخزنية والعدلية؛ لم تـحل دون ممارستـه لأعزّ الوظائف وأحبّها إليه وإلى روح كل عالم؛ التّدريس والتّثقيف وتعليم الناس، فنراه مدرّسا بالمعهد الديني في تطوان انطلاقا من سنة 1935، وعشر سنوات بعد ذلك أستاذا بالمعهد العالي الدّيني، ثم أستاذا مبــرّزا بكلية أصول الدين العريقة بمدينة تطوان.

هذا المسار الذي تقاطع فيه العلمي بالوظيفي بالسياسي؛ استكمل حلقاته بشروع الرّجل في الكتابة والتأليف في سنّ متأخّرة، فجاء بما لم تستطعه الأوائل – بتعبير أبي العلاء الـمعرّي -، مـخلّفا أربعة كتب صدرت كلها في تطوان، في سنوات متواليات بين 1970 و1982، توزّعت على ميادين علمية متنوعة، كالفقه والتّاريخ والمنطق والسيرة الذاتية، وهي: “الرّائد في علم العقائد”، “أصول الفقه”، “المنطق التّـجريبي”، “المنهال في كفاح أبطال الشّمال”، الذي أعاد فيه ربط حياته وهو على عتبات الشيخوخة بشبابه الـمتوقّد وهو يكافح معية مجموعة من الفدائيين والمناضلين مطالع القرن العشرين ضدّ أعتى الجيوش الغازية في شمال المملكة المغربية.

ولما عرف عنه من علم وخلق وسمعة؛ كانت تجمع الرجل صلات وعلاقات مع الوطنيين والعلماء والدّعاة في تطوان وغيرها، كما جمعته لقاءات مودّة ومعرفة مع بعض الرواد من الحركة الوطنية وعلمائها، منهم؛ الأستاذ محمد المختار السوسي وإبراهيم الإلغي _ الذي كان متزوّجا بالأديبة آمنة اللوه ابنة أخ السيد العربي اللوه _ والتهامي الوزّاني وسعيد أعراب ومحمد مزيان وغيرهم.

وافته الـمنية سنة 1988 بعد مسيرة حافلة بالعطاء والتعلق بالعلم، تحصيلا وتوصيلا. رحم الله الأستاذ العربي اللّوه الريفي مولدا، التطواني مستقرّا ونضالا وتدريسا.

مصادر ومراجع:

* (اللوه) العربي: “أصول الفقه“، منشورات ديسبريس، تطوان، طبعة بدون تاريخ، أنهاه صاحبه بتاريخ 1 يونيو 1970، في 443 صفحة.
* (اللوه) العربي: “المنهال في كفاح أبطال الشمال“، مطابع الشويخ، تطوان، طبعة 1982، نسخة إلكترونية.
* (السلمي) محمد بن الحاج الفاطمي: “إسعاف الإخوان الراغبين بتراجم ثلة من علماء المغرب المعاصرين“، ص: 469 _ 471، الطبعة الأولى 1992، توجد نسخة منه بمكتبة جمعية تطاون أسمير بمدينة تطوان.

* إعداد: عـدنان بـن صـالح/ باحث بسلك الدكتوراه، مختبر “شمال المغرب وعلاقاته بحضارات الحوض المتوسِّطي”، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة عبد المالك السعدي – تطوان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • محمد البراهمي
    منذ 4 سنوات

    جزاك الله خيرا أستاذنا الكريم على هاته المعلومات القيمة التي أبرزت فيها عالما من علماء المالكية المعاصرين. لدي سؤال لو سمحت متعلق بتاوى هذا العلامة الكبير أين يمكن لي أن أجدها هل توجد في مخطوط أم توجد متفرقة في الكتب وكيف أعثر عليها جزاك الله عنا خير الجزاء