وجهة نظر

آلية “التعلم عن بعد”: بين معيقات النجاح والحاجة إلى التقييم!

يبقى الجديد التربوي الذي بصم الساحة التعليمية بالمغرب، وبسائر دول المعمور، خلال الفترة الأخيرة التي عرفت اجتياح فيروس كورونا كوفيد 19 للعالم، هو تنزيل آلية التعلم عن بعد كآلية جديدة في التدبير التربوي لجأت إليها معظم الدول والحكومات التي اجتاحها هذا الفيروس واضطرها لتوقيف الدراسة بمختلف المؤسسات التعليمية. وهي خطة اعتبرت الوسيلة الناجعة الوحيدة والبديلة عن الدروس الحضورية، والوسيلة الممكنة الوحيدة للاستمرارية البيداغوجية. وقد لاقت هذه الآلية انتقادات كثيرة من قبل مختلف الفاعلين التربويين، كما أولياء الأمور، الذين رأوا فيها قصورا عن تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص بين جميع المتعلمات والمتعلمين في الاستفادة من حقهم في التعلم، لارتباطها بتوفر أدوات ووسائل ليست في متناول الجميع. أقصد – هاهنا- الهواتف الذكية، والحواسيب، واللوحات اللمسية، بل والتلفاز، مما حرم جمهرة غفيرة من المتعلمين والمتعلمات، تعدت في مناطق عديدة: نسبة 60 %، من حقهم في التعلم، بل في الاستمرار في التعلم !.

وقد عرفت البدايات الأولى لحملة تنزيل هذه الخطة البيداغوجية الجديدة، حماسا منقطع النظير من صناع القرار التربوي بالمغرب، كما من نساء ورجال التعليم الذين لم يألوا جهدا في الانخراط اللامشروط في اعتمادها لتحقيق الاستمرارية البيداغوجية، والمراهنة على نجاحها بنسب عالية جدا، خصوصا وأن الإحصاءات الرسمية تؤكد على أن نسبة العائلات المتوفرة على هذه الوسائل التواصلية (خصوصا جهاز التلفاز) نسب مرتفعة تتجاوز 90%، في العالم الحضري، وأكثر من 80% في العالم القروي، حسب إحصائيات المندوبية السامية للتخطيط. لكن الذي غاب على صناع القرار التربوي بالمغرب، أن تَوفُّر هذه الوسائل التواصلية ليس وحده القمين بتحقق نسب معتبرة للمواظبة والمواكبة لما ينشر عبرها من قبل المتعلمات والمتعلمين، ومن تم تحقق تكافؤ الفرص بين الجميع في الاستفادة من الحق في التعلم. وذلك لارتباط هذه المواكبة بجملة من العوامل السوسيو- اقتصادية والسوسيو- ثقافية، يتم تجاهلها، غالبا، في مختلف القراءات الرسمية. في حين اعتبرت، هذه العوامل، المصادر المؤسِّسة لمختلف القراءات، والتحليلات المنتقدة لجدوائية هذا الأسلوب المستجد في التدريس، والذي لم يكن جديدا في ساحة الإصلاح التربوي الذي عرفه المغرب مع وثيقة الرؤية الاستراتيجية 15-30 والتي تمت مأسستها بقانون إطار صادق عليه البرلمان المغربي، وصدر في الجريدة الرسمية بتاريخ 19 غشت 2019، أي قبل حلول هذه الجائحة بأكثر من أربعة أشهر، والذي يؤكد، في مادته 33، على ضرورة “تنمية التعلم عن بعد باعتباره مكملا للتعليم الحضوري” !.

ولقد ظلت الوزارة الوصية تتعامل بنوع من التجاهل مع مختلف النداءات التي تدعو إلى ضرورة تسجيل وقفة تقييمية لهذا المستجد التربوي، والوقوف عند ثغراته وتعثراته، وظلت تعتبرهُ الإمكانَ الأنجع للاستمرارية البيداغوجية. وجاراها في ذلك جماعة من النخب التربوية، التي ظلت تعقد الندوات، واللقاءت عن بعد، لتُقنِع بطرح الوزارة. واشتغلت بتقديم سيناريوهات كيفما اتفق، قبل أن تقرر الوزارة الوصية قرارها الذي أسسته على إحصائيات ميدانية أثبتت تخوفات سابقة لفاعلين تربويين حول عدم نجاح هذه الآلية التربوية الجديدة في كسب رهان الاكتفاء الذاتي من المعرفة التربوية التكوينية، وتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص، وأنه لا يمكن أن نؤسس عليه أي شيء ذي بال يخدم العملية التربوية بالبلاد، أو يُعتمد في إجراء مختلف التقويمات الإشهادية وغير الإشهادية. وأصبح صناع القرار التربوي يتحدثون بخطاب جديد يمتح لغته ومفرداته من خطاب المجتمع التربوي والمدني، بعد أن تأكد لهم، بالملموس، أن المغرب ليس هو فرنسا، ولا غيرها من الدول المتحضرة. وأن تنزيل الاستراتيجيات والخطط والبرامج لا تصلح له الصالونات المغلقة، ولا المكاتب المكيفة، وإنما يجب أن يراعي الواقع السوسيو- اقتصادي والسوسيو- ثقافي للمغاربة، والذي، ولا شك، يختلف من جهة إلى أخرى، ومن مجال ترابي إلى آخر. فليس واقع الأحياء الحضرية الراقية، هو واقع الأحياء والمناطق الهشة. وليس واقع الوسط الحضري كواقع الوسط القروي. فالبحث عن تكافؤ الفرص بهذه الآلية، اقصد آلية التعلم عن بعد، والتي تستسلزم توفر كل هذه الأدوات التواصلية، والإعلامية، في داخل مجتمع تتوزع مجالاته الترابية، بين الراقية، والمتوسطة، والهشة، والقروية المُعدِمة، سيكون من قبيل العبث والضحك على الذقون.

أجل، قد تكون هذه الآلية وسيلة لنشر المعرفة العلمية، والمعلومة التربوية، في مجال أوسع، وبطريقة سهلة وميسرة، ولكن لا يمكن، أبدا، أن تكون بديلا عن الممارسة التدريسية الحضورية، التي حققت، وتحقق تكافؤ الفرص بنسب معتبرة ومعقولة، منذ عقود من الممارسة التدريسية. فلا يمكن أن نؤسس عليها شيئا، ولا أن نُمَأْسِسَها لنبني عليها استراتيجيات تربوية مفتوحة للجميع، ما دامت آلاف الأسر المغربية خارج التغطية الاجتماعية، وخارج القدرة على توفير وسائل للترف المعلوماتي، والإعلامي، وغير قادرة على الاستفادة المستدامة من خدمات هذه الوسائل (الأنترنيت مثلا) إن توفرت !.

غير أنه، في المقابل، لا يمكن أن نغمط المجهود الكبير والاستثنائي الذي قام به نساء ورجال التعليم بمختلف فئاتهم في تنزيل هذه الخطة لأول مرة في مسارهم التدريسي، في غياب أي رؤية واضحة، أو دعم مادي، أو تكوين مؤسِّس، خلا اجتهاداتهم الخاصة، والتي نضحت عن إبداعات غير مسبوقة من قبلهم في مجال تطوير الآليات البيداغوجية لهذه الخطة عبر موارد رقمية، و تقنيات معلوماتية أبدعوا في إخراجها. وكذلك عبر طرق جديدة في إيصال المعلومة. بل من رجال التعليم من نجح في تحقيق نسب متابعة فاقت 90%. بفضل اعتماده على طرق جديدة في التنشيط والإخراج، واعتماد الصورة والرسم والإضاءة المثيرة، بالإضافة إلى اعتماده أسلوب التشويق والإثارة في مخاطبة تلاميذه وطلابه، وجذب انتباههم ومتابعتهم.

نعم، لقد نجحت الأسرة التعليمية، أطرا تربوية وإدارية، في إنجاح هذا الرهان، بجودة عالية، وانخراط مخلص، ونكران ذات غير مسبوق؛ لكن، كل هذا، تم قي حدود الممكن الذي مثل الحد الأدنى لتحقق النجاح. ليبقى هذا المجهود المعتبر، الذي اضطلع به الجميع لكسب رهان الاستمرارية البيداغوجية، دون فائدة تذكر مادام لم يؤسَّس عليه أي شيء، ومادام لم يتم اعتماد مخرجاته كأرضية للتقويمات الجزائية التي اقتصرت، فقط، على الموارد المُرْساةِ في المرحلة الحضورية.

لذلك لا بد من فتح مشاورات موسعة لتقييم هذه المرحلة الاستثنائية، واقتراح استراتيجية معقولة وذات جدوى وجودة، تراعي الفوارق الاجتماعية، وتؤسس لتنزيل سليم ومنصف لهذه الخطة لتكون سندا بيداغوجيا مفيدا ومعضدا للممارسة التدريسية الحضورية، يشارك فيها كل المتدخلين، المباشرين وغير المباشرين، في تنزيلها؛ من أطر تربوية وإدارية، وأمهات وآباء وأولياء أمور المتعلمات والمتعلمين، وهيئات مدنية، ومؤسسات اقتصادية واجتماعية،… من أجل تحقيق مدرسة الإنصاف وتكافؤ الفرص. غير هذا، لن نستطيع أن نمي هذه الخطة، ولا أن نجعلها في خدمة التعليم الحضوري، بل سنساهم بها في تعميق الفوارق التعليمية بين مختلف المتعلمين، وتكريس الطبقية التعليمية داخل المجتمع المغربي؛ سواء أعتمدناها في مجال الدعم التربوي، أو في مجال إرساء الموارد.

دمتم على وطن.. !!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *