منتدى العمق

الحراك الأمريكي والأزمة الثقافية

في مقارنته بين الدولة الرومانية القديمة وبين البرابرة، بين المفكر والفيلسوف “علي عزت بيجوڤيتش” كيف كان الرومان يعاملون عبيدهم بطريقة وحشية ومذلة قديما،

ويشير كذلك إلى الحروب والسطو التي كانت تعيشه رومانيا، وكذا قسوة الطبقة الحاكمة والجماهير الممسوخة والمكائد السياسية المنتشرة في ذلك الوقت، إضافة إلى الإضطهاد الذي كان يعرفه المسيحيون، وألعاب المصارعة حتى الموت، وكل هذه الفظائع الشنيعة التي كانت في عز وقوة الحضارة الرومانية. بينما يقول “تاسيروس” أن البرابرة كانوا يعاملون عبيدهم أفضل بكثير من معاملة الرومان. مع ضرورة الإنتباه إلى الإختلاف الهائل بين الحضارتين في هذه الفترة من الزمن! (علي عزت بيجوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب، ص109) وقد أراد المفكر بيجوڤيتش بهذه المقارنة تبيين الفرق الهائل بين الحضارة من جهة، وبين الثقافة من جهة أخرى.

لقد بين الرئيس والزعيم السياسي السابق لدولة البوسنة، الفرق الكبير بين الثقافة والحضارة، حيث أن الأولى ترجع إلى كلمة “cult” وتعني “العبادة” فهي إذن تتعلق بالبعد الرمزي الذي يجمع بين الأخلاق، الفن، الفلسفة والدين، وغيرها من الأبعاد اللامادية التي تجعل من الإنسانا إنسانا قائما بذاته، ويقول بيجوڤيتش في هذا الصدد “الثقافة معناها الفن الذي يكون به الإنسان إنسانا، والحضارة تعني فن العمل والسيطرة وصناعة الأشياء صناعة دقيقة” فهي كل ما يدور في فلك التطور التقني والتكنولوجي المادي المحض.

وشتان بين الإنسان الإنسان والإنسان الصانع!

من خلال هذه القراءة العميقة لمفهومي الثقافة والحضارة، يتبين لنا المشكل العويص الذي سقطت فيه الولايات المتحدة الأمريكية في الأيام الأخيرة، فالجميع كان ينظر إليها كنموذج عالمي مثالي في كل شيء، في التكنولوجيا، في الإقتصاد، التجارة، الفلاحة والسياسة، إلخ… لكننا كنا نجهل أن كل هذا التقدم هو الجانب الحضاري من الصورة الأمريكية فحسب، ولم ننظر إلى الجانب الآخر من الصورة المتمثل في الجانب الثقافي. فأمريكا لديها مجتمع متحضر بشكل لا يوصف في جميع المجالات، لكن المؤسف في الأمر أن لديها إنسانا فارغا على المستوى الأخلاقي، والديني، مما جعل الإنسان الأمريكي مجرد كائن متعلم ومتطور يعيش من أجل أن يستهلك، ويستهلك من أجل أن يعيش.

وهنا أرجع إلى قولة بيجوڤيتش في نفس السياق “حامل الثقافة هو الإنسان، وحامل الحضارة هو المجتمع، ومعنى الثقافة القوة الذاتية التي تكتسب بالتنشئة، أما الحضارة فهي قوة على الطبيعة عن طريق العلم” وشتان بين الأولى والثانية (الإسلام بين الشرق والغرب، ص109)

هنا يتضح لنا أن الولايات المتحدة اعتمدت على حضارة، تقوم على إنشاء مجتمع استهلاكي ينتج بكثرة ويستهلك بكثرة، أو لنقل أنها عملت على إنشاء “حيوانات ذكية أو كاملة” حسب تعبير “نيتشه” تنتج وتستهلك بدون أي بعد إنساني، وبدون أي فهم عميق للمغزى من هذه الحياة، فالحضارة الأمريكية تطورت وتقوت تحت شعار “أطلق رغبات جديدة دائمة وأبدا” هذا الشعار الذي يعتبر الوصية الأولى للعصر الحديث حسب مقال ظهر حديثا في صحيفة “نيويورك تايمز”.

أمريكا “زعيمة العالم” فشلت في بناء إنسان مثقف بحمولة أخلاقية إنسانية موحدة، وهذا ما يعاب على الثقافة الغربية بشكل عام، فالتقدم الحضاري لم يكن يوما دليلا على ثقافة الشعوب، والعكس صحيح، فالثقافة بدورها لم تكن يوما دليلا على الحضارة.

يمكننا إجراء مقارنة بسيطة بين الربيع العربي وبين الحراك الأمريكي الحالي، حيث أن الدول التي قامت فيها الثورات كانت دولا في أسفل السلم الحضاري والتي تصنف ضمن “دول العالم الثالث” وذلك لعدم وجود عالم رابع، ومع ذلك فقد كانت السلمية شعارا مرفوعا عند أغلب الدول العربية رغم بعض الإنفلاتات هنا وهناك، لكن السلمية كانت الوجه العام للربيع العربي، خاصة في ظل تأطير هيمنت عليه نخب سياسية تنتمي للإسلام السياسي، والتي كانت تنهل من الإسلام كمرجع أساسي لها. فهذا التنظيم والتأطير القوي الذي عرفه الربيع العربي دل على أن الشعوب العربية لها ثقافة قوية وصارمة، خاصة أن أغلبها يتحلى بالأخلاق الإسلامية وبالتضامن والتعاون الإسلامي، إضافة إلى تربية الشعوب العربية القائمة على الإيخاء والمحبة خاصة في أوقات الشدة، لذا فإن تجنب العنف لم يكن متوقعا رغم القمع الشديد الذي تعرضت له الإحتجاجات خاصة في المغرب، تونس ومصر، حيث أن الشعب كان مؤمنا بضرورة الحفاظ على السلمية.

أما العنف الأمريكي الذي بدأ منذ الأيام الأولى للإحتجاج فهو دليل ملموس، على غياب الثقافة الأمريكية بشكل كبير، وهنا نرجع إلى النظام التعليمي عند الأميركيين الذي يتميز “بالمادية” فالإحترام والإنضباط يكون في إطار القانون، وهنا ندخل في معادلة قاتلة “إن حضر القانون حضر الإحترام، وإن غاب القانون، غاب الإحترام” هذه المعادلة جعلت من البلاد “غابة حيوانات” بعد هفوة بسيطة ارتكبت من طرف الشرطة، وجعلت من الأمريكيين وحوشا بشرية ترتكب جميع الجرائم من قتل وسرقة ونهب للمحلات التجارية و تكسير لسيارات الشرطة.

وفي الختام لا يمكننا إلا الإذعان والإعتراف بأن النموذج المثالي المصور عن الغرب، إنما هو صورة برانية للمشهد الغربي، سرعان ما تلاشت بعد أيام قليلة من الإحتجاج، لتظهر الصورة “الجوانية” بوصف الدكتور عثمان أمين والذي يدل على ضعف البناء الداخلي والروحي عند الغرب بصفة عامة والأمريكيين بصفة خاصة.

* ماستر علوم التربية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *