وسائل الإعلام والتواصل.. بين العبث والجدية

القديم لا ينسحب والجديد لا يولد من فراغ. استفاق العالم برمته على ضيف خبيث، عدو، لا يترك فريسته إلا ومسببا أضرارا جسيمة قد تصل في أغلب الأحيان حتى الموت. هذا السياق الاجتماعي أثار فضولي حيث كان لوسائل الاتصال تعاملا خاصا مع هذا الفيروس القاتل. ما دور الفايسبوك وتويتر وواتساب والتلفاز والصحافة المكتوبة أو المقروءة في الترويج للحدث؟ من الذي يؤطر هذه الوسائل من داخلها؟ ما هي ميكانيزمات اشتغالها؟ ما هي حدود هذا العالم الافتراضي؟ هل هذا الأخير نسخة طبق الأصل للواقع أم ضده؟ هذا الواقع الذي يعتبر صرخة بصراعاته وتشنجاته؟ ألا يمكن القول أننا ننتمي إلى مائدة التفاهة بأطعمتها المتنوعة، نستهلك الأخضر واليابس؟ من يخطط للانتصار؟
في إطار الدراسة الأكاديمية التي أتابعها ضمن سلك “ماستر سوسيولوجيا المجالات القروية والتنمية”، تتبعنا عن كثب كيف أن المجالات القروية منهمكة على همها الوجودي…. اجتثت هوية الفلاح فيها من طرف مسلسل “الأسطول الاستعماري” وأضحت هذه المجالات صراعات وتراتبات ومسرحا للاعدالة الاجتماعية.
لقد تبين لنا عبر الملاحظة الموضوعية لهذا المجال أننا نعيش على نوع من الاستغلال والاستهلاك في ألفيتنا الراهنية، لكن هذه المرة، استغلال نابع من عالم تؤسسه الرقميات والتطبيقات ووسائل الإعلام عبر شركاتها. هذا العالم الذي صار لعبة تختزل فيها القيم الاجتماعية ويتم تقزيمها. فأصبح هذا العالم، الذي كان من المفروض أن يقوم بتنوير الرأي العام، عرضة لرهان يتأرجح بين الربح والخسارة الماديين، المال والثروة، أو المعنويين كالسمعة والشهرة والعلاقات الاجتماعية داخل نسق بنيوي هش.
وأننا أتتبع عن كثب وضعية الفلاح القروي الذي أنهكته مخلفات الاستعمار، وكانت الضربة القاضية انفصاله عن أرضه في سياق الهيمنة الاستعمارية وبراديغماتها، أجد نوعا جديدا من الهيمنة، إذ وقع فريسة وسائل الإعلام والتواصل. فالمسلسل الاستعماري لا زال قائما، وما انفك الاتصال مع القديم بقناع جديد وبزي حداثي هذه المرة، ليرمي هذا الأخير بالفلاح القروي في أحضان اللامبالا ة، وهذا ما عبر عنه مارك مانسون. لا تحاول، بل نفد واشترك، واستهلك، واقتن، لا أكثر. حيث يكون شعار هؤلاء الملاكين لوسائل التواصل والمهيمنين اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا حسب جمال الدين أفغاني هو “التسفل أيسر من الترفع”، هذا الشعار الذي يتبنى مبدأ البساطة في الحصول على الأشياء والنبذ للمجهود. هذا الخطاب الأجوف يجعل الكائن مثل حاوية تقبل كل ما يلقى فيها، كائن لا يمعن النظر والتبصر، مجرد من القدرة في التفكير.
في حقل السوسيولوجيا علينا أن ننتصر للسؤال دوما، كما يردد الأستاذ العطري، علينا الاشتغال على أدوار وسائل الإعلام والكشف عن مضمرها، باعتبارها رمز للنفوذ وللسلطة. علينا دراسة العلاقات الستاتيكية / الدينامية التي تتأطر داخل التطبيقات الإعلامية ورصد للتراتبات والمواقع التي تتولد عنها. علينا أيضا أن نفك شعار الخطاب المروج على اعتبار أن جلها أحداث ووقائع تبنى على المبالغة في المحتوى المطروح وتحول كل ما يقع تحت ذريعتها من أخبارتسوغها في قالب على حساب خدمة مالكيها وتوجهاتهم؛ تركز على الفضائح وتعلن حبها للشر، وتعمل جل جهدها لإشباع رمق متتبعيها وإشباع رغباتهم التي لا تتعدى دائرة التفاهة.
وفرة المعلومات هو أمر جلي خلال هذا العصر. في المقابل، نجد نوعا من القصور والنذرة في من يمدنا بالفهم الصحيح للأشياء، في من يقوم مسارنا المعرفي من الاعوجاج. ببساطة، نحن نسبح في مجتمع مفتوح لاحدود له، مجتمع يؤثث للوعي الجمعي، من خلال متابعة منشورات ذات عقم معرفي إيبيستيمولوجي، يسودها طابع التكرار حيث يجد الفرد نفسه مرغما لتبني الفكرة أو تبني رأيا محددا سلفا وترويجها لفرد آخر. هذه الوسائل والبرامج الرقمية تقزم من معايير الأشياء وتبسطها كما يبدو الأمر باديا، خاصة إذا علمنا أن الشباب يهدف من وراء هذه العملية جني أوراقا مالية، غير مبال بشرعية أو لاشرعية ما يقدم عليه، بل قد يؤدي الأمر في بعض الأحيان إلى توليد العنف والصراع في صفوفهم عبر ترويج لبعض الصور والفيديوهات التي تدخل في الملكية الخاصة التي تفضح ثقافة المروﱢج و المروﱠج له، ناهيك عن ترويج لبعض الكليشات الفلكلورية، فيتم الترويج لحقائق مغلوطة في مضمونها، وهذا ما أسماه الأستاذ لمعمري بذباب الفضاء الأزرق.
نظل نشاهد ازدراء وصول لثلة الأساطير والقصص الجوفاء المزيفة، التي أصبح المجتمع العربي جزءا لا يتجزأ منها، بل بات عنصرا في التعريف بهويته، حتى يظل مرتبطا بالمعروض والمنتوج كما جاء على لسان رشيد العزوري في إحدى مقالاته حول التطورات المتسارعة والتقدم الهائل الذي عرفه ميدان الإعلام والتواصل، مصرحا بدون شك أن الخطاب الإعلامي عمل مسيس بطريقة مباشرة وغير مباشرة لصالح إيديولوجيا ما، قد لا تبدو، وبالوضوح المطلوب لأن متعة الفرجة تجعلنا ننخرط بدون شروط في الهيمنة الضمنية لوسائل الإعلام.
نحن امام معضلة مفادها أن المجتمعات أصبحت استهلاكية للخبر، والمجتمع العربي لا يشكل الاستثناء، لأن البضائع المعروضة لا تترك خيارات داخلية أو فردية. فباتت الأجهزة الإعلامية ووسائل الاتصال يختزل دورها في الترفيه وتجاهل الواقع الذي يعج بالوقائع ذات الطابع الاجتماعي، الصحي، الاقتصادي، البيئي والسياسي.
* طالبة باحثة بسلك ماستر “سوسيولوجيا المجالات القروية والتنمية” بكلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس- فاس
اترك تعليقاً