وجهة نظر

الرد الراقي على الفعل العفن

منذ مساء يوم الأحد و أنا أحاول دون جدوى أن أكتب في صفحتي على الفيسبوك، تفاعلا مع الخبر المتسخ العفن الذي صدمنا جميعا. كان ممكنا أن أكتب عبارات شجب و إدانة و أمر. بذلك كنت سآتي رد فعل مبدئي ضروري، قام به كثير من الناس غيري لحسن الحظ. لكن رغم حرصي لم تسعفني الكلمات، فقررت التريث واعتبرت أن ما كتبته، يوم الجمعة، في نعي الفقيد عبد الرحمان اليوسفي، ما فيه رد مسبق على “أصحاب النجاسة”، و على كل من أقلقتهم وقفة الاحترام التي نالها الرجل من عموم أبناء الوطن، دون أن يكون لغالبيتهم أية علاقة ارتباط بحزبه، و لا هم تعاطوا مع الراحل على أنه “زعيم” بالمفهوم الحزبي السياسوي الضيق، بل تفاعلوا بحزن مع وفاة سياسي من العيار الثقيل ناضل بصدق وجرأة و وطنية، وعبروا عن الأسى لفقدان رجل دولة أحب بلاده وأخلص الولاء لثوابت الوطن، وأعطى مثالا في النزاهة والعفة ونظافة اليد عندما كان في المسؤولية، و لم يطمع في شيء بعد أن غادرها للتقاعد.

وأنا على تلك الحال، حاصرتني أسئلة ملحة من قبيل : هل يحتاج الموقف أن نشجب و نندد، ثم نمر و السلام؟ أم أن علينا أن نفكر جيدا في عمق دلالات ذلك الفعل المشين، ونحاول فهم الرسالات التي حملها، ونستنتج الخلاصات من وراءه؟ أليست أهم الخلاصات هي ضرورة أن ننتبه و لا ننجر، بعفوية سلبية، وراء كل ما سيتناسل حولنا من “قضايا” و”أخبار”، و نقع بذلك في فخ عدم التركيز مع واجب اليقظة العالية لنحفظ كياننا الوطني من شر كل المتربصين؟ أليست أهم ردود الأفعال المطلوبة هي أن يستوعب كل منا جيدا التزاماته و مسؤولياته الوطنية في المرحلة المقبلة، و أن يقف موقفا تستدعيه المرحلة، يكون عنوانه المسؤولية المشتركة في تحقيق الطموحات لإنجاح الإقلاع الشامل الذي يغير واقعنا إلى الأفضل؟

وأنا أحاول الإجابة عن تلك الأسئلة، ذكرني الفيسبوك بتدوينة كنت قد كتبتها يوم 1 يونيو 2019، الموافق لليلة 27 رمضان من السنة الماضية. و مما كتبته حينها أن “كل الأمور إلى زوال … و لن تحصل على التقدير و الاحترام، إلا مواقف النزاهة والتعقل وصفاء الخاطر والقلب… ولن تظل في الأذهان سوى ذكريات الفعل الجميل، والقول الجميل، والسعي الجميل من أجل الوطن… من أجل أولاد البلاد… ومن أجل من يحتاجون كل دقيقة من تفكيرنا، وكل ذكاءنا، وكل قدرتنا على المواكبة، وكل مداركنا وكفاءاتنا ليخرجوا من بؤس التهميش والفقر والمشاكل التي لا تحصى. ومن العيب أن نترك مسؤولياتنا الحقيقية وننشغل بما هو إلى زوال.”

صراحة، رغم أن هذه التدوينة مرت عليها سنة كاملة، إلا أني أراها راهنية وتحمل أفضل رد ممكن على “الفعل المتسخ العفن” لصباح يوم الأحد الماضي. و كي تصير التدوينة مكتملة الصياغة و يصبح المعنى أبلغ، أضعها في هذا المقال وأعيد كتابتها كالتالي : “مهما أبدع البعض في منسوب القبح وفي فعل السوء، سعيا لتغيير الحقائق الجلية أو النيل من رمزية رجالات الوطن والدولة، فإنهم لن يفلحوا في ذلك. لا شيء يمحو ذكريات الفعل الجميل، والقول الجميل، والسعي الجميل من أجل الوطن و من أجل أولاد البلاد. ولا شيء يجب أن يصدمنا أكثر من اللازم، أو يلهينا عن تطوير أدائنا لخدمة من يحتاجون كل دقيقة من تفكيرنا ومن طاقة الإبداع فينا، كي يخرجوا من بؤس الفقر و دائرة التهميش الاجتماعي و الاقتصادي والثقافي والمعرفي. لا شيء يجب أن يشغلنا عن مسؤولياتنا الحقيقية في مرحلة ما بعد كورونا، إذا كنا فعلا قد فهمنا حقيقة المراد من (فعل التدنيس)، و إذا أردنا حقا أن نجيب أصحابه بشكل استراتيجي.”

على من غضبوا لما حدث يوم الأحد أن يتذكروا خلاصة جوهرية حاسمة و مؤطرة لكل ما سنصادفه في طريقنا مستقبلا من أحداث. أقصد هنا ما حسمنا أمرنا بشأنه قبل أسابيع، من ارتياح كبير لتدبير الدولة المغربية لأزمة الوباء الفيروسي، الذي ارتقى إلى مستويات التزام واستباقية حقيقية، رغم بعض الملاحظات و الهفوات الطبيعية والعادية في أجواء فتنة زمن الأزمة، والتي لا تنفي ما كان من احترام واسع للضوابط القانونية، ومن جدية في التواصل و في التحرك الميداني، بشكل أعاد الثقة وقوى الالتحام المجتمعي، وجدد الافتخار بالإنتماء لهذا الوطن والاعتزاز بمؤسساته، وأظهر إمكانية بناء نمط جديد لحكامة الشأن العام يجعل الإنسان المغربي محور التفكير والتخطيط والبرمحة والتحرك والتدبير و التتبع و التقييم، في إطار علاقة شراكة مواطنة بين السلطات العمومية والمواطنين، ينضبط فيها الجميع للقانون و تعتمد التعاون المسؤول لتحقيق المصلحة العامة.

صحيح أن هذا المنحى يحتاج ليترسخ بعد انتهاء الأزمة. لكن علينا أن نفهم جيدا أن الروح الإيجابية الجديدة أفزعت تجار التيئيس والعدمية، وخلقت كابوسا مرعبا يؤرق كل من لا يريد لبلادنا أن تتقدم، وكذلك لمن تستهويهم المتاجرة بمآسي الناس والتحريض ضد الوطن ومؤسساته من منطلقات إيديولوجية أو مصلحية مختلفة. لذلك، علينا أن لا نترك للشيطان فرصة ليتسلل عبر التفاصيل الصغيرة. و لن يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال التشبث بهدوء الواقفين على الحق والمطمئنين لما في قلوبهم من قيم مخلصة لله وللوطن وللملك. أولئك المؤمنون بأن الأمة المغربية يمكنها أن تنتصر، باعتماد الكفاءة والاستحقاق والتجند الاحترافي لكل المؤسسات، وتعزيز آليات التدبير العمومي، واحترام القانون وحفظ هيبته، وتجديد الالتحام الوطني والانتصار لتمغربيت الأصيلة.

رأيي أنه يجب أن نبقي التركيز على الأهداف الأساسية لمعركة مقاومة الوباء، ونستعد لملحمة البناء الوطني والتأهيل التدبيري المستعجل، في مرحلة ما بعد رفع الحجر الصحي والسيطرة على الجائحة الوبائية، على أساس تثمين ما تحقق من تجديد للثقة بمفهومها الشامل، واعتماد قاعدة المسؤولية المشتركة، و عدم ترك المبلبلين و زارعي الفتنة يسقطوننا في فخ الاستفزاز وردود الأفعال الانفعالية.

ولمن يريد أن يفهم أكثر، أعود بذاكرته إلى تلك اللحظة الاستثننائية من بعد زوال يوم الأربعاء 31 يوليوز 2019، حين تفضل جلالة الملك محمد السادس، القائد الأعلى ورئيس أركان الحرب العامة للقوات المسلحة الملكية، بإطلاق اسم “الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي” على الفوج الجديد من الضباط المتخرجين من مختلف المعاهد والمدارس العسكرية وشبه العسكرية، و جاء في الكلمة السامية بالمناسبة : “وقد قررنا أن نطلق على فوجكم، إسم الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، الذي يتقاسم مع والدنا المنعم، جلالة الملك الحسن الثاني، ومع جلالتنا، نفس المبادئ الثابتة في حب الوطن، والتشبث بمقدسات الأمة، وبالوحدة الترابية للمملكة، والدفاع عن مصالحها العليا. (…) فكونوا، رعاكم الله، في مستوى ما يجسده هذا الإسم، من معاني الاستقامة والالتزام، والثبات على المبادئ، والغيرة الوطنية الصادقة؛ أوفياء لشعاركم الخالد الله، الوطن، الملك”.

لا شك أن الأثر الجميل لمضامين تلك الكلمة السامية، كان و لا يزال محفزا لنا جميعا على الأمل والتفاؤل والثقة في المستقبل. و أظن أنه محفز، أيضا، لنا لتجسيد القيم التي يستوجب التحلي بها في تأدية المسؤولية العمومية، و القيام بالواجب تجاه الوطن. و مهم أن نطرح أسئلة جوهرية مستنبطة من تلك القيم، و هي : كيف السبيل لننهض ببلادنا ؟ وكيف يمكن لنا، أفرادا و هيئات، أن نعزز مكتسباته ونعالج أعطاب التنمية والحكامة فيه، ونثمن رأسماله المادي واللامادي ؟ و كيف يمكننا أن نجعل منه وطننا مدمجا لأبناءه بعدل، وداعما لهم، وحاميا لآمالهم وتطلعاتهم؟

لا شك أن تجربة كورونا مفروض أنها علمتنا أهمية الانتصار للوطن، في زمن الأزمة وخارج زمن الأزمة، و أن غالبية المواطنين قد استوعبوا أن مغربنا هو تاج رؤوسنا و ملاذنا، وأن ثوابت الأمة المغربية وعقول شبابها هي ركائز القوة و الفعل الهادف. لذلك، أعتقد أن الجواب عن تلك الأسئلة الجوهرية لن يكون صعبا.

لكن، ونحن نبحث عن الأجوبة، علينا أن نحتفظ بثقتنا في ذاتنا المجتمعية، بغض النظر عن استمرار بعض السلوكات المدانة والمقيتة، و أن نستحضر أن الدفاع عن مصالحنا الاستراتيجية يستوجب ذكاء جماعيا حقيقيا، و يحتاج الصبر والصدق، ويتطلب إبداع أشكال تدبيرية جديدة، وعدم الالتفات لمن يريدوننا أن ننغمس في “المعارك الجانبية” وننشغل بتفاهة الأقزام وهم يتطاولون على ذاكرة الوطن ورجالاته. و إذا التفتنا، فلنقل سلاما ونواصل الطريق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *