منتدى العمق

حروف خطت

جلست إلى مكتبها تبحث عن نور إلهام, فتعبت وتعب منها الأدب. نهضت متجهة إلى سريرها, تمددت وتركت لفكرها العنان, أخذها تفكيرها إلى زوايا ذاكرتها المظلمة المنسية, تذكرت أيام طفولتها الكئيبة, في تلك القرية النائية حيث قضت كل أيامها في أعمال المنزل الشاقة والحقل, أتعبتها الذكرى وأجهدتها, فتململت في فراشها بدلال وأطفأت النور, فنامت.

ككل صباح, استيقظت على صوت رفيقة سكنها وصديقتها توقظها لكي لا تتأخرا عن الالتحاق بدروس الجامعة. صديقتها “صفاء” هي رفيقة دربها بحق, غادرت معها القرية حينما قررتا أن حياة القرية والاستبداد لم تكن تناسبهما بحثا عن اصطياد الأحلام والتميز الثقافي. لقد كان قرارا صعبا على فتاتين في مثل صغر سنهما, لكنه كان الأمثل والأشجع. منذ نعومة أظافرهما حرمتا الكلام, كل ما طلب منهما هو العمل والطاعة. إلا أنهما نعمتا ببضع سويعات مع قاطنة جديدة مسنة كانت تعمل في قطاع التعليم, لقد علمتهما القراءة والكتابة وكانت تزودهما ببضع كتب للقراءة سرا. لقد أطلق ذلك لروحيهما العنان, وفقط حينما توفتها المنية ذات صباح ماطر, قررا أن ما يريدانه حقا ليس موجودا بتلك القرية العبوس الفاترة. بعد أن هربتا حرصا على اجتياز كل الامتحانات الإشهادية التي فاتتهما فرص اجتيازها. ووفقتا في ذلك.

بعد تناول الفطور خرجتا لاقتناء بعض الكتب من مكتبة السيد “عثمان”, هذا السيد كان أول من مد لهما يد العون في أول أيامهما بالعاصمة, ولطالما كان له الفضل في تحصيلها الدراسي العلمي الجيد. هو سيد طيب في الخمسينات من عمره يدير تلك المكتبة منذ نعومة أظافره فهي ارث عائلي. ليس للسيد “عثمان” أولاد, لكنه قد أصبح أبا روحيا لكل زبائنه من القراء الشباب.

كانتا تحبان كثيرا بدأ يومهما الدراسي برفقة الكتب وبين رفوف المكتبات الخشبية. كان الشعر شغفهما والنشر قرة عين. لم تكن الحياة الاجتماعية في العاصمة ما يثير اهتمامهما بقدر الحياة الثقافية فيها.

كانت “سارة” تحب نظم الشعر وكانت بطبيعتها منفصلة عن اللحظة في غالب الأحيان, منفصلة عن الواقع, مجنونة بشكل إبداعي آسر, في نفسها تدور حروب حروف وفي عقلها صراع معان دائم. بعد يومها الدراسي الشاق مع صديقتها التي تقضيانه بين المحاضرات والكافيتيريا, كانت تعود أدراجها في المساء لغرفتها الصغيرة, متعبة ومحملة بكل أثقال اليوم من الأفكار والتجارب الحسية, فكانت تنغمس في كتابة بضعة أسطر قبل أن تغرق في سبات حلو.

تلك الليلة, لم تستطع النوم قط. حاولت جاهدة إفراغ ذاكرتها وعقلها لتجعله صفحة بيضاء قابلة لحلول العتمة, لكنها لم تنجح في ذلك. قامت من على سريرها ببطء تتفقد ما إذا كانت صديقتها نائمة أم معذبة في الأرق, فوجدتها غارقة في نوم من أحلام. لم تكن في مزاج مناسب للكتابة أو لقراءة حبرية. ارتذت معطفها وخرجت تتجه لساحة العاصمة الكبرى التي لم تكن تبعد إلا بضع خطوات وشارع. كانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة قبل منتصف الليل وكانت الشوارع لازالت حية مضاءة, تمتزج فيها كل الأصناف البشرية والروائح و المأكولات الشهية بكل ألوانها وأشكالها. أخذت مكانا بين الأكوام البشرية المنتشرة هنا وهنالك, وأخذت تسرح ببصرها بين الأطفال المشاكسين الذين يلعبون ويرتعون بدون كلل ولا ملل, وبين النساء اللواتي جلسن يتحدثن ويضحكن ويتضاحكن متناسيات ناسيات هموم البيت ومتاعب تربية الأطفال, غير آبهات بالوقت ولا بالرجال. وبين الفترة والأولى تفكر وتزداد تصميما على أن هاته الحياة العادية هي ما تخشاها ولا يمكن أن تسمح بأن ينتهي بها الأمر مثلهن. ثم تسرح بين الشبان والفتيات الذين انتشروا كانتشار الزهر في الروض. أزهارا زوجية هنا وهناك. هائمين في أحاديث الحب والغزل الوردي, الذي غالبا ما يكون سببا في متاعبهما معا وخاصة الفتيات الصغيرات. ذلك أن الحب التزام وقرار عقلاني وما انتشر بين شباب وبنات العرب مؤخرا لعب بدافع شهوة. تأثر مفهومنا للحب سلبا بما هو معروض في الإعلام التلفزي والرقمي فضيعنا مفهومنا للحب المليء بالرحمة والشرع, ولم نتمكن من فهم أو تطبيق المفهوم الغربي لذلك, فضعنا وضيعنا. ثم أخذها تفكيرها إلى ما تسببت به وسائل التواصل والإعلام من فرقة وقطيعة. فأصبحنا ننكب على لوحات هواتفنا مدعين الانغماس في عمليات التواصل منعزلين عن العالم الحقيقي معلنين قطيعتنا مع الأهل والمقربين. كانت غارقة حرفيا في تأملاتها, حينما تناهت إلى مسامعها أصوات طلقات نارية وصراخ رجالي ونسائي قد امتزج ببكاء أطفال ويافعين. لم تدرك ما الذي كان قد حصل من حولها في بادئ الأمر. وظلت مندهشة متسمرة في مكانها بينما أخذ الناس يركضون في كل الاتجاهات. كادت تدهشها سيارة فقد سائقها السيطرة بعد أن حطم زجاجها بطلقة نارية خرجت من مسدس أحد الطائشين لولا أن رجلا في الأربعينيات من عمره انقض عليها يجرها مخرجا اياها من الساحة. انقلبت الساحة حينها بمطاردات مسلحة بين الشرطة وبعض رجال العصابات الطائشين. لم تستوعب ما حصل إلا بعد أن قص عليها الرجل بعجالة ما حصل وسببه. كان يمكن أن تكون واحدة ممن سقطوا جرحى أو موتى برصاصة غدر طائشة من رجل عصابة أو برصاصة رجل شرطة بشرعية قانون. فيخر جسدها هنالك متهالكا تماما كأجساد هؤلاء.

عادت لحجرتها الصغيرة تجر أذيال الخوف. وما إن جلست على كرسي مكتبها الصغير حتى انهالت على قلمها ودفترها تخط الكلمات بلهفة جائع ونهم محروم. خطت كل ما رأت وما لم تر منه سوى التفكير. ثم تناولت ذاك الكتاب الذي لم تستطع بعد إنهاءه وسافرت لمعالم زمنية مكانية أخرى. ثم فاجأها النوم, فأطفأت النور.

بعد تلك الليلة أخذ الأرق يضرب لها موعدا كل ليلة. يدق بابها فتفتح له بطيبة خاطر, ليجازيها بالحرمان. حاولت في الليلة التالية منع نفسها من الخروج, فهي لا تريد أن تصبح جزءا مما سبق وحصل مرة أخرى, لقد كان شيئا أكبر من أن تستطيع منعه أو تغييره. هي فتاة مسالمة لأقصى حد, تعيش حياتها في استقرار وهدوء ودائما ما تجعل الواجب الأخلاقي الذي آمن به “كانط” منطلقا لكل أفعالها فكانت تقوم بالفعل الطيب لا الغاية سواه وتعامل الذوات كغاية ليس لها من نظير سواها. و إن حصل وجافاها قريب, وضعت مكانها مكانه وتدرعت له بآلاف الأعذار ثم نسيت ذلك كليا.

بعد أن توالت ليالي الأرق والقلق على “سارة”, قررت ذات ليلة تلبية دعوة أحد أساتذتها الأكاديمية لزيارة معرض كتب كان ينظم بالمركز الثقافي للمدينة. استعدت للذهاب بارتداء ما لذ لها وطاب من الثياب وصففت شعرها ثم اتصلت بأستاذها تعلمه بانضمامها. وفي تمام الساعة مساء, كانت قد استقلت سيارة أجرة. كانت الشوارع مكتظة جدا لكن ذلك لم يمنع نسائم المساء من ملامسة جلدها الرطب. فتحت نافذة السيارة, وجعلت وجهها للخارج قليلا سامحة للرياح التي تهلب بملامسة وجهها ورشقه برفق.

لقد كان الجو فنيا بامتياز. نتلك الأضواء الساطعة على باب مدخل المركز. كانت قد رأت وزارت معارض كثيرة من قبل, لكن شعورهاته الزيارة مختلف جدا. تشعر بشيء شاعري غير اعتيادي هاته المرة, كأنه شوق لغائب مجهول الهوية تماما. كانت متألقة جدا ولم تكن غيرها من النساء تملك مثل شعرها الأسود الحريري الطويل, كان يمتد لخصرها يجمله ويراقصه من حين لآخر. كان كونها مختلفة عن الباقين يستهويها دائما وفكرة أنها مختلفة عن الحاضرات هاته المرة أيضا أسعدتها. لم تكن النساء في تلك القاعة حاضرات إلا للتباهي بمظاهرهن وبمرافقيهن, لكنها كانت قادرة على فعل أكثر من ذلك. بعد أن استأنست الأجواء والوجوه, قررت المشاركة في النقاشات التي يخوضها الزوار هنا وهناك حول الكتب المعروضة. استفزها أحد الحاضرين بانتقاذ لاذع غير بناء لكتاب كان قد عنى لها كثيرا, فقررت توضيح خطئه وتفنيد ما ذكره, فبدأت تتكلم وتتكلم مستعملة كل رصيدها اللغوي والمعرفي الواسع الغني. لم تنتبه إلى أن كل الحاضرين استداروا إليها ينصتون لما تقول بإعجاب هازين لرؤوسهم الصغيرة كلما اتفقوا مع فكرة ذكرتها, حتى كادت تنتهي. بعد أن لاحظت ذلك, صمتت كليا ثم أحنت رأسها خجلا واحمرت الوجنتان. لم تكن تحب أن تكون محطا للأنظار منذ طفولتها, ذلك يزيد من ارتباكها وتوترها. صفق لها الجمع كله بعدها وشكرتهم مطأطأة الرأس. كان من بين الحضور الذين صفقوا لها بحرارة أستاذها الذي حالما عاد الجميع لنقاشاتهم, توجه إليها مشجعا ومعترفا بجماليه ما قالت وصحته. لقد عبر لها بصدق عبارة أنه كان على دراية علمية واسعة, لكنه لم يتصور أبدا قبلا أنها قد تملك حسا نقذيا محكما ومعرفة فنية واسعة كتلك التي عبرت عنها قبل هنيهات. لقد اعترف بمدى إعجابه بفهمها الأدبي وعبر عن رغبته في خوض نقاشات كتلك مستقبلا لأن الأمر سيسعده, وافقت, فاتفقا على شرب القهوة معا في الصباح التالي. بعد انتهاء الحدث, عرض عليها أستاذها “لؤي” توصيلة, لكنها رفضت بكل أدب ثم تمنت له ليلة سعيدة. لم تستطع النوم ليلتها من شدة ما شدها ما عايشته تلك الليلة في المعرض, وخاصة الجزء المتعلق بأستاذها. لم تستطع محي الطريقة التي كان ينظر بها إليها وحديثه.

استيقظت في اليوم التالي بدلالها وكسلها الأنثوي المعتاد. نسيت أنه يوم الأحد وأنها على موعد قهوة مع الأستاذ “لؤي” ولم تتذكر ذلك إلا حينما رأت ملابسها التي ارتدتها البارحة ملقاة على الأرض بفوضوية خجولة. تفقدت هاتفها, فإذا برسالة نصية مرسلة من طرفه تظهر على شاشة هاتفها. قرأتها ثم قفزت مذعورة وأخذت تسرع تجهز نفسها للخروج. كانت مذعورة بفرح, ولأول مرة منذ زمن تشعر أنها في شوق لفعل شيء غير قراءة رواية لغيوم ميسوا أصدرت توا. بعد أن جهزت نفسها خرجت تحاول وقف سيارة أجرة تأخذها للمكان الذي راسلها به. لقد فوجئت بشدة حينما رأته على الطرف الآخر من الشارع يلوح لها. استقلا السيارة, واتجها نحو المكان. طوال الطريق لم يكف عن التكلم عن مدى تأثره بما حصل البارحة وعن كيف لحق بها ليطمئن أنها وصلت بخير, وعن الشوق الكبيرالذي رافقه منذ البارحة لرؤيتها. لم تصارحه بما كانت تحس أيضا. لم تستطع فعل ذلك, لكنها كانت تقول في نفسها أنها ربما قد وجدت الحب الذي لطالما قرأت عنه في الروايات.

في المقهى, كان الكل ينظر إليهما بدهشة لأنهما منذ أن جلسا لم يتوقفا عن الحديث والضحك. أخذا يتناقشان ويتحدثان عن كل شيء وأحيانا لاشيء قط. مرة يختلفان ومرات كثيرة يتفقان. مرة تعبس هي مقطبة حاجبيها ومرة تطلق ضحكاتها العالية سرورا. لم يمرا بالوقت وهو يمر, وفقط عند العصر حتى قررا إنهاء اللقاء. بعد عودتها للمنزل مباشرة, تلقت منه رسالة نصية طويلة يعبر لها فيها عن مدى رغبته في الزواج منها وكم يتمنى أن يحظى بزوجة تقليدية بمثل مواصفاتها تربي له الأطفال بحب و تزيد من جمال حياته وتضيئها. سقطت دمعة من على خديها حين قرأت الرسالة, لكنها حتما لم تكن دمعة سعادة وسرور. أحزنتها جدا فكرة أن يعتبرها واحدة من النساء العاديات اللواتي يعشن حياة عادية. يدرسن للدراسة, يتزوجن ليعتنين بأزواجهن, ينقطعن عن العالم ويربين الأبناء بكد. لم تظن قط أنها تمثلت إليه كالنساء اللاتي يرضين بتقديم تضحيات على حساب طموحهن ومشاريعهن وحياتهن الخاصة فقط لترضي نظرة المجتمع لها ولا تخالف نمطيته. لقد أحبت جدا فكرة أن تقضي وقتا أكثر معه, لكن ما آل إاليه الأمر سيحول دون قيامها بذلك مرة أخرى. هي ليست عادية أبدا, هي أنثى استثنائية, هي أنثى حرة, أنثى محبة للأدب والفن.

هي أنثى مبدعة, أنثى منتجة, أنثى بطموح عال وهمة. هي أنثى خلقت كي تتكلم عن نفسها, كي تعتني بنفسها, كي تكتب ويسمع صداها العالم بأسره. هي حتما أنثى مستقلة عن كل الرجال وعن كل سكان الأرض, منطلقة مندفعة لصناعة قدرها الخاص ونسج خيوطه. هي أنثى حداثية عارفة وليست بحاجة لرجل كي تعرف على أنها تنتمي إليه. الأنثى لم تخلق كي تعرف على أنها ابنة أحدهم, أخت أحدهم, أو زوجة أحدهم لأن لها القدرة التامة على تعريف نفسها بنفسها. وهي لن تتخلى عما آمنت به دائما وعملت لأجله سنينا بكد من أجل الانتماء لرجل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • آسية
    منذ 4 سنوات

    فعلا أحببت القصة،جميلا جدا بأسلوب أرقى وتسلسل كلمات كأنه نهر يتدفق،كل توفيق ونجاح.فعلا انثى مميزة مختلفة مستقلة حرة ...ولا تحتاج إلى إلى نسب رجل بجانب إسمها🌸