وجهة نظر

كورونا .. الفرصة

لئن كانت جائحة كورونا أصابت البشرية جمعاء وستخلف من المآسي البشرية والإنسانية والاقتصادية والمالية ما لم تخلفه حروب كبرى مضت، إلا أن استشراف مآلاتها وعواقبها وبوادر ذلك يجعلنا نقول أنها وإن كانت مصيبة للبشرية جمعاء فإنها تفتح باب عهد جديد.

شركات عظمى تتهاوى، ومؤسسات كبرى تتساقط، واقتصادات دول تتكبد خسائر لا حصر لها، وهكذا نرى رئيس شركة إيرباص العملاقة غيوم فوري يكتب لمستخدميه أواخر شهر أبريل الذين يناهزون 135 ألف منذرهم بقوله ” إننا نخسر الأموال بمعدل غير مسبوق، مما قد يعرض شركتنا للإفلاس”.

بوينج المنافسة ليست على أحسن حال وليس جراء كوفيد 19 بل لأنها لا زالت تجر معها أذيال أزمة طائرتها 737 ماكس، فهي إذن أزمة مزدوجة مما جعل الرئيس التنفيذي للشركة يستبعد دفع أرباح جديدة قبل “سنوات” حسب تصريحه الأخير.

ليست وحدها شركات الطيران والسياحة التي أصيبت بشدة، فشركات عملاقة في مجالات البناء، النفط والطاقة، السيارات، التجارة، المواصلات عبرت عن عظم مشاكلها بعد شهر فقط من بدء الحجر الصحي في أغلب الدول.

يمكن أن نضرب أمثلة عديدة في هذا المجال لكن يكفي الرجوع إلى معدلات البورصات العالمية لمعرفة حجم الأزمة.

كل هذا ينبئ إذن بأزمة اقتصادية ومالية عالمية لا مثيل لها، فسوف تتساقط شركات مثل تساقط أوراق الشجر في الخريف، وسوف تنحدر اقتصادات بعض الدول وقد تنزلق بعضها إلى الهاوية فتموت.

أزمة كورونا لم تشهد مثيلا لها من قبل في التاريخ، لا في زمن الحروب والصراعات، ولا في زمن الأوبئة أو المجاعات، إنه انهيار كامل وشامل يشهده العالم في عدة مجالات.

العولمة والانفتاح الاقتصادي سقط بجرة قلم كورونا، وأصبحت الشعوب تعيب على حكامها حاجتهم لبلد مثل الصين لاستيراد منتوج بسيط لا يحتاج لا إلى تكنولوجيا ولا إلى مواد أولية نادرة، إنها الكمامة الصحية.

أزمة كورونا جعلت العديد من الشركات تعيد حساباتها، وغيرت ثقافاتها الداخلية السائدة، وأصبح ما كان ضروريا يضحى أحيانا من الكماليات، وأصبح على سبيل المثال الاشتغال عن بعد معمما بعد ما كان مخصصا فقط في حالات الضرورة.

لكن فيروس كرونا لم يعطنا تعساء فقط ، فثراء بعض رؤوس الأموال الكبيرة زاد فحشا مع هذه الأزمة وهكذا ما بين الفترة 18 مارس إلى 22 أبريل، نمت ثروة أصحاب النفوذ الأمريكيين بنسبة 10.5%، وفقا لصحيفة الجارديان البريطانية، بل أن ثروات 8 منهم فاقت المليار دولار ونذكر منهم الرئيس التنفيذي ومؤسس أمازون، جيف بيزوس ورئيس مايكروسوفت السابق ستيف بالمر ومؤسس “زووم” للاتصالات عبر الفيديو إريك يوان.

“سوء حظ البعض يخلق سعادة الآخرين”، هكذا يروى عن فولتير الفيلسوف الفرنسي.

تبعات وفرص الأزمة

إن خريطة العالم الاقتصادية لا محالة ستشهد تغيرا ملحوظا:

أولا بحجم الأزمة سيكون حجم الضحايا فلحد الآن لا ندري كم من اقتصاد سيهزل ويضعف، وكم من اقتصاد سيتعافى وكم من اقتصاد سيتهاوى.

ثانيا، الأزمة قلبت موازين الأولويات وضربت قانون التجارة الحرة الذي يجري وراء الأرباح فقط، حيث فهمت الكثير من الدول أن العولمة المنفتحة دون حدود هي سراب وأن قوانين التجارة العالمية لا تعني أي شيء أمام هول المصاب، حتى رأينا دولا أوروبية تسطو في واضحة النهار على حمولات طائرات دول أخرى لتخطف منها مخزون كمامات، ومن ثمة أصبح إعادة توطين بعض الصناعات الحساسة للأمن الوطني ديدن معظم شعوب الغرب.

ثالثا، اتضح أن حرية الاقتصاد والليبرالية المفرطة التي تحول دون تدخل الدولة تمنع الأمن الغذائي والصحي للدول، وأن النظرية الكينزية في الاقتصاد نسبة إلى صاحبها جون مينارد كينز لم تمت .

رابعا، إعادة النظر في الشراكات الاقتصادية الدولية مع بعض التساؤلات حول التأثيرات الممكنة على مستقبل النفوذ الأميركي في العالم، فالصين أصبحت قبلة العالم في هذه الأزمة، قبلة الجميع بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية.

خامسا، هذا الوضع المتأزم سيكون من شأنه فسح المجال لنشأة شركات جديدة وفتح فرص أخرى للشغل والأعمال بعد ما كان منغلقا أو قد وصل حد التخمة في بعض الميادين، ومن ثمة وجب متابعته بعين قناص الفرص.

سادسا، تغير العادات والتجربة المصاحبة للأزمة ستسرع بوتيرة الرقمنة والتحول الرقمي وتصاعد استعمال الذكاء الاصطناعي، والإسراع في وضع آليات الحكومات الإلكترونية، والمدن الذكية، والإدارة عن بعد.

خلاصة القول، من كل هذا وإذا رأينا العالم بعين التفاؤل يمكن أن نزعم أن أزمة كرونا لمن استطاع أن يأخذ العبرة منها ومن حصيلتها، واستشرافا لما ستحدثه من تقلبات اقتصادية وسياسية على كل المستويات هي فرصة يجب اغتنامها واقتناصها لصنع مستقبل أفضل، خاصة بالنسبة للدول العربية والإسلامية النامية.

* باحث في العلوم السياسية ومهندس مختص في التحول الرقمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *