مجتمع

نوابغ مغربية: الحاج المنصوري.. مثقف “بدوي” مزج التراث بالحداثة وعاصر 5 ملوك

تميز المغرب عل مدار تاريخه ببزوغ شخصيات نابغة أبدعت في مجال تخصصها وأسهمت في بناء الإدراك المعرفي للمجتمع وشحذ الهمم والارتقاء بالوعي الجمعي، كما رسخت عبقرية المغاربة بتجاوز إشعاعها حدود الوطن، ومنهم من لا تزال إنتاجاتهم العلمية والمعرفية تُعتمد في الحياة وتدُرس في جامعات عالمية.

هم رجال دين وعلماء ومفكرون وأطباء ومقاومون وباحثون ورحالة وقادة سياسيون وإعلاميون وغيرهم، منهم من يعرفهم الجميع وآخرون لم يأخذوا نصيبهم من الاهتمام اللازم، لذا ارتأت جريدة “العمق” أن تسلط الأضواء على بعضهم في سلسلة حلقات بعنوان “نوابغ مغربية”، لنكتشف معًا عبقرية رجال مغاربة تركوا بصمتهم في التاريخ.

الحلقة 11: الحاج عبد الرحمن المنصوري.. مثقَّف “بَدَوي” مزج التراث بالحداثة وعاصر 5 ملوك 

في قرية (بْزو) من توابع إقليم أزيلال بالمغرب كان مولِده عام الحماية 1912، في جوٍّ عائلي مطبوع بالصلاح والعلم، ووَسْطَ أسرة عريقة محافظة، رعَته حَقَّ الرعاية، وأَنْشَأته مُحبّا لدينه ووطنه ولُغته، حتى شبَّ واستقلَّ بشخصية مُــتعَلِّمة، جَــمَّاعَةِ كُتِبٍ ومَعارِف، وذاتِ ثقافةٍ واسعة تمزِجُ بين التقليد والمعاصَرة؛ إنّه مُثقَّف البادية الحاج عبْد الرّحمن الـمنصوري.

مَسار هذا الرّجل في بدياته لم يكن بِدْعاً مِن مَسار مُـثـقَّفي الحواضِر، والبوادي المغربية الأخرى، فقد انخرط في الكُتَّاب لقراءة كتاب الله، فأتمَّه قِراءةً وحِفظاً مُتقَنًا، ثمَّ انغمس في مختصر خليل وألفية مالكٍ ودروس اللّغة العربية، مُنْـتَقِلاً بَعدَ سنينَ مِن دواوير “بْـزُو” إلى رِحابِ مراكش، مُـتَــلَــقِّياً العِلم والمعارف مِن جامع ابن يوسف ومِن معاهد التعليم الأصيل بها، فَكان أنْ تَأثَّر بعلمائها وبِكثير مِن فقهاء مغرب القرن العشرين وبمنهجهم الإصلاحي كالشيخ أبي شعيب الدّكالي والعلّامة المختار السوسي والفقيه مولاي أحمد العلمي والعالِم السرغيني محمد، واستِفادته مِن مُصاحَبتِهم _ تِلميذاً _ في لقاءات خارج حجرات الدَّرس.

إضافةً لما كانت تتيحه إقامات الطّلبة في مدرسة (الـمُوّاسين) مِن فُرصة إيجابية لتبادُل الآراء والمناقشات الدِّينية وتتبُّع الوضع العام في مغرب الحماية، وتَداوُل مَضامين بعض الجرائد والمجلَّات التي كانت تَصدُر ببعض مدن المغرب وتَصِل لمراكش آنذاك، مما عزَّز رصيده الشّخصي مِن التّكوين والتعلُّم والتّثقيف.

شَغَفُ الطّالب-الفقيه عبد الرحمن المنصوري بالعُلوم الشّرعية وأصول الفقه والقضاء وكتابة المذكرات وجمع الوثائق والاهتمام بتاريخ الزاوية الشرقاوية وبالأنساب؛ أهَّـلَه للخطابَة والإمامة بمساجِد بلدته، وتَولِّيه القضاء وخطّة العدالة في المركز الإداري الذي يَعودُ تاريخُ بنائه بمدينة “أبي الــجَعْد” لسنة 1931، ثُـمَّ الْـــتَحَق بالمقر الجدِيد للمحكمة الذي بُنِيَ في سبعينات القَرن العشرين.

الحاج المنصوري مِن أسرةٍ ميسورة، عُرِفَت بحيازتها لكثير مِن الأملاك والأراضي في عهد الـحماية الفرنسية، كما عُرِفَ عنها تَـبَرُّمها مِن تولِّي المسؤوليات الرسمية، إلّا أنَّ عبد الرحمن هذا سيَجمع إليه مِهنَتَــيْ (قائِد/قايْد وقاضي)، اللَّتانِ جَـعلَتاه في خِضّم الحياة اليومية للسّاكنة والمخزن وفي قلب العلاقات مع الفرنسيين والانفتاح على المحيط الوطني.

هذه الـميزات، والممارسات؛ هي ما حَفَّـزَ الباحث الأنثربولوجي الأمريكي (ديل إيلكمان 1924 – ) إلى رَبْط وَثيقِ الصِّلة بهته الشّخصية منُذُ حَلَّ بمنطقة بْزو، قادماً من أمريكا في مغامرة سوسيولوجية شَيِّقة بهَدفِ التعرُّف على الإسلام المغربي. وإلى هذا الباحث الفَذّ يَعود فَضْل التّعريف بشخصية عبد الرحمن المنصوري، الذي جَعَلَ منها الشّخصية المحورية لكتابه الذّائع الصِّيت “المعرفة والسُّلطة؛ صُوَرٌ مِن حياةِ مثِّقف من البادية في القرن العشرين” المنشور في طبعته الإنجليزية سنة 1985، وفي طبعته العربية سنة 2009.

نَقَل إلينا (إيكلمان) مُعطياتٍ وافية عن الإسلام الشعبي والحياة اليومية للساكنة وخلافاتها وقضاياها المعروضة على القضاء وطقوس وعادات القبائل وتحوّلات التعليم الدِّيني ووظيفة الـمثقَّف البَدوِي وعُضويتَه في مجتمعه الـمَحلي، من خلال الـمرافقة اليومية للحاج القاضي عبد الرحمن المنصوري، الذي شَهِدَ له بحبِّ التنقيب في أمهات كتب التراث، وبالصرامة الأخلاقية في المعاملات، وبتمثُّلِ أُسُس الهوية الدِّينية الإسلامية للشعب المغربي واختياراته الـمذهبية، وبالمرونة في التفاعل مع قضايا وإشكالات المجتمع المحلي بأبي الـجعد، في فترة هامّة من تاريخ المغرب الرّاهن.

كان لمرحلة تَلقِّي المنصوري للعِلم في مراكش التي كانت مُقَسَّمة إلى شَطرين؛ شطْرُها الـمنغرِس في التقاليد والعادات والأصول الثقافية والاجتماعية المغربية والتّدَيُّن والبَساطة وتُمثِّله المدينة الـعتيقة، وشَطْرُها المتأَقلِم مع التحديث والـمُتداعِي مع سُنّة التّـغير على النمط الأوربي بتأثيرٍ من الاستعمار وعاداته وثقافته ومُنجَزاته ومضامين غَزْوِه..؛ دَورٌ بارِز في تكوين شخصية القاضي المنصوري، الذي نَقَل إلى محيطه وبَـيْـتِهِ تَركيبةً عجيبةً _ بميزانِ عهْد الحماية _ مِن الجَمع بين التقاليد والتراث والأصالة والتحديث والحداثة والمعاصَرة، ظَهَرت جليةً في شَخصهِ، ثمَّ في أبنائه وطريقةِ تَربيتهم وتَعليمهم، وفي بَيته ونَمط عَيش العائلة.

إنَّ هذه الشّخصية التي عُرِفَت بالاستقامة والورع والكَفاءة والكَرم _ حسب تعبير الباحث عبد الكريم العسيري _، ثَـمّة جوانِب في مسارها وحياتها مُـثير للجدل، ذلك أنّه وفي عَصْرٍ عَلَا فيه صَوت الحركة الوطنية وامْـتَـدَّ إشعاعُ رموزِها وخِطابِها ومكوّناتها من الحواضِر إلى البوادي، وفي زَمنٍ نَوَّه فيه المغارِبة والأشقّاء العَرب بأدوار الـمقاومة الـمسلَّحة المغربية وجيش التّحرير؛ كانت للرجل مواقِف راديكالية وغريبة، فلم يَقبَلِ الأحزابَ السّياسية، واعْـتَبَرها عِبارة عن كُتَلٍ مِن اللُّصوص، وانْـتَـقَد بِـحِدَّة حِزب الاستقلال وتَصَدّى لتدّخلات قياداته وأعضائه في شؤون القضاء سنة 1957، وتَـمَوْقَف سلبيا من جيش التَّـحرير ورجالات الـمقاوَمة.

هذه الـمواقِف الـمُستخْلَصة مِن سيرته ويومياته مَعية الباحث (ديل إف إيكلمان) تُثير الغرابة، وتُبينُ عن بعضِ الـمفاصَلة بين التّكوين الدّيني والفِكري للرّجل، وانفتاحه الذِّهني والسلوكي، وزَمنه الذي عاشَه بين مِطْرَقة الاستعمار الغاشم وسِندان الـحداثة الغازية، رغم أنّه بقيَ في منْأى عن الاعتقال والنّفي والـمضايَقات مِن طَرف الـمستعْمِر، وبَعيداً عن التنمُّـر والإذاية الـشعبية التي كانت تَلْحَق عادةً بعض القيّاد والقُضاة والـمُستَسْلِمين للاحتلال الأجنبي، وذلك لسُمعة أسرته ومكانته العلمية والفِقهية في بلدته ومكانته الوظيفية القريبة من دار المخزن.

وبَعدَ حياةٍ مَديدةٍ شاهِدةٍ على عصر السياسة والاستعمار والتحولات في البنيات الثقافية والسلوكية والمهْنِية والعادات الـمجتمعية وذهنية البادِية، وبَعْدَ مَسيرةٍ مِن العيش بين الـكُتبِ والإدارة الـمخزنية والوِلاية القضائية؛ تُوفِيَ الحاج عبد الرحمن المنصوري يوم فاتح يونيو من سنة 2004، عن اثنين وتسعين سنةً.

فرحمه الله وألحقه بالصالحين.

مصادر ومراجع:

* (إيكلمان) ديل إف: “المعرفة والسلطة في المغرب؛ صور من حياة مثقف من البادية في القرن العشرين“، الطبعة العربية 2009، ترجمة الباحث محمد أعفيف، منشورات دار النشر ملابطا، طنجة، تقديم الدكتور محمد الشرقاوي.
* جريدة “العلم“، عدد صادر بتاريخ 22 يوليوز 2009.

* إعداد: عـدنان بـن صالح/ باحث بسلك الدكتوراه، مختبر “شمال المغرب وعلاقاته بحضارات الحوض المتوسِّطي”، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة عبد المالك السعدي – تطوان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *