وجهة نظر

ليبيا.. اللاعبين الكبار والقوة الإقليمية المتوسطة

يايموت

احتلت التحولات التي يشهدها الملف الليبي، صدارة القضايا التي شغلت صانعي القرار السياسي في الدول المغاربية. وقد حاولت كل من تونس والجزائر والمغرب، تسجيل مواقفهما بخصوص طبيعة التغيرات على الأرض واقتراح تصورات للحل السياسي. غير أن طبيعة المعركة على الأرض الليبية، لا تمنح لدول الجوار ومنظوماتها الإقليمية المفككة، أي دور فعال في مثل هذه النزاعات التي تكتسي أهمية جيوستراتيجية.

ومع دفع وزارة الدفاع الأمريكية للبيت الأبيض منذ مارس 2020، للتحرك العاجل ضد التغلغل العسكري الروسي بليبيا؛ أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، هما القوى الدولية الأكثر تأثيرا في الصراع وإمكانية صناعة الحل بليبيا. ورغم وجود مئات الجنود وعشرات الضباط المصرين والإماراتيين على أرض المعارك إلى جانب القوى المقاتلة مع خليفة حفتر؛ فإن كلا من مصر والإمارات، تعد لاعبين تابعين، حيث يختزل دورهما في كونهما “آلية التنفيذ” العسكري تحت السقف الفرنسي، دون أن يمتد ذلك في الكثير من الأحيان لتفويضهما المجال الاستخباراتي.

فرغم أن فرنسا، عقدت تحالفا حقيقيا ووظيفيا بينها وبين الإمارات ومصر منذ 2016 بليبيا؛ فإن باريس تعمل في الجانب الاستخباراتي بليبيا، بشكل مستقل وتعتمد على وحداتها الاستعلاماتية الموجودة بالجنوب والشرق، وكذا الغرب الليبي، والحدود التونسية.

وغني عن البيان أن هذا الاستقلال الاستخباراتي، يؤشر على ضعف الثقة رغم التوظيف الفرنسي لمصر والإمارات على أرض المعركة الليبية. كما يؤشر على، عدم الرغبة الفرنسية في مزج وخلط المصالح العليا الفرنسية بالمصالح المصرية والإماراتية، أو جعل تلك المصالح الحيوية رهينة بقوة القاهرة وأبو ظبي على الأرض.

وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أن المصالح الإماراتية تختلف كثيرا عن تلك التي رسمتها القاهرة ودافعت عنها بليبيا، فالأهداف الإماراتي يمكن اختزالها في:

أولا، السيطرة على الموانئ؛ بشكل يسمح للإمارات، باتخاد ليبيا قاعدة لمزيد من التغلغل في غرب إفريقيا ودول الساحل والصحراء. ثانيا، فرض نظام سياسي عسكري بالبلاد، يبعد شبح إقامة نظام سياسي مدني تداولي للسلطة. بينما تدفع القاهرة في اتجاه، أولا: فرض نظام عسكري منغلق، تابع للوصاية المصرية.

ثانيا، وفرض سيطرة عسكرية مصرية على حقول النفط الشرقية، وصولا للسيطرة على بعض موانئ الشمال الشرقي. ثالثا، بناء قواعد عسكرية دائمة تمكن من الحفاظ على السيطرة بالشرق، وتأمين الحدود البرية، بين البلدين.

ولا يخفى على الباحث أن الأهداف الرئيسة لكل من القاهرة وأبو ظبي، تجعلهما في حالة من التنافس والصدام الخفي والتحالف المعقد؛ إضافة إلى كون الدور التنفيذي الممنوح لهما، يضعفهما أمام كل من روسيا وفرنسا وتركيا، رغم العداء الموحد للأطراف تجاه المصالح القومية لأنقرة بالمنطقة.

وفي هذا الإطار، يمكن فهم الموقف الفرنسي الخجول من المبادرة المصرية الميتة للسلام التي اقترحها عبد الفتاح السياسي، يوم 07 يونيو 2020 واكتفاء وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان بتحية جهود القاهرة لوقف الأعمال العدائية. ومن اللافت، أن تلقى المبادرة المصرية دعما كاملا من روسيا، وهي محاولة من الكرملين لمعاكسة المصالح التركية، وإبعاد مصر عن فرنسا في مربع التحالفات الإقليمية.

إجمالا، يمكن القول، أن فرنسا وإن كانت تمثل قوة دولية وازنة، فإن استنادها على الإمارات ومصر، يأتي إيمانا من باريس بكونها القوة “المتوسطة” بتعبير برتران بادي أستاذ العلاقات الدولية في معهد باريس. فرغم وجود قوات عسكرية فرنسية على الأرض الليبية، فإن فرنسا، سعت لتجنيد وكلاء دولتيين وأخريبن ميليشياويين بزعامة خليفة حفتر للدفاع عن مصالح باريس في ليبيا.

أما تركيا، فهي الدولة الإقليمية الأولى و”القوة المتوسطة” المنافسة لفرنس، وآلياتها الإماراتية المصرية.(أتعمد هنا عدم ذكر دور السعودية والأردن لهامشيته). فتركيا دفعت بنوع من قواتها العسكرية (حوالي 4000 مقاتل وعدد محدود من الضباط)؛، وبأنواع نوعية من سلاحها على أرض المعركة. وحققت نتائج مؤثرة وسريعة، أحدثت شرخا في التحالف القبلي الشقي لليبيا، كما عرت تناقضات التحالف الفرنسي الإماراتي المصري.

غير أن مسار تشعب الصراع الدولي بليبيا، يستدعى القول أن هذا الصراع يشهد تقاطعات مؤقتة بين أطراف الصراع خاصة، بين فرنسا وروسيا، وبين هذه الأخيرة وتركيا. ومما يزيد الأمر تعقيدا أن العلاقات الروسية التركية قائمة على تعدد الملفات والمساومات. وهو ما ينسحب على علاقات فرنسا بأمريكا، وعلاقة واشنطن بروسيا؛ مما يجعلنا نؤكد أن الحل السياسي بليبيا مرتبط بحصول توافقات في كثير من الملفات والنزاعات الدولية خاصة الملف السوري، وقضية أمن البحر الأبيض المتوسط، ومستقبل الطاقة فيه، وكذلك مستقبل الاستقرار بالساحل والصحراء.

وعليه ففهم التطورات في ليبيا، يقتضي، من جهة، فهم تعقد المصالح وتشابكها بين أمريكا، وبين روسيا. ومن جهة ثانية، الإدراك بأن التعقيد المشار إليه، هو ما ينتج دينامية على المستوى الدولي، ويفسح المجال للقوى الإقليمية الوازنة، لفرض بعض أجندتها على القوى الكبرى. ومن هنا يتضح أن تناقضات المصالح والأهداف بين واشنطن وموسكو، جعلت تركيا تدخل بقوة بين الطرفين، وتربح التموقع القوي في الملف الليبي.

وإذا كانت أمريكا تجر وراءها موقف الاتحاد الأوروبي، القاضي بضرورة إبعاد روسيا من ليبيا؛ فإن ذلك راجع، لاعتبار واشنطن أن أمنها القومي مرتبط بشكل عضوي بعدم تمتيع روسيا بموقع متقدم في البحر الأبيض المتوسط. وقد جدد جورج بوش الأب هذا الموقف في سنة 1989، خلال لقائه مع آخر رئيس للاتحاد السوفياتي ميخائيل غورباتشوف.

وهذه العقيدة الأمريكية، هي التي جعلت الموقف الأمريكي يتحول لعداء ميداني لقوات فاغنر الروسية، من خلال تفاهمات، حققت نوعا من التغطية الدولية لتركيا للهجوم جوا وبحرا على قاعدة الوطية الاستراتيجية، التي تم تحريرها من المجموعات المسلحة التابعة لحفتر بتاريخ، 18‏/05‏/2020 .

كما فهمت روسيا أن التفاهمات التركية الأمريكية، تستوجب إعادة تمركز “قواتها”، داخل الأراضي الليبية، وبالتالي سحب مقاتلي فاغنر من جنوب العاصمة طرابلس، ونقلهم بطائرات عسكرية جاءت من سوريا لوجهة أخرى.

يبدو أن البحث عن السلام للقضية الليبية سيكون مسارا طويلا. فالرهان الأمريكي على أمن المتوسط، رغم الاصطفاف الفرنسي والأوروبي وراء هذا الرهان ومقتضياته، خاصة منع أي وجود عسكري روسي على الشواطئ. ذلك يحتاج لضمان حقوق تركيا فيما يخص مصادر الطاقة في شرق المتوسط. مما يعني بدوره تعديلا جوهريا في علاقة الاتحاد الأوروبي بتركيا، فيما يخص هذا الملف. وإذا لم يتحقق ذلك، فإن روسيا ستجد طرقا لتمديد الاضطرابات في شمال افريقيا، وزعزعة أمن المتوسط. خاصة أن أكثر من 2000 مقاتل من مرتزقة فاغنر الروسية، يعملون بشكل مستقل في المعارك بليبيا، ويتمتعون بتدريب عسكري جيد. كما أن موسكو، التي تدفع بعودة سيف القدافي للواجهة السياسية بليبيا، قد تخلق مزيدا من المصالح المشتركة مع تركيا، بشكل يضع أوروبا أمام تهديد كبير لأمنها العسكري والطاقي.

* الدكتور خالد يايموت أستاذ العلوم السياسية جامعة سيدي محمد بن عبد الله فاس الكلية متعددة التخصصات تازة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *