وجهة نظر

الظواهر الاجتماعية المباغتة واستخلاص الدروس، ظاهرة كورونا نموذجا

لاشك أن العالم يعيش تحت وطأة فيروس كورونا المستجد والذي جعله يدخل في حالة طوارئ صحية كانت لها آثار على الفرد والمجتمعات الإنسانية، وتبعات اجتماعية وتداعيات اقتصادية؛فكوفيد 19 أوقف عنا رحلات الطيران، وقضى على حركة السفن العالمية،وأغلق الحدود بين الدول، وقلل إلى أدنى حد أعداد السيارات التي تجوب المدن، وعلق عمل الكثير من المصانع في أغلب أرجاء العالم.

ونتيجة لهذه الإجراءات المتخذة من قبل الدول، بدأت الجائحة تعرف نوعا ما تناقصا وانخفاضا في عدد المصابين،مع ظهور بعض البؤر بين الفينة والأخرى؛ وهو الأمر الذي يدفعنا إلى طرح الأسئلة التالية: فهل ضروري اللجوء إلى هذه الإجراءات للحد من هذا الوباء الذي أبان عن عدم جاهزية الدول للكوارث والأوبئة المباغتة والمفاجئة، رغم أن لها أنظمة صحية جيدة؟ أليس بإمكان المجتمعات التأقلموالتعايش مع الجوائح بشكل طبيعي، مع استحضار مرحلة من التغير الاجتماعي على مستوى السلوك والتصرفات الفردية والجماعية[1]، وخصوصا في ظل غياب لقاح ضد هذا الفيروس، دون اللجوء إلى العزل ومنع التجولوالحجر الصحي بشكله الحالي،بالاعتماد على عدد من الإجراءات الاحترازية، مثل التباعد الاجتماعي واستعمال الكمامات،وكحول التعقيم،ووسائل الوقاية الأخرى،بالإضافة إلى إجراء التحليلات لكل العمال والاداريين في المصانع والمعامل و للجميعفي مختلف الأنشطة…الخ؟ألم يأت الوقت للتفكير في الأشياء غير المتوقعة والمفاجأة، والاستعداد لكل المتغيرات والأخطار المستقبلية على اعتبار أنالتاريخ، الذي يشكل مأساة واحدة رغم اختلاف مظاهره وأوجهه[2]،والأيام المقبلة والقادمة حبلى بالمفاجآت؟وهل المستجد من الأحداث اللامتوقعة، لا تدعونا، اليوم أكثر من أي وقت مضى، إلى إعادة النظر في طريقة التفكير في الظواهر الاجتماعية؟وإذا كان كذلك، فهل يمكننا اعتبار حدث كورونا ظاهرة اجتماعية؟

لا يختلف اثنان على أن حدث كورونا هو فرصة من ذهب يجب أن لا نضيعها لكي نتوجه نحو التنمية المنشودة أو التمكين[3]، جوهرها الصحة والتعليم، والتفكير في الأخطار المستقبلية المباغتة؛ بحيث يجب أن نستخلص منه الدروس والعبر الكثيرة، لأن كل التنبؤات العلمية تتوقع موجات من الأوبئة والمشاكل الجديدة والمزيد من التهديدات من هذا النوع وكأننا في حرب، فضلا عن التغيرات المناخية التي تزيد من تفاقم الأوضاع والأخطار؛كما جاءفي بعضالحكمالصينية:”إن حالة الحرب ستقود أي بلد إلى دماره، مهما كانت قوته”و” ان كل أزمة هي فرصة…”.

ان حدث كورونا ليدعونا، اليوم أكثر من أي وقت مضى، إلى البحث عن المعنى وإنتاجه انطلاقا من السياقات وبمتوالية ما قبل وما بعد كورونا، أملا في الفهم والتفسير والتأويل، لأن ما يلوح في الأفق والقادم من الأيام سيفرز لا محالة وضعا جديدا؛ فما عشناه من خوف ورعب وهلع وألم ومعاناة من هول الصدمة التي تسبب فيها أو أنتجها فيروس كورونا اللامرئي؛ يفرض علينا:

أولا، الأخذ بعين الاعتبار، في المستقبل، النظر إلى الأشياء الصادمة والمباغتة، وعلى رأسها الأوبئة غير المألوفة؛ وهو الأمر الذي يجب أن ينتبه إليه الإنسان المعاصر الذي كان يعتقد أن باستطاعته وقدرته تدبير أموره وتأمين وجوده بنفسه، اعتمادا على النموذج الاقتصادي النيوليبرالي الأمريكي، وعلى العلم والتقنية …الخ.

وثانيا، بجعل الصحة والتعليم في صلب اهتمام كل استراتيجيات النموذج التنموي المقبل، لأنهما المدخلان الأساسيان لتمكين أي مجتمع. إذ بدون وعي وتربية لا يمكن أن ننتظر من الساكنة أن تنخرط بالانضباط في كل الاجراءات الاحترازية التي تحددها السلطات المختصة اعتمادا على المساعدات الاجتماعية والدعم المالي والمقاربة الأمنية والزجرية فقط، ولأن إدراك الخطر هو نتاج التنشئة الاجتماعية والثقافة السائدة في المجتمع،بالإضافة إلى أهمية التواصل ونشر المعطيات والمعلومات المضبوطة والشاملة والدقيقة التي تساعد الإنسان على تمثل الخطر واستشراف السلوك الأمثل والصحيح لتجنبه[4]؛ ولا يمكن أن تنتظر من مجتمعات تسود فيها الأمراض وأفرادها يعانون من مشاكل صحية، أن تتطور وتتغير وتحصل فيها تنمية اجتماعية حقيقية.

وثالثا، على المجتمعات التفكير في هذه الأمور وكيف يمكن أن نتجنبها دون اللجوء إلى الحجر الصحي؛ إذ لا يمكن للعالم أن يتوقف في ظل تواجد الأوبئة والجوائح غير المألوفة.بمعنى آخر، أنه على المجتمعات أن تأخذ بعين الإعتبار أن هذا الوباء لن يقلع بسهولة حتى لو خفت وطأته، إضافة على أنها يجب عليها، في المستقبل، التجند والتعبئة، لزمن سيشهد المزيد من اللايقين الصحي، والاستفادة من الأخطاء وأخذ العبر ومواجهته(المستقبل) حتى نكون قد استفدنا وهيأنا أنفسنا أحسن تهييئ.

كل هذه الأحداث غير المتوقعة لتدعو الإنسان والعلوم بشكل عام والاجتماعية بالخصوص إلىالانتباه إليها،كما تدعونا إلى إعادة النظر في طريقة التفكير في الظواهر الاجتماعية، التيعرفها اميل دوركايم  بأنها أنواع السلوك المختلفة سواء كانت ثابتة أم متغيرة والتي من شأنها أن تسبب القهر الخارجي للأفراد، أو هي كل سلوك يتشكل بين أفراد المجتمع بأكمله وتكون خصائص هذا السلوك مختلفة في حال تشكله بحالة فردية عنه في الحالة الاجتماعية[5]؛ فإذا كان عالم الاجتماع يبحث في الظواهر والأفعال والوقائع والمشاكل الاجتماعية التي تكتسي طابع العمومية والانتشار والقهرية والحتمية والتعقيد والتداخل والترابط بغية استخلاص القوانين المتحكمة فيها، وذلك بعد تعريف الظاهرة ودراسة نشأتها وتطورها، والعلاقات التي تربطها بما عداها من الظواهر التي تنتمي إلى شعبتها، فهل يحق لنا القول بأن حدث كورونا، باعتباره حدثا مجتمعيا هم العالم بأسره، تتوفر فيه كل خصائص الظاهرة الاجتماعية[6]؟ في ظل غياب معرفة علمية تبني الموضوع بشكل علمي، عوض المعرفة الاجتماعية العامية أوالحس المشترك الذي يربطه بمجموعة من التمثلات، منها من تربطه (حدث كورونا) بالعقاب الالهي أو قدرا منه، وأخرى بالحرب البيولوجية بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، وتارة أخرى بالنظام الرأسمالي الذي يحبذ مثل هذه الممارسات للمزيد من التقوقع داخل المجتمع الدولي. وهناك من يرجعها إلى صراع أو صدام الحضارات كما قال الأمريكي صامويل هنتغتون[7]، أو بنهاية التاريخ كما جاء على لسان فرانسيس فوكوياما الأمريكي الجنسية من أصول يابانية[8]، أو بمجتمع المخاطر على حد تعبيرأولريش بيك[9]…الخ. هذا الأخير ذو الأصول الألمانية،في كتابه “مجتمع المخاطر العالمي”نبه إلى الأخطار الكبيرة التي يدخل فيها المجتمع الإنساني مع تقدم الأسلحة النووية والعلوم والتقنية والإعلام والتكنولوجيا…الخ، وهو الأمر الذي يوضح لكل منا أن الجميع، الآن، سواء كانوا دولا أم أفرادا، يتعين عليهم اتخاذ قرارات تنطوي على مخاطرة، من شأنها أن تحدد موقف الإنسانية في الحاضر والمستقبل تجاه ما يواجهها من أخطار.

وفي انتظار تأكيد ذلك في القادم من الأيام، فإن الظواهر المرتبطة بالصحة والمرض يتداخل فيها البيولوجي بالاجتماعي والثقافي، وهو تداخل يهم المجتمعات المتقدمة والمتخلفة على حد سواء[10]. بمعنى آخر أن هذه الظواهر لا تعود إلى أسباب بيولوجية للمرض فقط، بل إلى أخرى اجتماعية وثقافية؛ وفي هذا الصدد نجد أن الدكتور علي المكاوي، يؤكد على أن جل نظريات علم اجتماع الصحة تدل على أن العادات والتقاليد هي من أسباب المرض. فضلا عن أنه أشارفيكتابه”دراسات في علم الاجتماعالطبي في الوطن العربي”، أن العمل في الاستجابة الاجتماعية والثقافية للصحة والمرض يتميز بالتركيز على تصورات الناس حول صحتهم، وعلى الأفعال الوقائية اللازمة للحفاظ عليها، وعلى تعريفاتهم للمرض واستجاباتهم له، وكذلك الاهتمام بآثار الاتجاهات والسلوك المتنوع على مسار الأرض ونجاح التأهيل والشفاء[11]؛ ليضيف في موضع آخرمن الكتاب، أن المرض من صنع المجتمع، وهو مرآة تعكس طبيعة الثقافة السائدة[12]. كما أكد في ثنايا الكتاب نفسه على أن المجتمع هو الذي يحدد معنى المرض ومدى خطورته والأثار المترتبة عليه[13].

ومن هنا تبرز أهمية العلم عموما والعلوم الاجتماعية بالخصوص والاستعداد للمخاطر المستقبلية المباغتة وغير المتوقعة، والتعايش مع الجوائح غير المألوفة،والاستثمار في البشر لا الحجر، انطلاقا من مدخلي الصحة والتعليم اللذان يعتبران السبيل الوحيد للارتقاء بالإنسان والمجتمع،لنتجنب ما وقعنا فيه حاليا، ولكي تبقى الحياة مستمرة.أما استمرار المشهد كما هو عليه الحال اليوم، وأن التغير الذي سيحدث سيهتم فقط بالشكل لا بالجوهر فإن الأخطار والجوائح والأوبئة المقبلة والتغيرات المستقبلية ستكون مدمرة وأكثر فتكا وقتلا.

 

محمد فدواش، طالب باحث بماستر سوسيولوجيا التنمية المحلية بجامعة ابن طفيل القنيطرة – كلية الأداب والعلوم الانسانية، ممرض مجاز من الدولة، ومهتم بالبحث في مجال سوسيولوجيا الصحة والخدمة الاجتماعية.

 

[1]عمر الايبوركي،في زمن كورونا .. تمثلات المغربي للمجال العام لا تبشر بالتعايش مع الآخرين، حوار ضمن  جريدة الوطن الآن، العدد 846، ص 12-13.

[2]موريس ميرلوبنتي، المعنى واللامعنى، باريس، 1996، ص.213-214.

[3]على حد تعبير الدكتور أبو اياد العلوي.

[4] فوزي بوخريص،الهشاشة الاجتماعية تساهم في خرق الطوارئ الصحية،حوار مع الصحفي محمد الراجي، مجلة هسبريس، تم التصفح الالكتروني بتاريخ25 أبريل 2020.

[5]اميل دوركايم، قواعد المنهج في علم الاجتماع، ترجمه وقدم له د. محمود قاسم ومراجعة د. السيد البدوي، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، 1977، ص 78-79.

[6]د. أحمد رأفت عبد الجواد، مبادئ علم الاجتماع، جامعة القاهرة، مكتبة نهضة الشرق، 1983، ص.19.

[7]صامويل هنتجتون، صدام الحضارات.. إعادة صنع النظام العالمي، ترجمة طلعت الشايب، تقديم: د. صلاح قنصوه، الطبعة الثانية، 1999، ص.10.

[8]فرانسيس فوكو ياما، نهاية التاريخ والإنسان الأخير، ترجمة د. فؤاد شاهين د. جميل قاسم رضا الشايبي، بيروت، مركز الانماء القومي،1993.

[9]أولريش بيك، مجتمع المخاطر العالمي: بحثا عن الأمان المفقود، العدد 2006، ترجمة علا عادل هند ابراهيم بسنت حسن، الطبعة الأولى، القاهرة، المركز القومي للترجمة،2013، ص.436.

[10]صلاح الدين لعريني،الظواهر المرتبطة بالجسد..، تستثير وتحي المخيال الجمعي، حوار في جريدة فور التنمية، تم التصفح الالكتروني يوم 04ماي 2020.

[11]علي المكاويوفهد عبد الرحمن الناصر، دراسات في علم الاجتماع الطبي في الوطن العربي،1998، ص.56.

[12]علي المكاوي وفهد عبد الرحمن الناصر، دراسات في علم الاجتماع الطبي في الوطن العربي، المرجع السابق، ص.91.

[13]علي المكاوي وفهد عبد الرحمن الناصر، دراسات في علم الاجتماع الطبي في الوطن العربي، المرجع السابق، ص.93.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *