مجتمع

نوابغ مغربية: بلقزيز.. عبقرية مغربية في خدمة اللغة العربية وقامة علمية أثرت المكتبات بأنفس المؤلفات

تميز المغرب عل مدار تاريخه ببزوغ شخصيات نابغة أبدعت في مجال تخصصها وأسهمت في بناء الإدراك المعرفي للمجتمع وشحذ الهمم والارتقاء بالوعي الجمعي، كما رسخت عبقرية المغاربة بتجاوز إشعاعها حدود الوطن، ومنهم من لا تزال إنتاجاتهم العلمية والمعرفية تُعتمد في الحياة وتدُرس في جامعات عالمية.

هم رجال دين وعلماء ومفكرون وأطباء ومقاومون وباحثون ورحالة وقادة سياسيون وإعلاميون وغيرهم، منهم من يعرفهم الجميع وآخرون لم يأخذوا نصيبهم من الاهتمام اللازم، لذا ارتأت جريدة “العمق” أن تسلط الأضواء على بعضهم في سلسلة حلقات بعنوان “نوابغ مغربية”، لنكتشف معًا عبقرية رجال مغاربة تركوا بصمتهم في التاريخ.

الحلقة 12: محمد بن عبد الجليل بلقزيز.. عبقرية مغربية في خِدمة اللغة العربية وقامة علمية أثْرَت المكتبات بأنْفَسِ المُؤَلَّفات

هَامَ العَـلَّامة والأكاديمي الـمجتهد سيدي محمد بن عبد الجليل بلـقزيز في حبِّ لغته الوطنية، العربية؛ منذ مراحل تَعلُّمِه الأولى، فرِضِعها من مَهْدِ والِده صَبِيًّا، وتعلَّقَ بها شابّا، ونَبَغ في الكتابةِ عنها أُستاذاً وباحِثاً، وناضَل عنها بالمحاضرة والدّرس والتأليف شيْخاً.

نشأ العلّامة محمد بلقزيز في بيتِ عِلْمٍ بمراكش العالِمة، وكان مولده بذاتِ المدينة سنة 1929. حَضَّه والِــدُه العالِم عبد الجليل على القراءة والاطّلاع وإتقان اللسانِ العَربي، وعاشَ كأمثالِه من تلامِذة مغرب الـحماية؛ تجربةَ الدِّراسة في أعرق مؤسسات التدريس والعلم بمراكش، بجامع ابن يوسف، على يد ثُلّةِ من جَهابِذة علماء المغرب.

كان من نَصيبه أنْ جَمع بين التعليم الأصيل العتيق في جامع ابن يوسف التي حازَ فيها على الإجازة في العلوم الشرعية واللغة العربية سنة 1950، والتعليم العصري بجامعة محمد الخامس حيثُ نالَ من كلية الآداب والعلوم الإنسانية الإجازة في الفَلسفة، فجَمَع بينَ لُغة التَّـفَلْسُف، والتَّـفَلْسُف في اللغة العربية، لينْهضَ بعد ذلكَ مُدرِّساً لكِلا التّخصصين، ومُنافِراً عن لُغة الضّاد باللِّسان والقَـلم.

مَسار الرجل التعليمي كانَ مَبْدَؤُه مُدَرِّساً للغة العربية، ثمَّ مُفتِّشاً تربوياً ممتازاً لمنطقة الجنوب”إقليم أكادير طرفاية بعد الاستقلال”، استثْمَرَ مهنته هته في الاطّلاع على نفائس ما احْتَوَته مكتباتُ المنطقة من معارِف ومُصنّفات، ثمَّ عمِلَ مُتَرْجِماً لا يُضاهى في مجال تَخَصُّصِه.

وخصَّص شَطْراً من حياتهِ العامِرة الـمبارَكة _ وهي مدة ناهَزت الخمسين عاماً _ للبحث العلمي والتجنُّد للكتابة والتأليف في علوم اللغة؛ وخِدمة العربية خَدَماتٍ جُلَّى، وبالأخص على مُستوى الـمُصطَلحات والتّحليل اللُّغوي.

ولَـمّا كانت اللُّغة العربية إحدى المقوّمات الأساسية للهوية المغربية وللشَّـعب المغربي؛ فقد كانت المعارِك حولها لا تفتُر منذ الاستقلال، كما كان الانخراط في دعمها وخِدمتها وإنهاضِها من لَدُن بعض المثقفين والعلماء والدّعاة والكَـتَـبَة والغَيارَى من أبناء الوطن، نشِطاً ولا يَفتُر كذلك، ولم يكُن العَلَّامة الـمُجِدّ محمد بلقزيز بَـمَنْأى عن هذا المسار الطّويل الذي تَقلَّبت فيه لُغتنا الوطنية بين صُعودٍ وقُعودٍ، ودفاعٍ عنها ونِضالٍ ضِدّها؛ في حالةِ من سوء الاستقرار اللغوي هي الأغربُ عَرَبِيا، فقد ساهَم الرّجل بما وَسِعه جُهْدُه وعِـلِمه ونُبوغه في خِدمة اللغة العربية، وفي بَــيَانِ مركزية العامِل اللُّغوي الذي يُجسِّدُ لدى المُجتمع اللُّغوي أهمَّ عوامل الشعور الفردي والجماعي بالانتماء والامتلاء الـهُوِّي والوطني، والولاء لحضارة مُعيّنة ولمجتمعٍ مُحدّد.

العَلّامة البارِع م.بلقزيز قَدَّم جليلَ الخدمات ونبيل المواقف تجاه اللغة العربية، وغطَّت جُهوده المعرفية واللغوية حُقول الترجمة والنحو والبلاغة والتّحقيق والقواميس وعلم الـمُصطَلحات، أَبْرَزَ مِن خلالها غِنى العربية، وأظْهَرَ للمغارِبة عَـبْقَريته في خِدمة لغة بلده.

إنّ الأستاذ محمد بن عبد الجليل بلقزيز ولئن كان تَخَصُّصه في التّأثيل اللُّغوي _ وهو علم لساني مَحض _ الذي حَذِقَ فيه؛ إلّا أنّه واسعُ الاطّلاع، وباحثٌ نَهِمٌ يقتحم الحقول القريبة من تخصُّصِه ويَبْرَع فيها. ونَظرةٌ إلى إرثه العلمي الوفير الذي جسَّدَ أعمالاً جادّةً أغْنَت المكتبة العربية والمغربية؛ يُؤكّد فَرادَة الرجل في هذا الباب في السياق الـمعاصِر.

دشَّن الكاتِبُ مَسار التأليف بعملٍ دَقيقٍ اتخذ له عنوان “مفردات العين (عربي – فرنسي)؛ تشريح العين وعِللها مِن كُـتُب الطِّبِّ العربي ومعاجم اللغة الأصيلة”، وصدرت طبعته الأولى سنة 1980.

وفي الـمَعاجِم؛ زَوَّدَ القارئَ العربيَّ والمغربي بمصنّفاتٍ رصينة، منها: “الحيوان في المعاجم العربية الأصيلة، مصطلحات عامّة؛ بطريقة التأثيل”، “المعادن – الأفلاز – الأجسام الكيميائية في المراجع العربية الأصيلة؛ بطريقة التأثيل” وكِلاهما صدرا له سنة 2005.

وفي مجال المصطلحات العلمية؛ صدَر له سنة 2003 كتابه الموسوم بــ”مصطلحات العلاج في المراجع العربية الأصيلة؛ بطريقة التأثيل”، تَلاه بصِنْوِه “مصطلحات التّشريح في المراجع العربية الأصيلة، بطريقة التأثيل؛ معجم فرنسي – عربي”، سنة 2004.

ثمّ انتقل لتدشينِ أعمال نوعية جَعَلها تحتَ عنوان جامعٍ (حضارة وثقافة)، أفنى فيها سنواتٍ من عمره، أثْمَرَت ثَمانِي مجلّدات، جميعها بطريقة التأثيل الذي هو تخصّصٌ علمي رئيس للعلَّامة بلقزيز، خَصَّها بمواضيع، نذكر من بينها:

“حضارة وثقافة عَـبر أنْسِجة ولباس”، صدر سنة 2009
“حضارة وثقافة عَبر أصباغ وألوان”، صدر له سنة 2009 كذلك.
“حضارة وثقافة عَبر أطعِمة وأشربة”، وجاء في جُزءين، صَدرا مَعاً سنة 2010
“حضارة وثقافة عَبر مُنشآت وفنون وحِرَف”، في جُزءين، طُبِعا سنة 2010
“حضارة وثقافة عَبْر اعتمال الأرض وتربية الماشية”، صدر في جُزئين سنة 2011.

أَتْـــبَـعَ ذلكَ بمشروع متميّز حضِيَ باهتمام القُرّاء والباحثين، وكان مَحطَّ ندوات ومحاضرات، جاء بعنوان: “بَهرزة اللغة العربية في موضوع الـبتن؛ بمنهج التأثيل”، يتألَّف من ثلاثة أجزاء، صَدر منه جُزءانِ تِباعا عام 2014، والثالث صَدَر سنة 2015.

كما لم يَفُته الالتفات لفنّ السيرة الذاتية؛ حيثُ أصدَر سنة 2018 مُؤلَّفَه السِّيَرِي “سيرتي بــقَـلَمِي”.

لم تكن لتذهب هته الجهود سُدى، بل كُرِّمت وأُكرِمَ صاحِبها العلّامة محمد بلقزيز بجوائز تقديرية وأوسمة ملكية، منها وِسام الرِّضى من الدرجة الـممتازة، عِرفاناً بدوره الخلّاق في تنمية علوم اللغة العربية، وجائزة محمد السادس للفكر والدّراسات الإسلامية سنة 2008، تنويهاً بتجربته الأكاديمية الـنوعية.

واستَحْسَن أعمالَه ونوّه بها نُخبة من مُثقّفي المغرب، وأعضاء أكاديمية المملكة المغربية _ والتي طالما شاركَ في بعض أشغالها بأبحاث ودراسات علمية مُختَصَّة وذاتِ إضافات _ ، والمجلس العلمي الأعلى، وسُفراء وعلماء مغاربة داخل أرض الوطن وخارِجه، وباحثين وعلماء مُبرَّزين في اللغة العربية عَربيا ومَغارِبيا وعلى مُستوى العالم الإسلامي.

فحفظ الله الـعلّامة الـمجتهد، والبحّاثة الـمدقِّق محمد بن عبد الجليل بلقزيز منارةً تُضيء سماءَ علوم اللغة، ومَدْرسةً في التأصيل والتأثيل وخدمة العربية، وأبقاهُ مُتَدفِّقاً عِلماً لما فيه ارتقاء لغتنا الوطنية، ونقول له بلسان الشاعر المغربي الراحل محمد الحلوي:

وابْــقَ للضّادِ والعَروبة حِـصْناً ** ومَـــلاذاً مِن عادِيـاتِ الزَّمـــانِ

مصادر ومراجع:

* (متفكر) أحمد: “علماء جامعة ابن يوسف في القرن العشرين”، الطبعة الثالثة، عن مؤسسة آفاق، 2018، نسخة ورقية.
* مواقع إلكترونية وفيديوهات لندوات تكريمية للكاتب.
* الموسوعة الحرة “ويكيبيديا”.

* إعداد: عـدنان بـن صالح/ باحث بسلك الدكتوراه، مختبر “شمال المغرب وعلاقاته بحضارات الحوض المتوسِّطي”، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة عبد المالك السعدي – تطوان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *