وجهة نظر

رحيق الكلام : التداوي بالرنات

‘‘الموسيقى غذاء الروح’’ دندنات خاصة على الأقل تنقل لعوالم الراحة و الهدوء.. أي مهدئات هذه التي تريح الأعصاب؟ أي نبض هذا الذي تصغي إليه العقول فتذوب فيه حركة الإنسان بهدوء ينجلي معه العنف، تشحن الروح و الوجدان.. !؟

أشهد أن المقاطع التي تفاعلنا معها تبقى وشمًا نتحسسه تفاجئنا حين نسمعها، الإبداع منتوج انساني و إليه يعود يهذبه يخاطب الإنسان فيه، أشهد أن للموسيقى العذبة للكلمات الجميلة سلطة تهذيب..
لا أدري كيف انتابني هذا الإحساس و أنا أستمع بدهشة في هذه الليلة إلى إذاعة طنجة لما انسابت عبره موسيقى لها عندي ذكريات جميلة.. انسحبت إليها ميزتها لأنها موشومة على هذا الكيان..

عادت بي الذكرى لسنوات إلى الوراء إلى أيام الجامعة، كنا مدمنين سماع كاظم الساهر ينقل إحساس الشاعر نزار قباني..‘‘أشهد ألا امرأة أتقنت اللعبة إلا أنت’’ شعر نزار المغنى بطريقة كاظم الساهر، الأغاني التي عرفت انتشارا واسعا في تلك الفترة..

كان الشاعر نزار قباني لازال على قيد الحياة، لا ننكر أن كاظم الساهر يغني للحب كثيرا لكنه يغني بالكثير من الصدق رسالة شاعر سبقه إليه.. المتأمل لتلك الإبداعات يقتنع أنها تدعو إلى الحب والسلام و الحرية..

لا أدري كيف أقولها، فالذي يقارن ذلك الإبداع بما تموج به الساحة الفنية الحالية يدرك ما آل إليه الإنتاج و هو سائد يزيد جرعات تسطيح الوعي و خدش الحياء.. و هلم و صلات تنزاح عن الفن تغلف العروض بالاستهلاك و الإثارة و العروض الجسمانية الإيحائية..

أي لغة هذه التي لا تخاطب اللب تنسحب للقشور و الاستهلاك..؟ أي إنتاج ميكانيكي هذا الغارق في التطبيقات الرقمية و القرصنة المعولمة..؟ العلامة ‘‘لامارك’’ مرتبه بإغراء.. قليل من الإبداع و الكثير من لغة الجسد.. كلمات ساقطة مبتذلة و كثير من الإسفاف..

و أنا أكتب هذه الكلمات من وحي تلك اللحظة الجميلة.. كاظم الساهر يصدح بالحب في زمن الليبرالية المتوحشة التي لا تعترف بالعواطف، زمن الموت زمن القتل و الدم.. الوباء و كلنا في الصفوف الأمامية أقول ما أحوجنا إلى وصفة ‘‘غذاء الروح’’ و لا دواء غير الموسيقى و دندنات ترنيمات مقاطع تقاسيم و كلمات.. من يحرضنا على الحياة الجميلة من يحبب لنا الجمال في زمن القبح..

وسط هذا الزخم، خطر على البال أستاذ درسنا مادة اللغة العربية في السنة الثانية بالجامعة بمكناس، كان مدرس حصص الرواية هذا، يكلمنا كثيرا عن الأغنية التربوية ودورها الكبير في تهذيب النفوس وصقل شخصية المتعلم وتربية الذوق لدى الشباب..

من يدعو إلى هذا السبيل، ‘‘الأغنية التربوية’’ للأسف هذا النوع من الموسيقى نفتقده في مؤسساتنا التعليمية التي تحولت إلى فضاءات يعمها الفراغ القاتل، تكتفي باليومي من دروس المقررات و تراكم الحصص.. نثقل الجسد و لا نغذي الروح، تغيب الأنشطة الموازية ذات الخصوصية الحقيقية المسماة ‘‘الأغنية التربوية’’ لا يعني إثقال التلميذ بدروس نظرية الموسيقى.. أي مآل سنؤول إليه؟ المآل تحصيل حاصل و نأتي و نقول من أين يأتي النشاز و كلمات أغاني العجب العجاب و تأمل أغاني الطوندونس اليوم: “الا كنتي شيفور غير قلبنا” .. الخ و نأتي و نقول من أين جاء هذا العنف نتساءل حول الذوق المر و الذي لا مرجعية له في لغتنا المدرسية و شعرها و زجلها و قصصها… الموسيقى الراقية حد السماء و الكلمات الساقطة حد الحضيض.. قطيعة بين مهندسي الموسيقى و مؤلفي الكلمات ينتج الشتات و المحتوى الفج..

لا مبرر لنا عندما نأتي لنقول في الأخير من أين جاء هذا العنف والعنف المضاد الذي ابتليت به مؤسساتنا التربوية وشوارعنا وكل الفضاءات العامة؟ الكلمات لها سحر خاص عندما تنبثق من الواقع بعيدا عن التطبيقات و الآلات، دندنة الإنسان لها وقع و تهذيب و نسوق نموذج كلمات ‘‘في بلادي ظلموني’’ من البساطة إلى العالمية، لأنها بنت الواقع فصادقت عليها الجماهير..

هكذا كلما تأملت في موضوع الأغنية التربوية و الكلمات التربوية.. أجدني أكرر مع أستاذي الجامعي، الموسيقى هي الحل، وقصدي الموسيقى الهادفة التي تخاطب الروح و العقل و الوجدان وليس الغرائز….

فما أحوجنا اليوم إلى الموسيقى التي تجمع بين النبض و التعبير، رنات تلقفها الروح و تترسب في الوجدان يسترجعها الكيان دندنات تروِّح عن الإنسان في خلوته.. ما أحوجنا للموسيقى كعلاج للتداوي بالرنات إذا صح التعبير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *