وجهة نظر

من أجل السلطة.. الحداثويون العرب مستعدون للتحالف مع الشيطان

“كل كتابة في السياسة هي كتابة سياسية متحيزة ، ونحن متحيزون للديمقراطية”: محمد عابد الجابري

في سياق المشهد السياسي العربي الدرامي – كوميدي ، و في إطار الصمت المطلق لأحزاب عربية “تقدمية يسارية – ليبيرالية” إلى حد التواطئ أمام الإجرام الدموي الصادر عن المشير خليفة حفتر ؛ المدعوم روسياً و فرنسيا و إماراتيا و سعوديا و مصريا ، و في مضمار الانتكاسة العسكرية للانقلابيين في ليبيا الشقيقة ، استيقظ هؤلاء التقدميون جدا ! للتنديد بالتدخل الأجنبي ، و يقصدون التدخل التركي تحديدا في “الشؤون الليبية” . و نحن إذ نرفض رفضا قاطعا أي تدخل أجنبي في قضايانا العربية ، فإننا نقصد بذلك كل “التدخلات جملة و تفصيلا” . و لأن الوضع العربي يأبى إلا الثبات و ربما العودة إلى الوراء ، فقد سبق لي أن كتبت مقالا في هذا المنحى يعود إلى أربع سنوات ، فضلت أن أعيد نشره دون تغيير يذكر . فما أشبه الليلة بالبارحة !

يصدر صاحب هذه المقالة عن وعي إنساني منفتح ، يؤمن بقيم التعددية و الاختلاف و النسبية إيمانا وجوديا ، و ينطلق قبل و بعد و أثناء مساءلة مفردات الكون و الإنسان و المجتمع ، من مسلمات تستحضر جوهريا المبادئ و المواثيق و القوانين المتعارف عليها دوليا ، كل ذلك في انسجام هيكلي مع عمق الرسالات الدينية التي جاءت مبتدأ و خبرا ، خدمة للإنسان و صونا لكينونته . و لعل السبب الرئيسي وراء هذه ” الإضاءة ” هو ما تمور به الساحة الإعلامية و الثقافية العربية من ” نقاش ” حول راهن و مآل الوضع السياسي و الثقافي و السوسيو اقتصادي بعد حلم عربي مجهض ! فمنذ حصول معظم الأقطار العربية على ” الاستقلال ” و الشعوب تعيش بين مطرقة الاستبداد و سندان الفساد ، و بعد أن تدفقت مياه غزيرة تحت جسر ” الأمة العربية ” المثخنة بالجراح و الهزائم العسكرية و الحضارية ، و بعد أن وصل اليأس مبلغه ، و تساءل المثقفون و الشعراء عن ( متى يعلنون موت العرب ) زلزلت الأرض العربية زلزالها ، و انطلق الحراك الشبابي منذ 2011 و بشكل غير مسبوق ، يغزو ساحات التحرير و يملأ شوارع التغيير ، مناديا بكل ما يملك من قوة دفينة بإسقاط الفساد و الاستبداد ، و تجسيد واقع عربي آخر يحتفي بقيم الكرامة و المساواة و الحرية و العدالة ..

و لئن كانت تضحيات الشعوب العربية الجسيمة تمكنت من إسقاط ” زعماء ” القهر و الجبروت ، و ” الانتقال ” إلى أجرأة الخطوات الأولى من الحلم الديمقراطي و تنظيم انتخابات رئاسية و برلمانية ، و التوافق على صياغة دساتير جديدة ، فإن الدولة العميقة ( فلول الأنظمة منتهية الصلاحية من الجيش و الإعلام و شبكة المصالح الحيوية .. ) في مختلف أقطار الربيع العربي ، صارعت حتى الرمق الأخير من أجل الانقلاب على الإرادة الشعبية ، و الدوس على الشرعية الدستورية ، مباشرة في مصر و غير مباشرة في ” دول ” أخرى ، لا لشيء إلا لأن صناديق الاستحقاقات جاءت بما لا تشتهيه سفن القوى الديمقراطية ” الوطنية ” ، من قوميين و اشتراكيين و لبيراليين .. حيث اختارت الشعوب بحرية ، التيارات الإسلامية المعتدلة رغم أننا لسنا من أنصارها و لا من مؤيديها ، كرِهانٍ على الانعتاق من التخلف و العمل على بناء نسق سياسي قد يكون طوق نجاة نحو ضفة الأمان .

و عوض أن تعترف بالواقع الجديد ، و تساهم بحماس في الانتقال الديمقراطي السلس ، فضلت تيارات “الحداثة و الليبرالية” أن تقف إلى جانب مغتصبي الديمقراطية ، و تقلب الطاولة على إرادة الشعوب ، و هي التي ملأت الدنيا و شغلت الناس ، عقودا من السنين تفسر بإسهاب فضائل التجارب الديمقراطية العالمية ، و أدوارها في الرقي بالدول في مجالات التنمية الشاملة ، و عوض أن تترك خصمها السياسي ( الوافد الجديد ) يمارس السلطة و تراقبته و تحاسبته أثناء و بعد انتهاء عهدته القانونية ، و تدفع قدما بتجديد النخب ، و تضخ دماء جديدة في الجسد السياسي العربي المنهك و الفاقد للمشروعية الشعبية .. أبت إلا أن تصعد الجبل و تعود بنا القهقرى إلى الزمن غير الجميل ! معربة عن رفضها الخرافي لقاعدة التداول السلمي على السلطة ، في إطار منافسة سياسية حرة و نزيهة .

إن الحداثة التي اطلعنا عليها بهدوء و تمعن في أدبيات الفكر السياسي و الفلسفي العالمي ، موقف إنساني نبيل من الوجود و الإنسان ، و رسالة في اتجاه التجديد و التغيير نحو الأرقى ، و تطوير الآليات الذهنية و الشعورية ، من أجل الذود عن حرمة هذا الإنسان ، في مناخ حافل بأبجديات ثقافة الاختلاف و التنوع و التسامح و الاعتراف بالآخر ، بعيدا عن نزعات الإقصاء و الاستئصال ، و التحريض ضد القيم المجتمعية و الحضارية للوطن و الأمة . و يبدو أن غالبية الحداثيين العرب ، نحن لا نعمم ، و في غمرة الهجوم غير الأخلاقي على خصمها السياسي المتمثل في الإسلام السياسي المعتدل الذي استمد قوته من ضعف الأحزاب الأخرى ، و خوفا من انهزامها المأساوي أمام الهياكل السياسية الجديدة ، انقلبت من حيث تدري أو لا تدري إلى ( لا حداثة ) شعارها الاستبدادي : أنا أو لا أحد ! و عزاؤنا في بعض الأصوات الحداثية الشريفة ، في إعادة اللحمة للفصائل العربية العلمانية و الإسلامية ، و المؤمنة بالديمقراطية ، كاختيار استراتيجي محوري ، من أجل بلورة ممكنات عربية أرقى و أفيد !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *