وجهة نظر

التفاتة الملك محمد السادس نحو إفريقيا .. مرآة عاكسة لمغرب التضامن

في الوقت الذي أغلقت فيه الدول حدودها الوطنية، للتصدي للفيروس التاجي، بعيدا عن مفردات التعاون والتعاضد وتبــادل الخبرات والتجارب في مجال تدبير الوباء، وفي الوقت الذي اشتعلت فيه حرب الكمامات والمستلزمات الطبية بين الدول الكبـرى، لم تتخل المملكة عن إفريقيا في زمن الجائحة، ولم يتخل جلالة الملك محمد السادس عن الأفارقة في لحظة خاصة واستثنائيـة، رفعت فيها معظم البلدان شعار “أنا ومن بعـدي الطوفان”، فبادر مبكـرا بتاريخ 13 من شهر أبريل المنصرم، إلى إطــلاق مبادرة لرؤسـاء الدول الإفريقية لإرسـاء إطار عملياتي، بهـدف مواكبة البلدان الإفريقيـة في مختلف مراحل تدبيـر جائحة “كورونا”، وهي مبادرة رائدة عاكسة ليس فقط، لأبعاد تضامنية وإنسانية، بل ولمقاربة توقعية لجائحـة عالمية عابرة لحدود الدول والقارات، محاصرتها وتدبيـر تداعياتها الجانبية، يقتضي رؤيـة تضامنيـة بين البلدان الإفريقية، تتيـح تبادل الخبرات والتجارب ووسائل العمـل، حرصا على الأمن الصحي الإفريقي الذي لا يمكن فصله عن مفهـوم الأمن بأبعاده ومستوياته المختلفة.

وهي مبادرة تم تفعيلها وترجمتها على أرض الواقــع، بإصدار جلالته – قبل أيام -، تعليمات بإرسال مساعدات طبية إلى مجموعة من الدول الإفريقيـة (15 دولة) لدعم جهودها في الحرب ضد جائحـة “كورونا”، تضمنت شحنات مهمة من المنتجات والمستلزمات الطبية الوقائية والاحترازيـة، عبـارة عن كمامات (حوالي ثمانية ملايين) وأقنعة واقيـة (900 ألف) وسترات طبية (60 ألف) وأغطية للرأس (600 ألف) ومطهرات كحولية (30 ألف لتر) وأدويـة مختلفة عبارة عن “الكلوروكيــن” (75 ألف علبة) و ”الأزيتروميسيـن” (15 ألف علبة)، وهي منتجات ومستلزمات طبية من “صنع مغربي” خالص، أشرفت عليها مقاولات مغربية، وفق معايير منظمة الصحة العالمية، حاملة رسالة مفتوحة، مفادها أن إفريقيا بإمكانها أن تنهـض وترتقي في سلم التنمية البشريـة، بالاعتماد على طاقاتها وكفاءاتها والاستثمار الأمثل لقدراتها وإمكانياتها الذاتيــة، والرهـان على قيم التعاون والتعاضد والتضامن لمواجهة التحديات الآنية والمستقبليـة.

مساعدات مهمة، تتجاوز البعد التضامني الظرفي المرتبط بالجائحـة الكورونية، لا يمكن فهم أبعادها ودلالاتها الإنسانية، إلا في ظل ما يربط المملكة بإفريقيا من علاقات إنسانية وثقافية وروحية وتجارية ضاربة في عمق التاريخ، و من قيم الأخوة والصداقة والتعاون والتشارك والتضامن، ومن التزام ومواقف إنسانيـة ثابتـة حيال إفريقيا، تستنـد إلى استراتيجية يشكل “التضامن ” محورها الأســاس، في إطار نموذج للتعــاون المبدع والخلاق (جنوب-جنوب) يضـع التنمية بأبعادها المختلفة في صلب اهتماماتـه، عبـر تسخير الكفاءات والخبرات والتجارب المغربية المتاحة، لفائدة إفريقيـا، في إطار شراكات تضامنية متوازنة مبنية على منطـق “رابح – رابح”، وهي رؤيـة بالأفعال لا بالأقوال، تنضـاف إلى العشرات من الزيارات الملكية لعدد من البلدان الإفريقية على امتداد العقدين الأخيرين، والتي لم تثمر فقط، اتفاقيات شراكة وتعاون ثنائيـة ومتعددة الأطـراف، بـل وجعلت من المغرب، بلدا محوريا ورائدا وفاعـلا اقتصاديا في إفريقيا، يمشي قدما نحو المستقبل بثقة وثبـات، يتحمـل مسؤوليات الانتماء للحضن الإفريقـي، من أجل الإسهام في بنـاء إفريقيا جديـدة متضامنة ومتعاونة، لما راكمه من تجارب وخبرات اقتصادية وتنمويـة وتدبيريـة، لا يتـردد في تسخيرها من أجل تنميـة إفريقيا ورخـاء مواطنيها، وإذا كان جلالة الملك محمد السادس، قد جعل من التضامن محور علاقاته مـع أشقائه وأصدقائه من الزعمـاء الأفارقـة، ومن التنميـة عصب العلاقات المغربية الإفريقيـة، فهي رؤيـة متبصرة، تدرك كل الإدراك، أن التضامن يعد مفتاح التنميـة بإفريقيا، والتنميـة مفتـاح الأمن والاستقـرار، وإذا كان الدستور المغربي قد نص بصريح العبارة على البعد الإفريقي للمغرب، فهـذا الاختيـار ما هو إلا مرآة عاكسة لتاريـخ طويل من العلاقات الإنسانية والوجدانية والثقافية والروحية مع بلدان إفريقيا جنوب الصحراء، تجعل “المغرب بدون إفريقيا” كالشجرة بدون جدور، و “من إفريقيا بدون المغرب” كالجدور بدون أغصان وأوراق.

الهم التضامني لجلالة الملك، بالقدر ما حضر في العمق الإفريقي، بالقدر ما حضرت مشاهده بقوة في المسرح المغربي، عبر حزمة من القرارات الرائـدة التي قوت اللحمة الوطنية وأطلقت العنان لتعبئة جماعية متعددة الزوايا انخرطت فيها كل مكونات المجتمع المغربي من حكومة ومؤسسات عامة وخاصة ومجتمع مدني وأفراد، مما ساعد على التحكم في الوضعية الوبائية ومكن من تدبير ما أفرزته الأزمة الصحية من تداعيات جانبية خاصة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، وفي هذا الصدد، فإذا كان من الصعب، الإحاطة بما صدر عن المؤسسة الملكية خلال هذه الظرفية الخاصة والاستثنائية من قرارات تضامنية متعددة الأبعاد، في مقال يقتضي الامتثال لسلطة الإيجاز، فهذا لا يمنع من توجيه البوصلة نحو بعض تجليات التدبيـر الملكي للجائحة.

وفي هذا الصدد، فالمنطلق لن يكون إلا عبر القرار الملكي الرائد بإحداث “صندوق تدبير جائحة كورونا” الذي شكل إبداعا مغربيا خالصا، كان لابد من الرهان عليه لتدبير الجائحة، لاعتبارين اثنين، أولهما: ما يتملكه الشعب المغربي من قيم التعاضد والتضامن خاصة في اللحظات الحرجة، وثانيهما: الإدراك أن إمكانيات البلد “محدودة” (اقتصاديا، اجتماعيا، صحيا)، ولا يمكن الوقوف في وجه الجائحة العنيدة، إلا بالتعبئة الجماعية والوحدة الوطنية واستثمار القدرات الذاتية، وبفضل هذا الصندوق التضامني، أمكن الرفع من قدرات المنظومة الصحية الوطنية وتقديم الدعم المادي للمقاولات والفئات الاجتماعية المتضررة من هذه الأزمة الفجائية.

وبرؤية استباقية وتوقعية، وحرصا منه على دعم قــدرات المنظومة الصحية الوطنية وتأهيلها تحسبا لأي ارتفاع محتمل في عدد الإصابات المؤكدة، بادر جلالته، إلى إعطاء تعليماته السامية بصفتـه القائد الأعلى ورئيس أركان الحرب العامة للقوات المسلحة الملكية، بتكليف الطب العسكري – بشكل مشترك مع نظيـره المدني – بمهام مكافحة وبـاء كورونا، كما بادر إلى إعطاء تعليماته السامية لإقامة مستشفيات ميدانيـة في جميـع جهات المملكة تحت إشـراف المؤسسة العسكرية، وهذه “التوليفة” بين الطب المدني والطب العسكري، وحدت الطاقات والكفاءات والقدرات، وأذابت جليد المخاوف حول واقع المنظومة الصحية المدنية ومدى قـدرتها على التصـدي لجائحة عالمية أربكت وأحرجت الكثير من المنظومات الصحية في عدد من الدول المتقدمة، ويضاف إلى ذلك، ما صدر عن جلالته من قرار – بصفته الناظر الأعلى – قضى بإعفاء مكتري المحلات الحبسيـة المخصصة للتجارة والحرف والمهن والخدمات والسكن – ماعدا الموظفين – من أداء الواجبات الكرائيـة، طيلة مـدة الحجر الصحي، إسهاما منه في تخفيف الضـرر عن هذه الفئات الاجتماعية، دون إغفال التعليمات الملكية السامية ذات الصلة بتجويد مستوى التغذية المقدمة إلى الأطر الطبية والممرضين وحتى المرضى، بعد توالي الشكايات بخصوص نوعية الخدمات المقدمة على المستوى الغذائي، وبالإفراج على عدد مهم من السجناء، لتخفيف الضغط على السجون حرصا على الصحة العامة للساكنة السجنية، في إطار تعزيز ما تم تنزيله من تدابير وقائية واحترازيــة.

حس تضامني ملكي، وازته تعبئة جماعية متعددة الزوايا، حملت توقيع الحكومة بمكوناتها ولجنة اليقظة الاقتصادية والسلطات الصحية والأمنية والإدارية والمجتمع المدني والمقاولات المواطنة والأفراد، بشكل أســس لبيئة محفزة، أطلقت العنان لبروز “الإبــداع المغربي” في زمن الجائحة، سواء تعلق الأمر بمنهجية تدبير الحكومة للأزمة أو انخراط بعض المقاولات في إنتاج الكمامات لتلبية حاجيات السوق الوطني، أو بما تم اعتماده من بوابات وتطبيقات إلكترونية للدعم الاجتماعي والاقتصادي وتتبـع المخالطين، أو بما تم إنتاجه وتصنيعه من منتجات وأجهزة طبية من “صنــع مغربي”، أمنت الاحتياجات الوطنية في ظرفية عالمية اشتدت فيها حرارة الإقبال على الكمامات الواقية والأقنعة والسترات الطبية والمطهرات الكحولية وغيرها، وهي تجارب وخبرات نالت مستويات من التقدير والإعجاب في الداخل كما في الخارج، يمكن للمغرب تسخيرها واستثمارها في دعم مجهودات مجموعة من الدول الإفريقية في الحرب ضد وباء “كورونا”، خاصة الدول التي تعاني من ضعف ومحدودية في القدرات الاقتصادية والصحية، ونـرى أن المساعدات التضامنية المقدمة لعدد من الدول الإفريقية، ما هي إلا مبادرة أولى من شأنها أن تطلق العنان لمبادرات أخرى في إطار عملياتي مغربي – إفريقي، سيتيح فرصا للمغرب لمساعدة إفريقيا في تدبير طقوس الجائحة وما تتطلبـه من تدخلات آنيـة وقائيا واحترازيا، ومن تحديات مستقبلية، تفرض الارتقاء بالمنظومات الصحية الإفريقية، والاستثمار الأمثل للإمكانيات والقدرات الذاتية المتاحة من أجل تحقيق النهوض والإقــلاع، وهي تحديات لا يمكن كسبها أو إدراكها، إلا في ظل نموذج مغربي رائـد إفريقيا، يمكن التعويل عليه للإسهام في بناء أسس وقواعد “إفريقيا” موحدة آمنة ومستقرة، تبني مستقبلها بسواعد أبنائها، وفي ظل ملك متضامن، علاقته بإفريقيا، لا يمكن تصورها إلا داخل مفردات التضامن والتعاون والأخوة والصداقة والأمن والسلام، والمواقف الثابتة والقيم الإنسانية المشتركـة والتنمية البشرية الشاملـة… فهنيئا لإفريقيا بمغـرب يقــوي لدى الأفارقـة، الإحسـاس في إدراك أحلام “الوحدة” و”الأمن” و”السلام” و”التضامن” و”النماء” … بعيدا عن القلاقل والدسائــس والنعرات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *