وجهة نظر

“البؤرة” التي زحزحت ” قارة “حكومة العثماني

على امتداد يوميات جائحة “كورونا”، اعتدنا أن نتـتبــع نشـرة “كورونـا”، التي تضعنا كل يوم في صلـب الحصيلة اليوميـة من الإصابات المؤكدة والوفيات وحالات التعافي، وما تحمله من قراءة لبعض الأرقام والمعطيات، وألفنـا أيضا، بشكل تدريجي بعض العبارات التي باتت مألوفـة، من قبيل “الإصابات المؤكدة” و”الحالات المستبعدة” و”حالات التعافي” و”معدل الانتشار” وكذا “البــؤر” الصناعيـة والمهنية والعائليـة وغيرهـا، وهذا القاموس الصحي، تعزز قبل أيـام بعبارة جديـدة، ويتعلق الأمر بالبــؤرة “شبه العائليـة” التي كانت المدينة الحمراء مسرحا لها، وفي هذا الصدد، قد نتفهـم “بـؤرة صناعية ” مرتبطة بظهور حالات مؤكـدة في بعض الوحدات الصناعية، وقد نتفهم “بؤرة عائلية” مرتبطـة بظهور حالات إصابات مؤكـدة في أوساط بعــض العائلات، لكن غير المفهـوم هو عبارة “البـــؤرة غير العائلية” التي جاءت على لسان السيد رئيس الحكومة سعد الدين العثماني، وهو يستعرض قبل أيام، أمام مجلس النواب، خارطة طريق مخطط التخفيــف الذين قسم المغاربة بين منطقتي تخفيف، وهي العبارة التي أثارت موجة من الجدل والسخرية والتهكم والاستهزاء المتعدد الزوايا، بشكل دفع البعض إلى مطالبة السيد رئيس الحكومة بتسمية الأسماء بمسمياتها وبدون حرج أو حياء، والبعض الآخر، اعتبر “التوصيف” طريقة ذكيـة ومسؤولة، وبعيدة كل البعد عن الحرج أو الإخلال بالحياء.

لكن، وفي جميع الحالات، لا يمكن إلقاء اللـوم على الرجل وتحميله مسؤولية سلوك “متهور” في ظرفية خاصة واستثنائية، تقتضي التعبئـة الجماعية للتصدي للعدو المشترك (الفيروس التاجي)، وذلك لاعتبارات ثلاثة، أولها: وضوح “القصد” أو “حقيقة البــؤرة ” التي بات يعرفها الداني والقاصي، ثانيها: لحساسية “البـؤرة” وتداعياتها المحتملة على سمعة وصــورة البلد، وثالثها: لانحطاط ووقاحة التصرف أو التصرفات التي تسببت في هذه البـؤرة المثيرة للجدل، والتي كان من نتائجها، الرفع من حصيلة الإصابات المؤكدة، وإرباك الحكومة التي كانت تتأهب للإعــلان عن خطة التخفيف ومعالم خارطة طريق ما بعد كورونا، وفي هذا الصدد، نــرى أن النقاش، كان من المفروض أن يتجاوز حدود التوصيف (بؤرة شبع عائلية) ما دام القصد واضح وضوح الشمــس، وينصب على التصرف أو السلوك الذي أنتج “البؤرة الضاحكة” التي لم تثــر الجدل فحسب، بل و “خلعات” الحكومة، وفرضت عليها الجلوس على الطاولة، لإعادة ترتيب الأوراق وإعادة النظـر، فيما تم وضعه من خطط تحدد مستقبل حالة الطوارئ وما يرتبط بها من حجر صحي، ومن تحريك لعجلة الحياة الاقتصادية والاجتماعية.

وهو تصرف أو سلوك، لا يمكن توصيفه إلا بالعبث والتهور وانعدام المسؤولية والاستخفاف، فما حصل ليس هو الأول ولن يكون قطعا الأخير في مجتمع لم ينفك بعد، من مخالب الارتباك والتيهان والعبث والطيش، لكن، أن يحدث في هذه الظرفيــة الخاصة والاستثنائية، التي تفرض التعبئة الجماعية ووحدة الصف وارتفاع جرعات المسؤولية ومنسوب المواطنة الحقة، فهذا يعـد فعـلا “غير مسؤول” لا يمكن إلا رفضـه وشجبـه وإدانتـه، فمن غير المقبول، أن ننسـف جهود أشخاص فرضت عليهم وظائفهم ومهنهم، التواجد في الجبهات الأمامية في الحرب ضد كورونا، وعلى رأسهم الأطباء والممرضين والتقنييـن والمسعفين وعمال النظافة والتعقيم والسلطات الأمنية والإدارية، ونهدم ما تحقق من مكاسب ومن إجمــاع وطني، بسلـــوك على درجة كبيـرة من التهور والتسـيب، قد يدخـلنا جميعـا إلى دائرة الشك واللخبطة والارتبــاك، في لحظة استثنائية، لا تقبل بالمترددين والمرتبكين.

“بؤرة” المدينة الحمراء، ما هي إلا مـرآة عاكسة لما بات يعتري ممارساتنا من مشاهد الانحــلال القيمي والأخلاقي والنفــاق الاجتماعي والعبـث السياسـي، ومن حسنات المقولة الشهيرة للسيد العثماني (بؤرة شبه عائلية)، أنها منحتنا مساحة، لنوجـه البوصلة نحو “بــؤر” أخـرى تعيــــش بين ظهرانينا في صمت عصي على الفهم وتعايــش خلاق عصي على الإدراك، في السياسة والاقتصاد والتعليم والمجتمع والثقافة والرياضة والفن والإعــلام وغيرها، وهي بــؤر، وإن اختلفت مستوياتها وظروفها وأمكنتها، فهــي تتقاطع جميعها، في مفــردات العبث والريع والفساد والارتبـاك والمحسوبية والزبونية والوصوليـة والاستهتـار والعناد والصدام والأنانيـة المفرطـة، وهـي بــؤر، لا يمكن تجاوزها أو نكرانها أو تجاهلها، لأن درجـة تأثيرها أشـد من البؤرة “شبه العائلية”، لأنها تضــع “العصا فالرويضة” أمام عجلـة التنميـة والارتقـاء، وتحرمنا من فــرص النهوض والازدهــار، وتفرض علينا أن نبقـى رهائن في المقاعد الخلفيــة لبــراق التنميـة البشريــة، وتحكـم على الوطـن بالبقــاء أسيـر السياسات المرتبكة المكرسة لمجالات تتقاسم مشاهد البــؤس والضعف والهـوان وانعدام الكرامة والعدالة الاجتماعيـة، خاصة في هوامش المدن الكبرى والمجالات القرويـة والمناطق النائيـة.

وعليـه، فــإذا كان هاجـس مرحلة “كورونا” هو التحكم في الوضعية الوبائيــة والتصـدي للبؤر (صناعية، تجارية، عائلية، “شبه عائليـة” …)، فـإن هواجـس ما بعدها، لا بد أن ترتبـط بالبـــؤر “المعطلة” لعجلـة التنميـــة والنهوض، والمحركة للإحساس بالظلم وانعدام العدالة والمساواة والإنصـاف، وهي مناسبـة أخرى، لنوجه البوصلة نحـو “اللجنة الخاصة بالنمـــوذج التنموي”، التي ندعـوها للقيام بحملة تمشيط، بحثـا عن “البــؤر النائمة” التي تعيـق الوطن، وتمنعــه من فـــرص التحرك والنهوض والازدهـــار، وفي هذا الصدد، يصعب الرهان على أي “نمــوذج تنموي” إذا لم يتـم استئصال “شوكـة البــؤر” والقطع بشكل لا رجعـة فيه، مع ممارسات العبث وأخواتـه وفرض قيم العدالة والمساواة واحتــرام سلطة القانــون، ونختم كما بدأنا بالبؤرة “شبـه العائلية”، لنؤكـد أنها “دالة” علينا وعاكسة لتناقضاتنا المجتمعية، وهنا نستحضـر قول الشاعر : “تلك آثـارنا تـــدل علينا ××× فانظــروا بعدنا إلـى الآثــار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *