وجهة نظر

بين إعلام الأزمة وأزمة الإعلام: إشكالات المواكبة

توطئة:

يعيش الإعلام اليوم، بفعل الاستحداثات التكنولوجية الهائلة والتدفق الإلكتروني الغزير، مخاضا كبيرا، ينذر بحدوث قطيعة ابستيمولوجية إعلامية بين إعلام تقليدي منضبط، له ضوابط وقواعد تحكم اشتغاله ويكون مسؤولا أمام القضاء؛ وإعلام منفلت، متحرر من الضوابط، لكنه يستهوي جيلا يعشق الفرجة ويستشعر العالم من خلال الاتصال السمعي البصري. وقد جاءت الأزمة التي خلقتها جائحة كورونا لتختبر قدرة الإعلام الأول على الصمود وإثبات الذات، لأن الأزمة كما تجذب اهتمام وسائل الإعلام، فهي أيضا تجذب اهتمام الرأي العام بوسائل الإعلام؛ فإما أن يُثبت الإعلام التقليدي المنضبط على أنه قادر على التصدي لهكذا أزمات وأنه ما يزال، مهما قيل، لسان حال الفضاء العمومي، المُبَلغ للأحداث والوقائع والمتحكم في زمامها فهما وتأويلا باسم المواطن ونيابة عنه، وأن مصداقيته والتزامه المهني والأخلاقي يجعلانه المحَجّ الأول للجمهور رغم ما يوفره الإعلام الجديد من مزايا تهم السرعة والحرية في التعبير عن الرأي والتفاعلية والحميمية؛ وإما أن يكشف عن تراجعه وانحساره أمام مدّ إعلام إجتماعي ما فتئ يقدم المؤشرات على أنه سيصبح عاجلا أم آجلا اللاعب الرئيس في الفضاء العمومي، لاسيما بعدما تداعت الكثير من الثوابت الإعلامية القديمة، في مقدمتها انحسار مفهوم السيادة الإعلامية التي ارتبطت في السابق برقابة الدولة على الرسائل الإعلامية، وفلترتها قبل وصولها إلى الجمهور.

لا شك أن الجمع بين مفهومي الإعلام والأزمة في توليفة واحدة، من شأنه أن يوحي لنا بأسئلة إشكالية عديدة، لكننا سنقتصر من بينها على السؤالين التاليين؛ ما هي مواصفات إعلام الأزمات؟ وهل كان الإعلام – إعلامنا -في مستوى الأزمة التي أحدتثها جائحة كورونا أم أنه كان في أزمة؟

إعلام الأزمة:

يعد مفهوم الأزمة من المفاهيم التي يكتنفها العموم والإجمال، إن لم يكتنفها الغموض والإبهام، ذلك أن لها استعمالات عديدة ومختلفة، ترغمنا على أن نصطفي واحدا من بينها نراه يخدم إشكالنا، فنقول: الأزمة عادة ما تكون إحدى الظواهر المتفجرة عن مشكلة ما، لكنها تأخذ تدريجيا موقفا حادا شديد الصعوبة، ولذلك تحدد غالبية الدراسات خصائص الأزمة بصفة عامة، في كونها تتميز بالتعقيد والتشابك والتداخل الذي يطال عناصرها وأسبابها، وما تخلفه من آثار اقتصادية واجتماعية ونفسية، على كل من تشملهم، وهي تشكل تهديدا مستمرا للمحيط الذي تنتشر فيه.

وقد اطرد عند الباحثين المختصين بعلم إدارة الأزمات أن يضعوا للأزمة معايير عِدَّة يتم تصنيفها وفقها، يهمنا منها في هذا المقام:

معيار مرحلة التكوين: وهو يرصد المرحلة التي وصلت إليها الأزمة، موضوع الحديث، هل هي في بدايتها، أم في مرحلة النمو، أم في مرحلة النضج، أم في مرحلة الانحسار، أم في مرحلة الاختفاء. وتبعا لهذا المعيار، يبدو أننا عايشنا أزمة كورونا ورافقناها في مختلف أطوارها، من لحظة ميلادها إلى مرحلة انحسارها ونرجو أن نعاين اختفاءها قريبا.

معيار مستوى العمق: ولا جدال أننا نواجه أزمة عميقة جوهرية وبالغة التأثير.

معيار الشمولية: وقد عاينا أن هذه الأزمة ذات طابع شمولي لم تسلم منها إلا دول معدودة ومحدودة لا تتجاوز عدد أصابع اليدين.

والملاحظ خلال الأزمات أن حالة القلق التي تنتاب المواطنين تثير لديهم جملة من الأسئلة، من قبيل: ما الذي حدث؟ ولماذا حدث؟ وما هي الأسباب؟ وما هي التداعيات؟ فتبرز الحاجة إلى الإعلام بشكل مُلح للإجابة عن تساؤلاتهم والتخفيف من قلقهم الذي يزيده الخوف والهلع استفحالا وتعاظما. ولكي تحقق وسائل الإعلام الأدوار المنوطة بها على النحو الأمثل، لابد أن يتسم أداؤها بالمصداقية، وينأى ما استطاع عن العمل وفق الشعار الذي وظفه تشيرشل في الحرب العالمية الثانية والذي كان مضمونه: “المعلومة الصحيحة ثمينة جدا في زمن الأزمة، وتستوجب حمايتها بسور من الأكاذيب”؛ فهذا الشعار القائم على التضليل الإعلامي والتمويه لا يزيد الوضع إلا استفحالا ولن يفضي في اعتقادنا إلا إلى نتائج عكسية. ومن الأهمية بمكان إدراك أن تحقيق المصداقية لدى الجماهير عامة والنخب باختلاف مجالاتها ليس بالأمر السهل، وخاصة خلال الأزمات التى تطول مدتها. كما أن وجود قانون للمعلومات يرتب الحصول عليها وتبادلها، يعد البوابة الرئيسة لتحقيق إعلام يسهم في مواجهة الأزمات، دون تهوين ولا تهويل.

وتبعا لذلك، تحتاج وسائل الإعلام إلى العمل بمنتهى الوضوح والالتزام بعدد من الضوابط التى تحكم دورها فى إدارة الأزمات، ومنها:

الفورية في نقل تفاصيل الأزمة، والتعريف بها وإمداد الجمهور بالحقائق التفصيلية أولا بأول، والعمق والشمول في تغطية جوانبها المختلفة، وضبط النفس والتعامل بموضوعية مع أجهزة الرأي العام، والاعتراف بالأخطاء التى قد تحدث أثناء التغطية، والاعتماد على المصادر الأصيلة. إلى جانب ما يفرضه عنصر المفاجأة الذي تخلقه الأزمة على وسائل الإعلام من ضرورة اتخاذ قرارات سريعة ولكن غير مرتجلة. وهي معادلة صعبة، يتطلب تليينها وضع استراتيجية مدروسة سريعة لكن غير متسرعة؛

على الرغم من أن أسس إدارة الأزمات تشير إلى ضرورة اعتبار حدوث أمثال هذه الأزمات كأمر حتمي يستدعي الاستعداد لها بصفة مستدامة، سواء بأخذ العبرة من التاريخ أو حساب الاحتمالات بناء على الواقع، إما لتجنب حدوثها أو على الأقل لإبطائها أو التقليل من آثارها. وعندما تكون الأزمة المتوقعة عامة وعالمية، يتعاظم دور الإعلام في القيام بأدواره الإخبارية والتعليمية والإقناعية ضمن السيرورة العادية للحياة؛ الأمر الذي يساعد على احتواء أية أزمة قادمة. ولذلك فقد صارت عملية إدارة الأزمات إعلاميا تخصصا علميا له قواعده ونظرياته وأسسه وآلياته واستراتيجيته، تهتم به المؤسسات التعليمية الأكاديمية والبحثية والمؤسسات الإعلامية والسياسية والدبلوماسية، كما حظي إعلام الأزمات، ويصطلح عليه أيضا بـ”إعلام المواجهة”، باهتمام القيادة العليا فى أغلب دول العالم. وصرنا نلحظ إعلاما متخصصا لديه وسائل تحضيرية خاصة بكل نوع من أنواع الأزمات الممكنة، وبات هناك إعلاميون مدربون على إدارة هذه الأزمة ميدانيا أو بغرفة الأزمات. وهذا إعلام حيوي متخصص باعطاء المعلومة بصورة فنية تقنية ويقلل من فرص التأويلات والتخمينات بين المواطنين ويحمل إجابات شافية عن تساؤلاتهم.

ولذلك يمكننا القول إن إعلام الأزمة بالمواصفات التي ذكرناها، يواكب الأزمة في مراحلها الثلاث، ويَعُدُّ لها العدة وفق خطة مُحْكَمة ومدروسة بعناية:

المرحلة الأولى: مرحلة ما قبل انفجار الأزمة: وفيها ينبغي:

أن يكون في كل مؤسسة إعلامية فريق عمل مؤهل ومتخصص ومتنوع متفرغ كليا أو جزئيا لتتبع الأوضاع والأحداث العالمية، ومسؤولا عن الإدارة الإعلامية للأزمة في مؤسسته، وتقديم التغطية الكاملة والمستمرة للأزمة.

أن يدرس وأن يفهم، وأن يستوعب بشكل شامل وعميق الجوانب المختلفة للأزمة، حتى يتسنى له إبلاغها بسلاسة ووضوح للمتلقي.

أن يحرص على التجديد والابتكار في اختيار الموضوعات، ومعالجتها، وفي أساليب وطرق عرضها وتقديمها.

وأن يتابع التغطيات المحلية والدولية للأزمة، وأن يعايش جمهور وسيلته الإعلامية ويراقب مزاجه وموقفه.

وأن يشبع رغبة جمهوره من المعلومات، حتى لا يترُكَهُ نهبا لهواجسه وتخيلاته المتولدة عن الخوف والتشويش الناتج عن الدفق المعلوماتي المتضارب.

المرحلة الثانية: مرحلة الأزمة: ويجب خلالها أن يحرص الإعلام على:

المواكبة الدائمة والدقيقة للتغير الحاصل في ميدان الأزمة، ورصد وتتبع مواقف الأطراف المختلفة المعنية.

تنويع خطاباته ووسائل تمريرها تبعا لطبيعة الجمهور المستدف.

تهيئة الرأي العام لتقبّل نتائج الأزمة.

المرحلة الثالثة: مرحلة ما بعد الأزمة:

وهي بلا شك تتطلب وجود مسافة زمنية مع الأزمة ليتسنى تقديم تقويم لها بشيء من التمييز والفهم، والحال أن هذه المسافة غائبة الآن، لأن الحدث لم يستكمل كل ملامحه ولم تتجمع كل عناصره، وما قد نعتقد أنه نتائج لا يعدو كونه مقدمات لنتائج لم تتبلور بعد. ومع ذلك بإمكاننا أن نقدم توصيات استشرافية للإعلام بناء على ما تأتى لنا معاينته في مواكبته للجائحة:

عدم التوقف فجأة عن الاهتمام بالأزمة، وعدم ترك الجمهور في فراغ، مع التدرج في تخفيف التغطية الإعلامية للأزمة.

ضرورة التركيز في هذه المرحلة على مراجعة الذات وتقديم الحساب، من أجل استخلاص العبر والدروس من الأزمة، قبل طي ملفها، لأن هذه الدروس تشكل تراكما معرفيا لا غنى عنه لمواجهة أزمات المستقبل قبل أن تنشب وتستفحل.

إننا على وعي بأن الإعلام في البلدان التي لا يمثل فيها الإعلام قوة جبارة، نفوذا واقتصادا وتوجيها، يرتهن بالسياسي ويهتدي بهديه، ولكننا نرى أن على السياسي في مثل هذه الظروف التي تتطلب تلاحما وتعاونا، أن يَقْصُرَ مهمته على تحديد الهدف بالدقة اللازمة، أما طريقة خدمة الهدف إعلاميا، فهي في اعتقادنا مسألة تخص الإعلامي وحده. أما إعلام الأوامر العمياء فهو إعلام لا يفيد المواطن في شيء، لأن الآلة قد تسدّ مسده، ولذلك فالإعلام المنذور لمواجهة الأزمات، ينبغي أن تكون له رؤيته الخاصة واستراتيجته لتنزيلها في إطار الهدف المرسوم.

2- أزمة الإعلام:

أشرنا إلى بعض مواصفات إعلام الأزمة وكيف ينبغي له أن يتعامل مع الأزمة في مختلف مراحلها، لكن المعاينة الفعلية والمتابعة الحتيتة لمواكبة الإعلام لجائحة كورونا قد كشفت لنا عن جملة من الأسباب التي تجعلنا نحكم على علاقة الإعلام بالأزمات بأنها علاقة مأزومة تضعه في موضع اللوم والتقصير، لا سيما في البلدان السائرة في طريق النمو، والمغرب من بينها. وأولى تجليات هذه العلاقة المأزومة، وأهمها، هو غياب إعلام متخصص في الأزمات، مهيأ لهكذا أحداث، ويمتلك من العدة والعتاد ما يكفل له التكيف الإيجابي مع الأزمات التي من هذا القبيل، وكل ما استطعنا معاينته هو أن ثمة إعلاما واحدا فقط، يعمل بصورة عادية في الأوقات العادية، ويعمل بما يشبه “حالة الطوارئ الإعلامية” في حالة الأزمات، أثناء أو بعد حدوثها، أو باعتبارها ظواهر تستوجب التغطية بعد أن تتشكل وتظهر وتستفحل. وتساهم قلة المعرفة بخبايا الأزمة والتسرع في ملاحقة تداعياتها في حصول نوع من التشويش الإعلامي الذي يزيد المواطن حيرة ويرفع من منسوب قلقه بدل أن يقلّله. لاسيما وأن أزمة كورونا لم تكن من نوع الأزمات التي يمكن التستر عليها أو إنكارها، أو كبتها أو تنفيسها أو تحويل مسارها، لأنها ببساطة من الأزمات التي تلقي بظلالها على مختلف مناحي الحياة، ولذلك لم يكن هناك بد من مواجهتها ومجابهتها بحنكة ودربة حتى لا يكثر فيها القيل والقال وتتناسل حولها التفسيرات والتأويلات.

والملاحظ أن أزمة الإعلام، لم تقتصر فقط على عدم كونه إعلاما متخصصا في الأزمات، بل تعدَّتها نحو مظاهر أخرى، يمكن وصفها بأنها نتاج لغياب هذا الإعلام المتخصص، سنقف منها على ثلاثة مظاهر أو جوانب لأهميتها ولبالغ تأثيرها في الأزمة موضوع الحديث:

غياب النظرة الاستباقية أو القدرة على التوقع:

والمقصود بها كما أشرنا سالفا أن إعلامنا لا يملك من الإمكانات المادية واللوجيستية ومن الطاقات البشرية ما يُمَكِّنه من استباق الأزمة والتنبؤ بحدوثها قبل أن تحدث وتستفحل، ولذلك فقد تفاجأ بدوره بالأزمة مثلما تفاجأ بها سائر المواطنين. وهذه النقيصة عانى منها الإعلام الدولي كذلك، فكالت له العديد من الأقلام الكثير من اللوم والعتاب لعدم قدرته على التنبؤ بالوباء واستباقه أو لعدم أخذه على محمل الجد حين كان لا يزال في بداياته، وإلى مثل هذا أشار عالم الاجتماع الإيطالي إدواردو نوفيلي من جامعة روما الثالثة، حيث اتهم كبريات وسائل الإعلام بالتقصير في تأدية مهامها لا سيما تباطئها في العمل في بداية الأزمة، وهي التي عهدناها سباقة إلى كشف المستور وسبر خبايا الموضوعات ومكنونها في عديد القضايا والأحداث، ولذلك كان من المفروض أن يكون لها مجسَّات قوية ومصادر معلومات وبيانات تستطيع من خلالها أن تتنبأ بتطورات الجائحة أو باتجاهاتها وتطورها فور ظهورها في مدينة ووهان الصينية. والواضح أن حدسها قد خذلها هذه المرة، ولربما قد خضعت مكرهة للقرار السياسي الذي له حساباته الخاصة، فكانت النتيجة كارثية دفع ساكنة العالم من البشر فاتورتها غاليا.

غياب الإعلام الصحي:

النقيصة الثانية التي كشفت عن تأزم الإعلام التقليدي في التعاطي مع الأزمات تمثلت في غياب الإعلام الصحي المختص الذي يهيئ البشرية لمواجهة أزمة مثل أزمة جائحة كورونا. ولسنا نقصد بالإعلام الصحي الفعال مجرد أخبار عن اكتشافات دوائية أو نجاحات في اختراع أجهزة طبية أو كمامات، بل نعني به الاشتغال اليومي المستدام في التوعية والتثقيف الصحيين والتربية الصحية. وما تهافُتُ الناس على وسائل التطهير والتنظيف بالصورة التي رأيناها إلا دليل على أنها لا تدخل في مألوف عاداتهم، أو على الأقل ليس بالصورة المكثفة التي أظهرتها جائحة كورونا.

ولذلك يمكننا القول إن الجرعات المتواضعة التي تقدمها وسائل الإعلام المعاصرة، المتعلقة ببعض الجوانب الصحية، لا تتناسب مع أهمية الصحة في حياة الإنسان. ولا تتناسب أيضا مع ما تُوليه من اهتمام للإعلام الرياضي والاقتصادي وغيرهما، في وقت لا يحضر فيه الإعلام الصحي إلا كاستثناء وبصورة خاطفة لا تكاد ترى، والحال أن جائحة كورونا كشفت لنا أن الصحة هي الرهان المجتمعي الأول والأكبر، وإذا ما لحقها تهديد ما، توقف كل شيء، وشُلَّت الحياة تماما. ولذلك ينبغي إعادة النظر في سُلَّم الأولويات الإعلامية، فالصحة هي قَوام الحياة ومنطلق كافة الأنشطة المؤسِّسة للحضارة الإنسانية، لذلك فهي تستحق أن تكون حاضرة في الأجندة الإعلامية ومتغلغلة في كافة أنواع المحتوى الإعلامي.

العجز عن تطويق الإشاعة والحد من استفحالها:

النقيصة الثالثة أو المظهر الثالث من مظاهر أزمة الإعلام، تتمثل في فشله في التصدي للشائعة وتطويقها ومحاصرتها. فالشائعة من حيث التعريف هي “جملة الأحاديث والأقوال والأخبار التي يتناقلها الناس، والقصص التي يروونها دون التتبث من صحتها أو التحقق من صدقها”. وقد شبهها البعض بالكائن الحي في ولادتها وتكوينها؛ فهي بدورها تولد، وتكبر وتشيخ ثم تموت، لكن وجه اختلافها عنه أنها قابلة لأن تبعث من جديد إذا ما وجدت البيئة المناسبة والتربة الخصبة لأن النفس البشرية فيها القابلية لهذا الأمر وفيها الاستعداد إن لم تتهذب بالقدر الكافي؛ ولعل أبرز العوامل التي تسمح بانتعاشها وسريانها هو غموض الحدث أو الظاهرة، والتباس الأسباب المحدثة له أو لها، إلى جانب، طبعا، افتقاد المتلقي للرؤية النقدية الفاحصة. والأكيد أنه في مجتمع تشكل المعلومة داخله عصب الحياة، تغدو الإشاعة فيروسا، لأنها تضرب الجهاز المناعي للضحية، لاسيما ممن لا يتمتعون بقدرة نقدية كبيرة كما أسلفنا.

والحديث عن الإشاعة يقودنا إلى الحديث عن ثورة الأنفوميديا وعن الإعلام الجديد الذي صنعته الثورة الرقمية والذي بقدر ما هو وسيط لنقل الثقافات وتبادل الأفكار وتقويمها، وساحة للتحاور والنقاش، ووسيلة عرض وتسويق إنتاجات المبدعين، وميدان إجراء البحوث والدراسات واتجاهات الرأي، هو أيضا وسيط لنشر الأفكار الخاطئة ووسيلة لنشر الإشاعات والتحريض والتشهير، ولذلك أسباب عديدة في مقدمتها قلبُه للقاعدة التي كان يمشي عليها الإعلام المنضبط؛ فهذا الأخير يعمل، أو هذا ما ينبغي أن يكون، بقاعدة الدقة تسبق السرعة، واليوم مع الإعلام الحديث، أو البديل، انقلبت القاعدة وصارت: السرعة تسبق الدقة، وأصبح رهان وسائل الإعلام الاجتماعية على مفهومي السبق الصحفي والتشويق كركيزتين أساسيتين لجذب أكبر نسبة من المشاهدات، إلى جانب خاصية التفاعلية والانفلات من الضوابط والرقابة، الأمر الذي خلق تحديا كبيرا للإعلام المنضبط، الذي وجد نفسه مجبرا على تغيير طريقة عمله لمجابهة سيل الأخبار التي تتدفق بغزارة دون فحص أو تمحيص، والتي تتحول إلى أداة بلبلة وتشويش كبيرين على نفوس مرتبكة ومفتقدة للوعي النقدي، وهشة سيكولوجيا بفعل حالة الخوف والهلع التي ولَّدتها هذه الجائحة وما أحاط بها من تهويل. وعبتا حاولت وسائل الإعلام أن تتفوق على مدوني ومستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي أو من يُصطلح عليهم بمؤرخي العصر، الذين استغلوا الوفرة المعلوماتية وانخفاظ التكاليف وتحييد الجغرافيا، فشرعوا في تكوين قناعاتهم اﻟﺬاﺗﻴﺔ، ﺳﻮاء عبر ﺗﺒﺎدﻝ آراﺋﻬﻢ أﻭ ﺑﻨﺎء على المحتوى أﻭ المعلوﻣﺎت التي ﻳﺘﻨﺎﻗﻠﻮنها فيما ﺑﻴﻨﻬﻢ، ﺑﺪﻻ ﻣﻦ ﺗﻠﻘﻲ المعلوﻣﺎت من المصادر التقليدية، أو الأخذ بالآراء المتضمنة في وسائل اﻹﻋﻼﻡ المنضبطة. أضف إلى ذلك أن إعلام الشبكات الجديد، اكتسب قلوب مستخدميه بفضل ميزة أصبح يتميز بها عن الإعلام التقليدي، وهي تحقيقه لمختلف شروط القيم الخبرية السبعة (الآنية، والقرب، والأهمية، والشهرة، والتأثير، والتداول، والجدل). بيد أن انفلاته من الضبط وتحرره من أية رقابة قد يجعل ضرره في مثل هذه الأزمات أكبر من نفعه، لكن ذلك لا يشرعن بأية حال لجوء الأنظمة إلى نوع من الرقابة الصارمة على وسائل الإعلام الاجتماعي تشي بنوع من تكميم الأفواه كحال مرسوم القانون 22.20 الذي حاولت الحكومة المغربية فرضه على المغاربة خلال فترة الحجر الصحي. ونحسب أن الخيار الأمثل في مثل هذه الحالات هو التوعية المستمرة للشباب وحملهم على الشعور بالمسؤولية في إطار نوع من الرقابة الذاتية، والإلتزام النابع من داخلهم، فقد ثبت أن الحُدَاءَ يَبْلُغُ مِنَ المَطَايَا بِلُطْفِهِ، مَا لاَ يَبْلُغُهُ السَّوْطُ عَلَى عُنْفِه.

على سبيل الختم:

ختاما نشير إلى أن هدفنا من هذا المقال المقتضب، لم يكن أبدا تبخيس عمل الإعلام أو الحط مما بذلته مختلف الوسائط الإعلامية من مجهودات تستحق الإشادة والتنويه، بل كان القصد أن نلفت انتباهها إلى أن التجارب الواقعية الكبرى، على ما تلحقه من أضرار وتسببه من أوجاع، تكون لها بعض الفوائد في إخطارنا بأنه كان في الإمكان أفضل مما كان. لذلك وحرصا منا على أن تُجَوِّد وسائل الإعلام عملها مستقبلا، وتسد بعض النقائص والثغرات التي وقفنا عليها في تغطيتها لهذه الجائحة، نشير عليها بأن تأخذ العبرة مما فات لتطور ما هو آت، بأن تعيد النظر في فهمها وتعاطيها مع الإعلام الصحي حتى لا تتكرر مثل هذه الجائحة في عصر تدعي فيه البشرية أنها خطت خطوات متقدمة في النمو والتطور بينما يصعب عليها الاستعداد لمخاطر تهددها منذ القدم، ولم تستطع ردّها ولا صدّها ولا حتى مقاومتها كما يجب. فوسائل الإعلام المعاصرة مطالبة اليوم وأكثر من أي وقت مضى بأن تنبه المجتمعات وقياداتها إلى أهمية الإعلام الصحي والفوائد المطلقة التي تأتي من قِبَله، وأن ما ينفق عليه لا يقاس بما قد ينتج عن غيابه أو إهماله، وعليها أيضا أن تفكر في إعلام خاص بتدبير الأزمات وإعداد العُدة لها قبل وأثناء وبعد وقوعها، بدل إعلام يكتفي بمتابعتها ومواكبتها بعد وقوعها، كما عليها في الختام أن تطور نفسها لتستطيع مجاراة الدفق المعلوماتي السريع الذي تفيض به وسائل الإعلام الاجتماعي مغرقةً المواطن في لجة الآراء والأخبار المتضاربة التي تدخله في حالة من العمى والتيه. وباختصار على الإعلام أن يتغلب على أزماته ليصير بحق إعلام أزمات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *