وجهة نظر

الحرية والقانون: هل علاقة الشيء بنقيضه؟

خلق الله الإنسان ومتعه بالحق في الحياة، كحق مطلق لا يقبل المساس به بإنهائه إلا وفق مشيئة الله، عن طريق الموت الطبيعي الذي لا دخل لإنسان آخر فيه؛  ولأجل ذلك، يقول  الفيلســــوف الألمانيإيمانويل كانـــــــط  « Emmanuel KANT »في كتابه :« Critique de la raison pratique » أن الإنسان يعتبر أحد مكونات الطبيعة الذي يبعث فيها الحياة، ويؤثر فيها ويتأثر منها بخلق الأحداث والوقائع التاريخية، مؤكدا في ذات الوقت أن قوة الإنسان على إحداث هذه التأثيرات دليل طبيعي، لا يحتاج إلى برهان نظري أو واقعي، للتأكيد على أن حريته تعتبر، بعد حقه في الحياة، من حقوق الإنسان الطبيعية التي قال عنها الفيلسوف « Montesquieu »، في كتابه الشهير « Esprit des lois »، أنها تستغرق معاني متعددة، تختلف بحسب اختلاف مجالات ممارستها.

وفي هذا الصدد، يستشف كذلك من مؤلف ” مفهوم الحرية” للمفكر المغربي عبد الله العروي، أن ما يؤكد على نسبية معنى الحرية واختلاف مفهومها من مجال إلى آخر، وهو التذبذب الذي وقع عند اعتقاد المفكرين في العصر الحديث بخصوص مغزاها ومعناها؛ إذ اعتبروا في البداية أن العلم هو الوسيلة الوحيدة لتحرير الإنسان من قيود الطبيعة، رغم أن التجربة أثبتت أن العلم قد يخدم الحرية كما قد يحاصرها ويقضي عليها، إلى درجة أنه في مجموعة من العلوم الطبيعية كالاجتماعيات الحيوانية وعلم الأحياء، وقعت نقاشات حادة في بعض المجتمعات، كالمجتمع الأمريكي، كادت أن تمنع الباحثين من متابعة تجاربهم في ميادين معينة.

كما يستشف أيضا أنه من المتعين الفصل بين العلوم الطبيعية التي تنبني على مبدأ الحتمية الذي هو نقيض للحرية، وبين العلوم الاجتماعية الذي ينبني على مبدأ الإمكان، أي مدى الحرية الذي يتمتع بها الفرد في مجتمعه، وهو ما يجعل هذه العلوم الأخيرة، من بينها علم القانون، تركز البحث في مدى تحرر الإنسان داخل مجتمعه، من خلال تجربة الإمكان، أي بالمعنى القانوني ما يمكن للإنسان القيام به دون أن يتعرض لأي عقاب.

واعتبارا لكون حرية الإنسان حق أصيل وطبيعي ولدت معهوموجودة قبل وجود القوانين، فإن هذه الأخيرة عند مجيئها فإنها لم ترتب أثرا منشئا للحرية، وإنما كان أثرها لا يعدو سوى أن يكون كاشفا لها، وذلك بالاعتراف بها ووضع الأحكام اللازمة لحمايتها ودوامها؛ مما يجعل من معناها المبدئي هو الإباحة والحرية في التصرف، الذي يترتب عنه غياب الفرض والمنع والإلزام والخضوع إلى إرادة أخرى، ما عدا في الحالات التي يقرر القانون فيها المنع أو الإلزام.

إن استثناء المنع الوارد على مبدأ الإباحة في تحديد مفهوم الحرية في العلوم القانونية، يطرح إشكالية علاقة القانون بالحرية فيما إذا كان يقيد منها ويحد من طبيعتها الأصلية؟ وبتعبير أكثر دقة، فهل عندما يقرر القانون منع الإنسان من القيام بعمل معين أو يلزمه للقيام بعمل معين، فهل معنى ذلك أن القانون يحد من حرية الإنسان ويقيد من طبيعتها الأصلية؟ ومثل ذلك عندما قررا قانون الطوارئ الصحية الصادر بسبب جائحة فيروس كورونا منع الشخص من التجول بدون كمامة واقي، فهل معنى ذلك أن هذا القانون قام بالتضييق على حرية التجول والتنقل؛ ومثل ذلك أيضا عندما ينص قانون التأمين على إلزام مالكي العربات ذات محرك بضرورة التعاقد مع شركة التأمين عن الأضرار الناجمة عن حوادث السير، وبعدم تجاوز السرعة المسموح بها، فهل معنى ذلك أن هذا القانون يقيد من حرية السائق التعاقدية ومن حريته في السياقة؟وهل منع القانون المدني مختلف صور الإهمال والتقصير يعتبر حدا للحرية؟ وهل منع تشغيل الأطفال القاصرين بموجب مدونة الشغل، يعتبر كذلك تدخلا من طرف المشرع للحد من حرية العمل لدى رب العمل الطفل القاصر؟ وهل منع زواج المحارم بموجب مدونة الأسرة، يعتبر تدخلا من طرف الشريعة الإسلامية وقانون الأسرة في حرية الزواج؟  وكذلك هل منع القانون الجنائي مختلف الجرائم كالقتل والسرقة والنصب والاعتداء على أموال الآخرين والتشهير والتشويه بسمعتهم، والمس بأمن الدولة الخارجي وسلامتها الداخلية وغيرها من الجرائم…يعتبر تدخلا من طرف المشرع للحد من حرية الإنسان؟، وبتعبير أكثر دقة، هل ارتكاب الأفعال الممنوعة قانونا، يعتبر أن الحرية زادت عن حدها وانقلبت إلى ضدها، لتخضع للمقولة الشهيرة أن الشيء إذا زد عن حده انقلب إلى ضده؟

الحقيقة أن هذه المقولة لا تنطبق على علاقة الحرية بالقانون، وإلا لصح القول إن فعل القتل وكذا الاعتداء على سمعة الناس بالنصب والتشهير والتشويه والاتجار بالبشر…….وباقي الأفعال المحضورة قانونا، هو أقصى درجة لممارسة هذه الحرية؛ وبالتالي فإن هذا المنع والحضر الصادر عن القانون لا يمكن اعتباره تقييدا للحرية اعتبارا لكون الأفعال موضوع الحضر والفرض والمنع والإلزام لم تكن أصلا مندرجة ضمن مجال حرية الإنسان حتى يكون منعها أو الإلزام بهاتقييدا للحرية.

إن الأفعال المحضورة بموجب القانون وكذا الأفعال الملزمة بموجب القانون تظل أفعالا لا تندرج ضمن مجال الحرية، فالإنسان لا يملك مثلا في فعل القتل الحرية في قتل الإنسان الآخر من عدم قتله، كما لا يملك الحرية في التشهير بسمعة الآخرين، كما لا يملك الحرية في السياقة بدون رخصة سياقة وبدون اكتتاب بوصيلة التأمين، كما أن الأجير لا يملك حرية العمل مع شخص أو مجموعة أشخاص في ميدان تهريب البشر والمخدرات، فهذه الأفعال تظل خارجة عن نطاق وسلطان حريته، مما دفع بالقانون إلى تحديدها على سبيل الحصر اعتبارا لكونها تشكل استثناء من مجال الحرية ونطاق ممارستها.

وبناء على ما سبق، فإن علاقة القانون بالحرية لا تنبني على التقييد والتضييق، وإنما تقوم على أساس الاعتراف والحماية المتبادلة، فالحرية هي أصل طبيعي في الإنسان، وجدت مع وجوده وقبل وجود القانون، الذي يعتبر من صنع هذه الحرية بغية الاعتراف بها والكشف عنها وحمايتها من كل تهديد قد يهدد إما وجود صاحبها أو سلامة وأمن أمواله وسمعته وكرامته؛ كما أن الحرية في حد ذاتها صنعت القانون من أجل حمايته من كل التجاوزات التي قد تترتب عن حتمية الطبيعة الاجتماعية للإنسان؛ فلما أحدث الإنسان بحرياته قوانين تحدد على سبيل الحصر الأفعال الخارجة عن مجال الحرية من خلال التنصيص على منعها وحضرها، فإن ذلك بهدف حماية القانون من كل اعتداء وتجاوز عليه باسم الحرية ذاتها.

إن مفهوم الحرية في العلوم القانونية تجعل من التصرفات التي لم يمنعها القانون كلها تندرج في نطاقها ومجالها، وبالتالي يكون الشخص مؤهلا للقيام بها دون إثارة أي مسؤولية قانونية ما عدا فيها التعسف فيها. فحرية الإنسان للقيام بتصرف أو بسلوك معين لا تحتاج إلى ترخيص بنص قانوني، بحيث إن القانون لا يحدد التصرفات التي يمكن القيام بها، بل يحدد التصرفات والأفعال الممنوعة، ولأجل ذلك يظل نطاق مجال الحرية واسعا، في حين أن مجال المنع والحضر ضيقا اعتبارا لكونه يشكل استثناء من الأصل الواسع بطبيعة حرية صاحبها.

ولهذا، يعبر فلاسفة وفقهاء القانون عن علاقة الحرية بالقانون بالمبدأ القائل بأن الأصل في التصرف الإباحة، أي الحرية، والمنع هو الاستثناء، وأن الاستثناء لا يكون إلا بنص قانوني صريح يحضر أو يمنع للقيام بالتصرف تحت طائلة إثارة المسؤولية المدنية أو الجنائية بحسب الأحوال. وبذلك فإن القانون لا ينفي الحرية ولا يسلبها بل بقوم بدور وظيفي مؤداه حماية هذه الحرية من كل ما هو خارج عن نطاقها ولا يندرج ضمن مفهومها، إذ يضمن القانون بقاء الحرية وديمومتها من خلال المنع والحضر لكل تصرف قد يهدد وجودها.

وفي هذا الإطار، إذا كانت العهود والمواثيق الدولية تعتبر بعض التصرفات داخلة ضمن مجال الحريات التي تتم كفالتها من حرية التنقل وحرية التعبير وحرية العمل وحرية الزواج وتكوين أسرة وحرية المبادرة، فإنها في ذات الوقت تخرج بعض الأفعال والتصرفات من دائرة الحرية الطبيعية للإنسان؛ ولذلك نجدها حضرت فعل  القتل والاعتداء على السلامة الجسدية للإنسان وعلى تعذيبه، وكذا منعت إلقاء القبض عليه واعتقاله اعتقالا تعسفيا، اعتبارا لكون هذه الأفعال لا تندرج ضمن مجال الحرية، كما حضرت الاعتداء على كرامته وحقوق الاقتصادية والمالية والمدنية والسياسية.

وقد سار دستور المملكة المغربية لسنة 2011 على هذا النهج، تعزيزا ووعيا منه بالحقوق الكونية للإنسان، إذ جعل من التنقل والإقامة خارج التراب الوطني (الفصل 24 فقرة أخيرة)، ومن الحصول على المعلومات (الفصل 27)، ومن التملك والمبادرة والمقاولة والتنافس الحر (الفصل 35)، والزواج (الفصل 32)، والتعبير والرأي واعتناق الأفكار والصحافة ونقل الأخبار (الفصل 28)، إذ جعل منها أفعالا تندرج كلها ضمن الحريات المكفولة حمايتها دستوريا. وفي مقابل ذلك، أخرج مجموعة أخرى من الأفعال من دائرة الحريات كالاعتداء على السلامة الجسدية والاعتقال التعسفي والتسريبات المخلة بالمنافسة النزيهة وعلى أموال ومصالح الأشخاص؛ فكل هذه الأفعال تندرج ضمن المنع والحضر الذي يتم منعها وتجريمها قانونا

وزيادة على هذا، فإن الأفعال التي جعلها الدستور تندرج ضمن مفهوم الحق في الحرية، فإن ممارستها تتم وفق القوانين الجاري العمل بها، ولذلك نجده ينص فيما يخص لحرية التجول والتنقل بممارستها وفق القانون، وكذلك ممارسة حرية التملك في حدود ما ينص عليه القانون، وأيضا التعبير وإبداء الرأي في الحدود التي ينص عليها القانون…مما يؤكد أن الدستور والمواثيق الدولية تركت للقانون رسم الحدود الفاصلة بين الأفعال التي تندرج ضمن مجال حرية الإنسان وبين الأفعال التي تظل بحكم طبيعتها خارجة عن الطبيعة الأصلية للحرية، وذلك من خلال حصره للأفعال المحضورة، على النحو الذي يجعل غيرها منها الأفعال داخلا ضمن مجال الحرية.

إن علاقة الحرية بالقانون ليست علاقة الشيء بنقيضه، فالقانون ليس بنقيض للحرية فهو لا يعارضها ولا ينتقص منها، وإنما هو نتاج لهذه الحرية من أجل صيانتها وحمايتها والحفاظ على دوامها، من خلال حصره للأفعال التي تندرج خارج نطاقها، فالتنقل في حالة الطوارئ الصحية لا يندرج ضمن حرية التجول المكفولة دستوريا، كما أن العمل لدى عصابة إجرامية لا يعتبر حرية العمل المكفولة دستوريا، وتملك عقار أو مال عن طريق الاستيلاء والاغتصاب والنصب والتزوير لا يندرج ضمن حرية التملك المكفولة دستوريا، والاعتداء على سمعة الآخرين بالتشويه والتشهير والدعاية الكاذبة والقذف والسب لا يندرج ضمن حرية التعبير والرأي، واعتناق الفكر الإرهابي لا يعتبر حرية لاعتناق الأفكار المكفولة دستوريا…..وتسريب معطيات أو بيانات المخالفة والماسة بالتنافس النزيه المنصوص على تجريمها ومعاقبتها في الفصل 36 من الدستور، لا يعتبر حرية في الوصول إلى المعلومة المنصوص على كفالتها بموجب الفصل 27 من دستور المملكة المغربية.

إن فهم العلاقة بين الحرية والقانون والانتقال بها من المفهوم السلبي الخاطئ القائم على اعتبار القانون نقيض للحرية وسالبا لها إلى المفهوم الإيجابي الصحيح الذي يجعل منها علاقة قائمة على الاعترافوالحماية من خلال منع كل الأفعال التي لا تندرج ضمنها، إن فهم العلاقة بين القانون يعتبر أساس ازدهار المجتمعات وتقدمها، بل وإطارا فلسفيا يسمح بممارسة الأفعال التي لا تخرج عن نطاقها والتي لا يمتعها ولا يحضرها القانون في طمأنينة وأمن ودون خوف من أي عقاب؛ وفي هذا الصدد، أكدت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أن حرية الإنسان هي عنوان المجتمع الديمقراطي وأساس تطوره وتقدمه وازدهار حياة أفراده، وبالتالي فإن الأصل فيها هو قيام صاحبها بكل تصرف ماعدا التصرفات التي يخرجها القانون من دائرة نفوذها…..هكذا يجب أن تفهم علاقة القانون بالحرية.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *