منتدى العمق

اعتذار إلى “الصفاية” حول التلوث بدار ولد زيدوح

حين لمحتكِ من الضّفّة الأخرى ترتمين في حضن حبيبك تعانقينه بيديك المتّسختين، تأسّفت لهذا الحبّ القاتل بينك وبينه، وإذا كان لهذا العشق الأبديّ مبرّرا حين كان جسمك الممتلئ يتّشح بزرقة الماء وبياض الشّلّالات الصّغيرة وخضرة الأعشاب والنّباتات، فكيف استمرّ هذا الحبّ إلى درجة حلول سوادك في زرقته عند المصبّ والاتحاد الكامل بين ماءيكما بعد ذلك، على الرّغم ممّا أرى أنّه أصابك وقيل أنّه أصابك؟ لقد أطلقوا عليك اسم (الصفّاية)، لأنّك كنت في الأصل تحملين مياه المطر و الفائض من مياه السّقي و مياه من مصادر أخرى، أمّا وقد أصبحت تحملين المياه العادمة لمدينة جارة و مياه صادرة عن وحدة صناعية بنفس المدينة فحري أن يقال فيك أكثر ممّا قاله مالك في الخمر.

هل تنكر أنّه تمّ تغطيّة الكيلومتر الأخير منّي منذ سنوات، والأشغال اليوم جارية لتغطية جزء آخر؟ وهل تنكر أنّه حسب جواب الوزارة المنتدبة لدى وزير الطّاقة و المعادن و الماء والبيئة المكلفة بالماء على شكاية جمعيتين حول التلوث بالمنطقة بتاريخ 04 مارس 2016 تحت رقم 824، تتوفّر تلك الوحدة الصّناعيّة منذ 2012 على محطّة لتصفيّة المياه العادمة تم إنشاؤها بشراكة مع وكالة الحوض المائي لأم الربيع و وزارة البيئة؟ ألم تر يا مجنون البيئة كيف تغيّرت حياتي خلال السّنوات الأخيرة؟

لا أنكر التّغطيّة وأشغال التّغطيّة وإيجابيات التّغطيّة ولا أنكر الرّسالة، ولكن ماذا بعد، إلّا أنّ المشاهد المعاين لواقع مسيرك كلّ يوم على طول عشرات الكيلومترات يلاحظ أنّ ملامح وجهك قد تغيّرت فعلا إلى الأسوء؟ وتماهيا مع نرجسيّتك و تقديرا لحبّك المجنون للنّهر المغبون أعترف أنّي مدين لك باعتذار سرمدي يغطّي ما بعده ويجبّ ما قبله؛ فعذرا أيّتها (الصّفّاية) لأنّني اتّهمتك يوما في عرضك، وادّعيت أنّك تحملين في رحمك سفاحا سوءا و تلوّثا، عذرا لأنّني ظللت أردّد لعقود أنّ حملك الذي تضعينه في بلدتي اختلطت أنسابه بين غرباء عنها أنكروا فعلتهم و تقابلت أصابع الاتهام بينهم، وعذرا لأنّني لم أنتبه إلى أنّ اسمك يوحي بالصّفاء والنّقاء والبراءة، وعذرا أن سوّلت لي نفسي اتّهامك بتلويث نهر أمّ الرّبيع الذي ترتمين في حضنه نهاية كلّ مسير؟

نعم، لقد صدقت عيناي حين رأت ماءك يزداد سوادا خلال كلّ موسم شمندر، و لكن أيّ منطق هذا الذي يربط بين هذا الأسود الحالك و التلوّث؟! صحيح أنّ الماء لا لون له، و لكن، ألا يعلم لُبّي أنّه لولا سواد العين ما كان أصاب القلبَ سهمُها؟! وأن ليس هناك أبلغ ممّا قيل في ذات الشّعر الأسود؟! أليس ذلك هو عين العقل أيّها المُستخفّ بعقول الآخرين؟! أعتذر لسوء ظنّي بما يتدفّق بين جنبيك من مياه تحبس رائحتها أنفاس جيرانك، ومتى كانت الرّائحة النّتنة التي تزعج الأنوف على بعد مئات الأمتار، و تستدعي أنواع الحشرات عنوانا للتلوّث؟! وأعتذر لأنّي ذكرت يوما أنّك تهرّبين من مدينة جارة إلى النّهر مياه مستعملة لم تخضع للتّصفيّة، مياه مارقة من قانون الماء 15-36، خوفا من أن يتسرّب إلى الفرشة المائيّة ما يفسد الودّ بين الماء الشّروب والصّلاحيّة للشّرب، فلا التّهريب ضبطه أحد ولا التّسرّب أعلن عنه مختبر!

لقد اقتنعت الآن وبعد كلّ هذه السّنوات أنّه على الرّغم من الرّائحة النّتنة التي تؤْدي العيون و اللّون الأسود للمياه الجاريّة القادمة من بعيد و التي تصبّ في الوادي وتختلط بمياه النّهر، اقتنعت أنّ هذه الميّاه التي تشتدّ مواصفاتها هذه خلال فصل الصيف هي في حقيقة الأمر ميّاه نقيّة صافيّة صالحة وغير ملوَّثَة ولا ملوِّثة لغيرها، لسبب بسيط هو تلك الرّسالة المباركة، و لسبب آخر أبسط منه هو سكوت النّاخب والمنتخب والسّكوت علامة الرّضى.

وكيف سأصدّق أنّ سبب هلاك الأسماك لمرّات عديدة من قبل، كان أحدها يوم الأحد 10-07-2016 هو موادّ كيماويّة سامّة تحملينها في المياه التي تجري في جوفك أيّتها (الصفّاية) النّقيّة البهيّة؟! فتلك الأسماك لم يفتقر محيطها إلى الأكسجين ولا أصابتها آفة ولا وباء، إنّما أظنّها أقدمت على الانتحار بطريقة جماعيّة ليس من شدّة التّلوّث والقهر وجشع بني البشر، ولا من شدّة اليأس وفقدان الأمل في انبراء من يدافع عن حقّها في الحياة، بل وضعت حدّا لحياتها كما يفعل أبناء الدول الأعلى تقدّما، من شدّة الرّفاه الذي يوفّره ماؤك الصّافي العذب الفرات، الغنيّ بما لذّ وطاب من مواد مغذيّة، هبة وهديّة مجّانيّة من الجماعات التّرابيّة الجارة.

أرجوك أيّتها (الصّفّاية) العطرة النّقيّة البهيّة أن تبقي كما أنت، لا تغيّري لون مائك ولا رائحته، لقد تعوّدنا عليك منذ الصّغر وتعوّد أبناءنا كذلك على جوارك وعلى الحشرات الطّائرة التي تنتعش بوجودك، لا تغيّري من حالك ولا تلتفتي إليّ ولا إلى غيري حين يتحدّث عن التّلوّث والبيئة والصّحّة، كوني فخورة بنفسك ولا تغطّي وجهك خجلا ولا تسمحي لأحد أن يفرّق بينك وبين محبوبك، ولا أن يخفي عنّا جمالك وجمال مائك العذب الفرات الذي يستحقّ أن يعبّأ في القناني ويصدّر إلى من فاتتهم فرصة العيش إلى جانبك والتّملّي صباح مساء ببهيّ طلعتك، وحُرموا من التّمتّع باستنشاق عبيرك طيلة السّنة و في فصل الصّيف خاصّة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *