وجهة نظر

نقطــة نظـــام

ارتباطا بما بات يعرف بقضيـة الرميد وكاتبته الراحلة “جميلة بشر” رحمها الله، لم نجـد خيـارا سـوى رفـع الأصبـع وسط زحمـة الجدل المتعدد الزوايـا، لنعبـر عن “وجهـة نظر” حيال ما حدث، في إطار “نقطـة نظـام”، ليس لنلبس بذلة القاضي لتوجيـه صكوك الاتهام والإدانـة، وليــس لنتقمص دور المحامي للترافـع عن هذه الجهة أو تلك، وفي هذا الصدد، وتوضيحا للرؤيـة، فلن نتموقع في معترك المدافعين عن وزير الدولة في حقوق الإنسان الذي يتحمل شئنا أم أبينا، مسؤولية قانونية وأخلاقية ومبدئية، لا يمكن إسقاطها بمجرد تصريح مصحح الإمضاء في الوقت الضائع، من قبل والد الكاتبـة الفقيدة، ولن نقبل بالدفع القائل أن الراحلة كانت ترفض التصريح بها لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وهذا أمر لا يقبله عقل ولا منطق ولا قانون، ولن ننضــم إلى صفوف المعارضين والمحتجين الذين استثمروا كبــوة الوزير الحقوقي، لتحريك ناعورة الهجوم والقصف وإرواء مشاعر الانتقـاد، لأن ما حدث أكبر من وزير دولة يفترض فيه أن يكون كغيره من الوزراء والبرلمانيين والمسؤولين العموميين، مثالا يحتذى به، في احترام القانون وتطبيقه، ما حدث هو مرآة عاكســة لمنظومة سياسية ومجتمعية، تمــرست على انتهاك حرمـة القانون بشكل خفي ومعلن، لا تجد حرجا في فرض قانون الأنانية المفرطة الذي ينتصر للذات والمصلحة العمياء، بدل الانتصار للوطن وقضاياه، بعيدا عن سلطة المراقبة والمسؤولية والمحاسبة والزجر والعقاب.

منظومة سياسية وبنية مجتمعية، من القساوة أن نختزلها في شخص الرميد، الذي لا يمكنه حجب مسؤولية العديد من المسؤولين والمهنييــن الذين يمسون بدرجات ومستويات مختلفة بحقوق مستخدميهـم، ومنهم وزراء وبرلمانيين وأرباب مقاولات إعلامية ومدارس خصوصية ومكاتب محاماة ومكاتب توثيق، وعيادات طبية خاصة ومراكز النداء، ومحلات تجارية ومقاهي ومطاعم ووحدات إنتاجية فلاحية (معامل، ضيعات)، وأماكن الراحة والترفيه وشركات النظافة والحراسة والعمال المنزليين، وغير ذلك من الأنشطة الاقتصادية والخدماتية، في غياب الضابط القانوني والأخلاقي والزجـري، وهو واقع مقلق، يضـع شرائح واسعة من العمال والمستخدمين خارج منظومة “الضمان الاجتماعي” بشكل يجردهم ليس فقط، من حقوقهم المكفولة بموجب التشريع الوطني (مدونة الشغل) والتشريعات الدولية ذات الصلة، وعلى رأسها التغطية الصحية والرعاية الاجتماعية والحق في التقاعـد وغيرها، بل ويكرس ثقافة تبخيس القوانين، في ظل “بيئة” سياسية ومجتمعية، أنتجت عبر سنوات، خبرات وتجارب في التحايل على القانون وتفصيلــه على المقـاس، في غياب أية إرادة سياسية حقيقية قادرة على فرض قوة وهيبـة القانون.

نحن لا نجهز على حق أحد في التعبير عن مشاعر اللوم والعتاب، ولا يمكننا كبح جماح الدعوات المطالبة باستقالة أو إقالة وزير الدولة و وزير الشغل الذي بادر إلى استعجال التصريح بمستخدميـه لدى الضمان الاجتماعي في آخر لحظة، حسب ما ورد في عدد من المنابر الإعلاميــة، لكن مقابل ذلك، من الصعب حصر الحكاية في حدود “الرميد” وكاتبته الراحلة، وإذا حوصرت في هذا المستوى من النقاش، فلن تقدم أو تؤخر، ولن تتجاوز حدود الجدل أو اللغط المحدود في الزمان والمكان، وحتى إذا ما استقال الوزير أو أقيل أو استمر في مهتمه الحكومية، فستبقى حليمة الضمان الاجتماعي على عادتها القديمة، وسيبقى الواقع السياسي مكرسا لثقافة الجشـع والاستغلال والترامي على الحقوق الطبيعية والاقتصادية والاجتماعية للعمال والأجراء، والانتهاك الواضح لسلطة القانــون بدون حسيب أو رقيب، ويكفـي النظر إلى جائحة “كورونا” التي جعلتنا نكتشف عمق الأزمة الاجتماعية، في ظل تواجد ملاييـن من المغاربة خارج منظومـة الرعايـة الاجتماعيـة.

من يتبنى “نظرية المؤامرة” ويربط ما يحصل للوزير الحقوقي بتصفية حسابات سياسية من قبل الخصوم السياسيين والإعلاميين، نذكره أن ما وقع يعد انتهاكا لحرمة القانون وإجهازا على حقوق مستخدمة، كان من المفروض الحرص على حقوقها كاملة وتقنين العلاقات الشغلية التي تربطها بمشغلها (مكتب محاماة الوزير)، خاصة وأنها تشتغل في مهنة من مهن العدالة، يفتـرض أن تكون مثـالا في احترام القانــون أكثر من غيرهـا، ومن ركب على الموجة واستغل الكبــوة، ليطلق نار الإدانة واللوم والعتاب والاستنكار، نقول، أن الوزير/المحامي، ما هو إلا حالة، طفت على السطـح على حين غفلة، من ضمن حالات كثيرة وكثيرة جـدا لمسؤولين كبار أو أرباب عمل، يحرصون كل الحــرص على إرواء ما يسيطر عليهم من جشع واستغلال، أكثر من حرصهم على احترام القانون، سواء تعلــق الأمر بالضمان الاجتماعي أو بالتهرب الضريبي أو بالفساد السياسي والاقتصادي …، وإذا كان لا مفر من إدانة الرميد جراء هذا الإخلال “غير المقبول”، فمن الأجدر إدانـة منظومة بأكملها، تجعل شرائح واسعة من المغاربة خــارج منظومة الضمان الاجتماعي وما يرتبط بها من تغطية صحية وحماية اجتماعية، وكنا سنكون سعـداء لو كانت هفـوة الرجل، تشكل حالة “فريـدة” و”وحيدة” في مجتمع يسمو فيه القانون وتصان فيه الحقوق والحريات، لكن الأمر ليــس كذلك للأسـف.

المعالجة الإعلامية لهذه الواقعـة، جاءت معيبـة من الناحية المهنية، لأنها انجرفت وراء الجدل والسبق والإثــارة، وانسـاقت بقصد أو بـدونه نحـو الحسابات السياسوية الضيقـة، بعدما وجهت البوصلة كاملة نحو “الرميد” كوزير دولة مكلف بحقوق الإنسان، وكقيادي بارز في حزب العدالة والتنمية، بينما كان يفتــرض أن تستثمر معطياتها في زحزحة قـارة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ومساءلة الوضعيات الحقيقية لعدد من العمال والمستخدمين الذين يمارسون عملهم في عدد من مكاتب المحاماة والتوثيق والعيادات الطبية ومكاتب المحاسبة والاستشارات القانونية، وغير ذلك من المقاولات المهنية والخدماتية، بما فيها مقاولات إعلامية ومقرات أحزاب سياسية، وفي هذا الصدد، نؤكد أن القضية هي أكبر من وزير وأكبر من حزب سياسي، وأكبر من جدل افتراضي وأكبر من لغط إعلامي، هي قضيـة “وطـن” نريده أن يكون حضنا سليما معافا، تحترم فيه سلطة القانــون وينعم فيه جميـع المغاربة بالعدالة والمساواة والكرامـة، والإعــلام المهني الرصين، لا بد أن يتملك الرؤيـة المتبصرة لمقاربة ومعالجة قضيـة تنطبق عليها مقولة ” ما خفي كــان أعظم “، بعيــدا عن النعرات والحسابات، ولا بد له أيضا، أن يقارب القضايا في شموليتها لا في خصوصيتها المكرسة للمعالجـة التي لا تتجاوز حـدود الجدل والإثـارة، ولا تتـرك أي أثـر أو تأثيـر في الواقــع.. وبما أن القضية ارتبطت بمكتب محاماة، فمـن المفروض على هذا الإعلام المهني، أن يوجه البوصلة بأكملها نحو مكاتب المحاماة عبر التراب الوطني للتثبت من مدى سلامة وضعيتها القانونية حيال الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وفي مقدمتها المكاتب التي يديرها جملة من القياديين الحزبيين والبرلمانيين والمسؤولين السياسيين.

لسنا هنا للترافـع أو الدفاع عن طـرف دون آخر، أو إشهار أسلحـة الاحتجاج والتنديـد أو رفـع شعار “انصر أخاك ظالما أو مظلوما”، ولسنـا من دعاة “البـوز “الإعلامي” أو “السياسي” أو من قناصي الهفوات والكبوات والــزلات، وليس لنا أي انتماء سياسي أو نقابي أو حتى إعلامي، من شأنه أن يتحكم في الموقف ويرسم للقلم خارطة طريق على المقــاس، وما كان لنا لنقتحم خلوة هذا الموضوع المثيـر للجدل، لولا إدراكنا أن ما وقـــع، هـو فرصة لقول الحقيقة الغائبــة، والتنديـد بكل تصرف أو ممارسة تنتهك حرمة القانون أو تمس بالحقوق والحريات أو تغـذي الأنانية المفرطة أو تكـرس ثقافة الجشـع والاستغلال، أو تضــع “العصا فالرويضة” أمام الوطن وتمنعه من فـرص النهــوض والتطور والارتقـاء، أو تطلـق العنان للجدل والعناد والصدام واليــأس وفقدان الثقــة والإحبــاط، أو تقـلل من فرص كسب رهان دولة الحق والقانون والمؤسسات، فما حدث، يكشـف عن ســوءة واقعنا السياسي والاجتماعي، الذي لم يتملك بعـد، أدوات التواصل السياسي الفعال وتحمل المسؤوليـة والخضــوع للمحاسبة، ويعـري عن عـورة “أجهـزة الرقابة” بكل مستوياتها، وليــس بوسعنا إلا أن نطلق العنان للسـؤال : كم من وزيــر في التاريخ السياسي المغربي اعترف أمام الرأي العام بتحمله مسؤولية خـلل من الإخـلالات وقدم استقالتـه وانسحب في صمـت ؟ كم من مسـؤول حكومي تم إخضاعه لمبـدأ “ربط المسؤولية بالمحاسبة ” أو طبق في حقه مبـدأ “من أين لك هذا” ؟ كم من مسؤول سياسي يخيط القانـون على مقاسه ؟ كم من رب عمل وضعيته سليمة حيال الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ؟ كم من مكتب محاماة يصرح بأجرائه أو مستخدميه لدى الضمان الاجتماعي ؟ كم من أجيـر يئـن تحت وطأة الجشـع والاستغلال ؟ كم من مقاول وكم من مكاتب توثيق ومحاسبة وكم من عيادات طبية، وكم من مدارس خصوصية وكم من مقاولة إعلاميــة.. كم وكم وكم من شخص ذاتي أو معنــوي يمتثل لسلطة القانــون في هذا البلد السعيـد ؟

هـذه هي الأسئلــة المحرقة التي لابـد للإعــلام أن ينكـب عليها، أما “الرميد” فهو الشجـرة التي تخفي الغابة وما خفي كان أعظم، ومسؤوليته لا تقل عن مسؤولية الجهة أو الجهات المعنية بالرقابة، والتي يفترض أن تنزل إلى الميدان للتثبـت من مدى تطبيق القانـون .. ونختم بالترحم على الفقيـدة، التي رحلت في صمـت ورحلت معها الحقيقة بتفاصيلها، تاركة “مشغلها” وسط زوبعة في “فنجان الجدل” جعلت حزب “البيجيـدي” في قلب عاصفـة، خلقت وبدون شك، حالة من الهلـع والتوجـس والترقب والانتظار وسط شرائح واسعة من الأشخاص الذاتيين والمعنوييــن الذين يتواجدون في وضعيات غير قانونية حيال الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وإدارة الضرائب، ولكل “فار” من القانـون منذ سنوات دون حسيب أو رقيب، نقول له بأسف : استعجل تسوية وضعيتك القانونية أمام القانون قبل أن تطالك يوما، سلطـة القانون والعدالة والعقـاب، فما جدوى القوانين إذا لم تحتـرم ؟ وما الغاية من القضاء إذا لم يكبــح جماح من يتجاوز سلطة القانون؟ وما الفائـدة من المؤسسات الدستورية القائمة، إذا لم تضطلـع بمسؤولياتها “المواطنة” في تخليق الحياة العامة وتكريس ثقافة الشفافية والمسؤولية والمحاسبة وحماية المال العام ؟ و إلى أي حد وإلى أي مـدى، سنبقى أوفيـاء لثقافة “ازدواجيـة المواقف”، ننتصـر في “العلن” لمواقف المواطنة، وفي “الخفاء” نجلـد المواطنة ونغتصب القانون ؟ وهي رسائل لا تحتاج إلى تأويـل أو تفسيـر، موجهـة لكل “مسـؤول” يقوي بممارساته، الإحسـاس لدى المواطن، بانعدام الثقة في القانون والدولــة والمؤسسات، ويعمق بعبثـه وتهوره، مشاعر اليــأس والإحبـاط … عسى أن تكون قضيـة الرميد “نقمة في طيها نعمة” من شأنها الإسهــام في ترميم ما يعتـري واقع الممارسة، من مشاهد القصـور والخلل والعبث والارتبـاك .. عسى أن ننام ونستيقظ على “وطن” يكون فيه “القانون مثل الموت الذي لا يستثني أحدا” كما قال الفيلسـوف الفرنسي “مونتسكيو”.. عسى أن نصغي جميعا لصوت الوطن، بعيدا عن القلاقـل والحسابات والنعرات .. لك الله يا وطن ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *