منتدى العمق

نظرات في تأثيل الفصحى بيانا ولزومها لسانا (2)

النظرة الثانية : تأثيل الكلمات

التَّأثيلُ موضوع مُعتاص، و نَظم مُتراص، تَنظِمه ضوابط وصيغ تُقَعِّدُ له و لبيانه، إذ هو أعقد من ذَنَب البعير، لذلك ينبغي للمُنشَئين الحُدَثاء أن يركضوا في ميادينه الذَّفِرة بحذر، باعتبارها مزروعة بكثير من الألغام .. مستثمرين في أقوال القدماء المُخَضرَبين، للبناء عليها و التقعيد وفق سياقها: لأنه موضوع ( تَلزَمُه مُكنة راسخة، و عِدَّةٌ معرفية صميمة بتبدلات أحوال الكلمات العربية، مما لم يتسن للقدماء معرفته ) ؛ و على الرغم من المقاصد الجمة التي تعود بالنفع على لغتنا الشاعرة ، إذا نحن فتحنا هذا الثغر اللغوي الذي وَطَّأه القدامى بغير قليل من الإلماعِ و البُروق ، فلم يَطَّيَّرُوا بطائرة تُعرفهم بالدُّرر التي شق الأوائل كٍّمها ، ضيع علينا الوَثْبَة التي تُشيِّدُ الصروح المعرفية المُمَرَّدة بالبيان العربي المبين ، من خلال السعي إلى إزالة الأستار و الدَّيَاجي عن تاريخ كلماتنا العربية الفصحى ، و ما تعبر عنه مع كُرورِ المِلوان ، إِسوَةً بما بلغته الأمم الأخرى التي وضعت مُعجمات تاريخية تُعَرِّف بتبدلات مرت منها كل كلمة ، و معظم التغيرات التي مستها مع توالي الأَجدانِ …

لا شك أن الذي دَقَّ نظره ، يدرك أن من وراء التأريخ للكلمات غايات و معارف علمية شتَّى لا ينبغي لنا التهاون في تحصيلها و إحصائها ، أو الإعراض عنها مُدَّعين عدم حاجة العربية لهذه المعرفة ، كما ذهب لذلك العلامة الحاذق محمود عباس العقاد قائلا : (( لا نحتاج كثيرا إلى التسلسل التاريخي في وضع معجماتنا الحديثة ، لأن هذا التسلسل ضروري في اللغات التي يكثر فيها إهمال الكلمة في معنى ، و سيرورتها في معنى آخر . و لكنه لا يبلغ المبلغ من الضرورة حين توجد الكلمة مُستَعمَلة في جميع مناحيها على السواء ، أو على درجة متقاربة ، و من النتائج العملية لتلك الملاحظة أن نذكر في سياق التجديد و المحافظة على القديم أن العرب كانوا مُجَدِّدين على الدوام في إطلاقهم الكلمات القديمة على المعاني الجديدة .. )) [ اللغة الشاعرة ، محمود عباس العقاد ، كتاب المجلة العربية ، عدد 211 ، ص 42 ، 43 ] …

إذا حَصَّلنا التأثيل ببيان مُخرِس ، أدركنا منه الكثير مما يقع فيه التقصير . و أن أقرب الطَّرق ، و أسهل الأساليب التي تقي من النَّصَب في البحث عن تغيرات المعاني ، أن يعقد جمهور العرب خَناصِرهم على حرث هذه الأرض التي تعد بكثير من الخَراج ، و من المعارف التي لا ينقطع نَسلُها . وجب أن نتنبه – نحن العرب – إلى أن الغايات من وراء هذا البحث أقوى اتساقا و انضباطا ، و أظهر حجة و أهدى سبيلا ، و أَسْلَكُ منهجا ، و أن نتساءل عن السر في أن كل الذين أوردوا في هذه الناحية من البحث لم يُصدَروا ؟ …

لا شك على أن على مثل هذا الرأي القَارِح ، يجب أن تتضافر جهود المُفَنَّنِين الأَبْيِناَء و اللُّغوين البلغاء ، لمعرفة كيفية التوسع الدلالي التي تُحدث للألفاظ القديمة ، فتكتسب دلالات جديدة على غير المعنى الذي كانت تتبناه في الأصل ، بل الدعوة الدَّبَرية إلى هجر بعض الكلمات التراثية و جعلها ساقا ميتة لا حاجة تدعوا إليها في جسد اللغة المُحدثة ، لأن أي لفظة تعد بنت مجتمعها ، تحمل تصاريف الأزمان المختلفة و البيئات المتعددة ، لا يمكن عزلها عما اكتسبته في أثناء استعمالها و تنازع البيئات اللغوية لها بكيفية لا يُفطن إليها إلا بعد المقارنة بين أعصار اللغة و ما عرفته من تغيرات خارجة عن نطاق الأفراد الذين يستعملونها لتكتسب دلالات جديدة ، و تنتقل إلى مجال غير الذي عرفت فيه …

( يتبع بحول الله ) …