وجهة نظر

غادة عويس وبلاغة الحوار الإعلامي

1 – لا نروم الدفاع المجاني عن أي وسيلة إعلامية عربية ، و لا نسعى إلى تبييضِ وجوه “تلفزيونية” و نظمِ قصائدِ المدح في حق رموز صحفية دون أخرى ، “غيلة و كيدا و عداء” .. لكننا في الآن عينه نُصِرُّ إصرارا على الاعتراف بالجهود الرفيعة الصادرة عن إعلاميين عرب نساء و رجالا ، و نُقر إقرارا بتألق بعضهم ، و التحليق بعيدا في دنيا المنجز الإعلامي المحايد و العالي الجودة و المهنية . و يمكن القول دون مبالغة إن قناة الجزيرة الإخبارية تجسد إضافة مفصلية في الصحراء الإعلامية العربية بالغة الجفاف و العقم و اللاجدوى ! لِمَا تتميز به من حرفية و إبداع و تنوع ، و قدرتِها على متابعة مجريات الأحداث السياسية و الاقتصادية و الثقافية .. عربيا و دوليا ، مما جعل منها وجهة مفضلة للملايين من المتتبعين العرب ، الراغبين في الحصول على المعلومة ذات المصداقية أداةً و رؤيةً ، فضلاً عن توفر هذه الفضائية ، التي ملأت الدنيا و شغلت الناس ، على مذيعات و مذيعين متميزين بكل المقاييس . و قد خصصتُ هذا المقال لتسليط شعاعٍ من الضوء على الإعلامية اللبنانية غادة عويس التي تطل على البيت العربي بأدائها الإخباري الاستثنائي .

2 – تنطلق السيدة غادة في جل موادها الإخبارية ، و ليكن ذلك في سياق برنامج الحصاد على سبيل المثال لا الحصر ، من مقدمة تأطيرية تنهض على آليات الاشتغال الإعلامي السليم ، من انسياب لغوي محكم البناء ، و تنغيم صوتي يناسب التموجات المضمونية ، و نظرة هادئة و موزونة موجهة إلى المشاهد .. لتنتقل بعد ذلك إلى توزيع أسئلتها الإجرائية على الضيوف المهيئين للتعاطي مع قضايا و مواضيع الساعة ، و هنا تبدو السيدة غادة أكثر استعدادا للحصول على “أعز ما يطلب” من هؤلاء المتفاعلين و الحاملين لتصورات سياسية و أيديولوجية متضاربة ، و خلفيات و مصالح استراتيجية متعارضة ، و في الأثناء تتجنب طرح الأسئلة المسالمة المألوفة بلغة رسمية متجاوزة ، كما هو شائع في جل الفضائيات العربية الرسمية الخشبية ، و تجنح إلى محاورة الضيف في موضوعات ملموسة و إيجاز مقصود ، لتحصل منه على ما يسعى إلى إخفائه طيلة مراحل الحوار ، و معلوم أن المُحاوِر السياسي يبذل كل ما في إمكانه لتغليف “نواياه و رهاناته” ، لكن غادة عويس و عبر ميكانيزمات الأسلوب التوليدي الاستكشافي ، و إلحاحها على جعل المخاطَب يتناقض مع نفسه ، و يختل توازنه “الاستدلالي” ، فيبدو خطابه “الحجاجي”متهافتا ، و منطلقاته “المبدئية” مهلهلة ، بفضل ما تحمله من وعي عميق بتفاصيل القضايا المعنية بالأمر ، و تقنية التنويم و المهادنة و الاكتساح في إطار المواجهة الأخلاقية المُحترِمة لمضمون الرسالة الإعلامية النبيلة ، و بفضل ما تؤمن به من أبجديات الخطاب الصحفي المسؤول و الساعي إلى كشف التناقضات و النقائض ، و جعلها عارية أمام المتلقي أو المشاهد .

3 – و في اعتقادي الشخصي فإن هذا المنحى التحاوري الإعلامي المِهْنِي ، سيواجه جبالا من الانتقادات غير الودية ، و رعودا من التهديدات ، و ربما طرقا غير شريفة من تشهير و أكاذيب و أخبار مفتعلة تتعارض و القيم الدينية و الإنسانية السامية ، و هذه مسلكيات ضعاف النفوس و العقول ، بغية “الإطاحة بالخصم أو القضاء عليه” ! و نحن كمتلقين و منتجين للفعل الصحفي بشكل عام ، لا يسعنا إلا أن نرفع القبعة للسيدة غادة عويس و صديقاتها و أصدقائها الذين يبذلون كل ما يملكون من جهد ، في سبيل خدمة الإعلام العربي ، انطلاقا من المقاييس المعترف بها أمميا من دقة و موضوعية و حياد ، كما نرجو بإخلاص و صدقية ممن يتضايق من إعطاء حق الكلمة للجميع ، أن يدرك أن زمن الإعلام السلطوي المونولوجي الأحادي الصوت ، قد ولى و انتهت صلاحيته في كل الدول الديمقراطية و الصاعدة ، و أنه لا حل أمامهم سوى الاستعداد لعالم اليوم و الغد ، عالم الديمقراطية و التعددية و النسبية و الرأي و .. الرأي الآخر .. “فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ” .

* كاتب من المغرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *