وجهة نظر

رسالة مفتوحة لسيادة المطران عطا الله حنا وأمثاله: حنانيكم..

لَّمَنا الاسلام الا نقدس شيئا إلا ما قدسه الله ورسوله، وألا نرفع تجربة بشرية مهما كانت عظيمة، فوق تجربة البشر، إلا انه علَّمَنا في ذات الوقت، الاعتزاز بديننا وتاريخنا وتجارب اسلافنا ممن ملأوا الدنيا عدلا وحضارة ومدنية وسياسة وثقافة وعلما، جعلت للامة الاسلامية وغيرها من مظلومي الارض مكانة ومكانا تحت الشمس، بعدما أن كنا نسيا منسيا..

(1)

لذلك شعرت بحزن شديد وانا أقرأ البيان الذي أصدره سيادة المطران عطا الله حنا رئيس أساقفة سبسطية للروم الارثوذكس في القدس الشريف، والذي شن من خلاله هجوما عنيفا غير متناسب بكل المعايير التاريخية والسياسية والأخلاقية والعلمية، على الرئيس التركي الطيب أردوغان وعلى الخلافة العثمانية ودورها التاريخي، وَنَسَفَ حقبة ذهبية من تاريخ الإسلام العظيم امتدت لنحو ستمائة عام تقريبا..  سبب هذه الهجمة الظالمة هو قرار الحكومة التركية إعادة (أيا صوفيا) مسجدا كما كان عليه الحال على مدى خمسمائة عام تقريبا (1453م – 1923م)، وإزالة العبوس الذي كسا وجهه على مدى أكثر من تسعين عاما، عاش فيها المسجد غريبا في بلده الإسلامي، بفعل قرار اتاتورك ربيب الاستعمار الغربي، وخادم الماسونية الدولية، وممثل الصهيونية العالمية، تحويل مسجد (أيا صوفيا) إلى متحف كجزء من خطة حربه على الإسلام وشعائره في تركيا، حيث  أسقط الخلافة وألغى الشريعة، وسار متدثرا في رداء البطولة بمحو آثار الوحي من تركيا، فألغى الأذان، وغيّر الحروف التركية من العربية إلى اللاتينية، ليقطع صلتها بالقرآن، وأبطل المدارس الإسلامية، وأطلق النساء عرايا في الشوارع والجامعات، وبغايا في الطرق والحانات، وأسقط الديانة من الدستور، لتصبح بلاد الخلافة بلا دين! وهو الذي قال عن القرآن: “نحن لسنا بحاجة إلى كتاب يتكلم عن التين والزيتون.”…

انتهت خطة اتاتورك بفشل ذريع بسبب تمسك الشعب التركي بإسلامه كمنهاج حياة، ورفضه السياسات الأتاتوركية التي حولت دولة الخلافة العثمانية من دولة لها هيبتها ومكانتها العالمية، الى دولة علمانية فاشلة متسولة وأسيرة بيد الغرب، لا تملك من أمرها شيئا الا بقدر ما يخدم مصالح الغرب ونفوذه في شرقنا العربي والإسلامي، وتعلن الحرب على الإسلام كدين، وعلى تاريخه العظيم، وعلى الشعب التركي المسلم الذي عاش تحت راية خلافته لنحو ستة قرون ذهبية في سعادة وحبور..

عادت تركيا كلاعب أساسي على الساحة العالمية في ظل حكم حزب والعدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية وزعيمه الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي وصل الى السلطة بعد انتخابات ديموقراطية حرة ونزيهة في العام 2002م، حيث نجح في فترة قياسية تشبه المعجزة في نقل تركيا من الحضيض سياسيا وحضاريا ومدنية، إلى دولة تنافس أعظم دول العالم وأكثرها تقدما وازدهارا في جميع المجالات، وتنافس على موقع متقدم جدا في لائحة الدول الصناعية العشرين عالميا..

(2)

حملت لائحة اتهام سيادة المطران حنا للدولة العثمانية والرئيس اردوغان ما يُخْجِلُ أعتى المستشرقين والسياسيين الغربيين، وما اكثرهم، الذين كانوا أقل تطرفا في الحكم على الدولة العثمانية وعلى اردوغان من سيادة المطران..

أورد هنا بعض هذه التهم غير الموضوعية بامتياز، الموجهة ضد الدولة العثمانية وأردوغان، أنقلها كما وردت في بيانه:

“أولا – انت لا تنتمي (موجها كلامه لأردوغان – الكاتب) الى مدرسة التسامح والاخوة الإنسانية، بل تنتمي الى المدرسة الداعشية العنصرية والتي تعتبر ظاهرة خطيرة في مجتمعاتنا يجب اقتلاعها من جذورها لأنها خطر محدق بنا جميعا.

ثانيا – لقد ذكرنا اردوغان بمرسومه ان عالمنا لا يعاني فقط من وباء الكورونا بل يعاني ايضا من وباء التطرف والتخلف والجاهلية التي يجسدها اردوغان واتباعه في اي مكان في هذا العالم.

ثالثا – يؤسفنا ويحزننا ان بعضا من الفلسطينيين رقصوا وابتهجوا بقرار اردوغان، ولكن سيأتي اليوم الذي فيه سيكتشفون بأن هذا الاجراء الأردوغاني المشبوه انما يندرج في إطار التآمر على شعبنا وعلى قدسنا ومقدساتنا وخاصة على المسجد الاقصى وان غدا لناظره قريب.

رابعا – كيف يمكن لأولئك الذين يدافعون عن الاقصى وعن القدس ومقدساتها وهويتها ان يفرحوا وان يبتهجوا بسرقة اردوغان لتراث انساني مسيحي عريق ونسبه للعثمانية الهمجية الجاهلية الحاقدة، فلا يمكن ان تنادي بالحق هنا وان تؤيد الباطل هناك، فمن يدافع عن القدس ومقدساتها يجب ان يعلن رفضه لإجراء اردوغان الاستفزازي الذي يأتي خدمة للسياسات الاستعمارية الاحتلالية في مدينة القدس. لقد قدم اردوغان هدية مجانية لاسرائيل سوف تستثمرها لتمرير مشاريعها العدوانية في المدينة المقدسة”.

خامسا – ان اردوغان ومن خلال قراره المرفوض جملة وتفصيلا انما يريد اثارة الفتن والنعرات الطائفية والكراهية في مجتمعاتنا وقد تحدث في كلمته عن الاقليات المسيحية في تركيا وتناسى ان الحضارة المسيحية في القسطنطينية وفي تركيا الحالية هي التي اتى اجداده واحتلوها ونسبوها إليهم.

سادسا – كيف يمكن لنا ان نصدق بأن اردوغان هو مع فلسطين وهو يكذب على ذقوننا جميعا، وفي الوقت ذاته يحتل جزءا من جزيرة قبرص، ويعمل على تفكيك مجتمعاتنا واثارة الفتن في صفوفنا وبين ظهرانينا، وهي السياسة ذاتها التي كانت سائدة في الحقبة العثمانية في هذه المنطقة العربية (سياسة فرق تسد)..

سابعا – لقد ذكرتنا يا اردوغان بشهدائنا وبكنائسنا المنهوبة وذكرتنا بالمجازر المروعة التي ارتكبها العثمانيون بحقنا وبحق كثير من شعوب مشرقنا، وها انت تواصل مسيرة الاجرام والحقد والعنصرية والهمجية التي كان يتبعها اسلافك من العثمانيين المجرمين الحاقدين.

ثامنا – لا نعترف بمرسومك واجيا صوفيا كانت وستبقى كنيسة والمسيحيون في تركيا ليسوا اقليات كما تدعي بل هم الاصل وأنتم المحتلون والمستعمرون وهذه هي الحقيقة التي يتنكر لها الكثيرون ويا للأسف الشديد.

تاسعا – اجيا صوفيا ليست تراثا عثمانيا بل هي تراث مسيحي مشرقي ارثوذكسي شاء من شاء وابى من ابى، ونقول لاردوغان ومرتزقته في كل مكان بأن المسيحيين في هذا المشرق لن تنحرف بوصلتهم ولن تكون هذه البوصلة الا في الاتجاه الصحيح فأنتم تريدوننا ان نعيش في حالة تيه وتشرذم وتفكك وفتن وضغينة وكراهية اما نحن فنقول لكم بأن رسالتنا كمسيحيين في هذا المشرق ستبقى رسالة المحبة والاخوة والدفاع عن قضايا العدالة وفي مقدمتها قضية فلسطين.

عاشرا – ان حقدك وعنصريتك يا ايها الرئيس التركي لن تؤثر علينا كمسيحيين ولن تؤثر على معنوياتنا وتاريخنا وتراثنا وعراقة وجودنا وحضورنا.

حادي عشر – انت تخدم المشروع الصهيوني والامريكي الهادف من افراغ منطقة الشرق الاوسط من المسيحيين وتحويلنا الى اقليات في اوطاننا ولن نكون اقليات ولن نكون اهل ذمة ولن نكون ضيوفا في اوطاننا التي ننتمي اليها بكل جوارحنا.

ثاني عشر – لن ينجح مخططك يا اردوغان، ولعنة كاتدرائية اجيا صوفيا سوف تلاحقك في كل مكان، كما ان صفقة ترامب المشؤومة ومؤامرات تصفية القضية الفلسطينية مآلها الفشل ومزبلة التاريخ ايضا.

ثالثا عشر – من يتبنون فكر اردوغان ونهجه لن يكونوا في يوم من الايام جزءا من معادلة تحرير فلسطين، لان فلسطين ليست موجودة على اجندتهم وهم منغمسون حتى النخاع بروح الكراهية والتطرف والعنف والطائفية المقيتة.”… انتهى

 

 

(3)

في رأيي المتواضع حَمَلَ بيان سيادة المطران مضامين وتعابير أشبه ما تكون بالكلمات التي حملها (بيان كليرمونت) عام 1096م، والصيحات التي مضى بها رهبان المسيحية في أوروبا تحريضا لهم على المسلمين مضطهدي المسيحيين ومنتهكي معابدهم وكنائسهم، كما ادعوا زورا وبهتانا!! وهذا هو الأخطر على الاطلاق، وهو بذلك يخدم الامبريالية الغربية التي كانت وما زالت تكيد لشرقنا العربي والإسلامي، وتريد له ان يظل عاجزا ومشلولا في ظل أنظمة الفساد والاستبداد التي يدعمها سيادة المطران كنظام المجرم بشار الأسد، ونظام الانقلابي الدموي السيسي، ولا احسبه الا داعما للقاتل والانقلاب حفتر في ليبيا، والعلمانية الفاشلة (عبير العيسى/الحزب الدستوري الحر وامثالها) في تونس ضد حركة النهضة.. الخ…

في بيان سيادته تحريض واضح وصارخ للعالم المسيحي ضد الرئيس اردوغان والدولة التركية الحديثة تحت قيادة حزب العدالة والتنمية ذي التوجهات الإسلامية، واتهامه للفتوحات الإسلامية بانها احتلال، معتبرا ان شعوب الشرق الأوسط قبل (الاحتلال الإسلامي!) كانت مسيحية، احتلت الحكومات الإسلامية ابتداء من الخلافة الراشدة مرورا بالأموية والعباسية وانتهاء بالعثمانية، اوطانهم واغتصبت مقدساتهم، واجبرتهم على التحول من المسيحية الى الإسلام.. هذا ما يفهم من قوله أولا: “وقد تحدث في كلمته (يقصد اردوغان – الكاتب) عن الاقليات المسيحية في تركيا وتناسى ان الحضارة المسيحية في القسطنطينية وفي تركيا الحالية هي التي اتى اجداده واحتلوها ونسبوها إليهم“.. وهذا ما يفهم من قوله ثانيا: “لقد ذكرتنا يا اردوغان بشهدائنا وبكنائسنا المنهوبة وذكرتنا بالمجازر المروعة التي ارتكبها العثمانيون بحقنا وبحق كثير من شعوب مشرقنا، وها انت تواصل مسيرة الاجرام والحقد والعنصرية والهمجية التي كان يتبعها اسلافك من العثمانيين المجرمين الحاقدين“.. وهذا ما يفهم من قوله ثالثا: ” لا نعترف بمرسومك واجيا صوفيا كانت وستبقى كنيسة والمسيحيون في تركيا ليسوا اقليات كما تدعي بل هم الاصل وأنتم المحتلون والمستعمرون وهذه هي الحقيقة التي يتنكر لها الكثيرون ويا للأسف الشديد“.. وهذا ما يفهم من قوله رابعا: “انت تخدم المشروع الصهيوني والامريكي الهادف من افراغ منطقة الشرق الاوسط من المسيحيين وتحويلنا الى اقليات في اوطاننا ولن نكون اقليات ولن نكون اهل ذمة ولن نكون ضيوفا في اوطاننا التي ننتمي اليها بكل جوارحنا..

من الواضح تاريخيا، ان الفتوحات الإسلامية لم تبدأ بالعثمانيين، وانما بدأت بالخلفاء الراشدين وما بعدهم من الخفاء الامويين والعباسيين، وكلهم كانت لهم مساهماتهم في تحرير البلاد والعباد من وحشية الإمبراطوريات القديمة فارسية ورومية وغيرها.. فإنْ اتهم سيادة المطران العثمانيين بالاحتلال واضطهاد المسيحيين وغيرهم، وهم الذين أكملوا ما بدأهم خلفاء الإسلام قبلهم، فإنه – عرف ذلك او لم يعرفه – إنما يتهم بذات القدر كل الحكومات الإسلامية بذات الاتهامات المتجنية والظالمة.. هذا مؤسف حقا، خصوصا وأننا لا نفرق في منطقنا بين فاتح راشدي او اموي او عباسي او عثماني، فكلهم فاتحون خدموا الإسلام ورسالته، كما خدموا الإنسانية، وكانوا بركة على شعوب الأرض وحضاراتها واديانها وشعوبها..

(4)

بلغ بيان سيادة المطران الأوج في لَجَجِهِ وتطاوله وانعدام موضوعيته، ناهيك عن سقوطه منطقا وعدلا في قوله: “من يتبنون فكر اردوغان ونهجه لن يكونوا في يوم من الايام جزءا من معادلة تحرير فلسطين، لان فلسطين ليست موجودة على اجندتهم وهم منغمسون حتى النخاع بروح الكراهية والتطرف والعنف والطائفية المقيتة“، وفيه اتهام باطل وساذج لكل من يحب الدولة العثمانية على اعتبارها جزءا من تاريخ الإسلام العظيم، ويؤيد الرئيس أردوغان لا على اعتباره نبيا معصوما او مَلَكاً مُرسلا، ولكن كرئيس ذي توجه إسلامي، انقذ تركيا الحديثة من يد الاتاتوركية الفاشية، وانتشلها من القاع السحيق الذي اوصلته اليه حكومات علمانية وانقلابات عسكرية جعلت من تركيا دولة لا قيمة لها ولا وزن، وجعلها في فترة قياسية واحدة من اعظم دول العالم تقدما وازدهارا وديموقراطية وحرية واستقرارا، الأمر الذي أثار عليه الصليبية الحديثة والصهيونية العالمية والأنظمة العربية الظلامية..

السؤال الأخطر، بماذا يتهم سيادة المطران كل من يحب دولته العثمانية – وكلنا نحبها مع 90% في العالم العربي والاسلامي – ويؤيد الرئيس اردوغان وحكومته تأييدا مبصرا لا تأييدا أعمى – وكلنا نؤيده مع 90% من العالم العربي والإسلامي؟!! إنه يتهنا جميعا، ويتهم 90% من امتنا العربية والإسلامية، بما في ذلك شعبنا الفلسطينية في اغلبيته الساحقة، بأننا لن نكون: ” في يوم من الايام جزءا من معادلة تحرير فلسطين، لان فلسطين ليست موجودة على اجندتهم وهم منغمسون حتى النخاع بروح الكراهية والتطرف والعنف والطائفية المقيتة“.. هكذا تماما.. سمح سيادة المطران لنفسه ان يصنف شعوبنا وامتنا ولاء لفلسطين او خيانة لها، بناء على معياره الجديد!!!!!!!!!! من يحب الدولة العثمانية ويؤيد أردوغان، فلا علاقة له بفلسطين، ولن يكون يوما من الأيام جزءا من عملية تحريرها.. اما من يكرهون الدولة العثمانية، ويتعبرونها احتلالا اغتصب الأوطان المسيحية، وأجبر المسيحيين على اعتناق الإسلام، والتي هي تهم باطلة وساقطة علميا، هؤلاء فقط – في نظر سيادته – هم المستحقون لشرف تحرير فلسطين!!!!! أرأيتم عبثا أفظع من هذا العبث، وجنونا – ارجو ان يكون مؤقتا – أشنع من هذا الجنون؟!! ليس الى هذا الحد يا سيادة المطران!! زودتها كثير..

 

(5)

اما محاولته إثارة سحب الغبار حول قناعاته التي فنَّدْتُ بعضا منها فقط فيما ذكرته سابقا، وذلك من خلال اعتبار إعادة أيا صوفيا الى حالها القديم مسجدا يرفع فيه الأذان أسوة بأخوته مساجد العالم العربي والإسلامي، مع بقائه مفتوحا ليظل معلما إنسانيا وحضاريا وسياحيا، اعتباره هذا القرار بمثابة الحكم ب – (الإعدام!!!) على قضية القدس وفلسطين، من حيث انها ستصبح متكأ للاحتلال الإسرائيلي لتحويل المسجد الأقصى الى كنيس يهودي، فهو ادعاء يُبَرِّئُ الاحتلال الإسرائيلي من جرائمه تجاه فلسطين ومدينة القدس الشريف والمسجد الأقصى المبارك، ابتداء من تأسيس الحركة الصهيونية مرورا بالنكبة والاحتلال الإسرائيلي عام 1967 وحتى يومنا هذا، والتي سعى خلالها الاحتلال الإسرائيلي لتهويد القدس، والتمهيد لتهويد مقدساتها وعلى راسها المسد الأقصى المبارك، بدون اية علاقة مع أيا صوفيا او غيرها!! فمحاولة الربط بين القضيتين أمر مضحك مبكي، وكأن إسرائيل كانت تنتظر قرار اردوغان بشأن أيا صوفيا، حتى تبدأ بتحويل المسجد الأقصى كنيسا لليهود!! أهنالك لامنطق أسوأ من هذا اللامنطق؟!!!

شعرت باطمئنان كبير لِما ذهبتُ اليه من تحليل حول الخطأ الكبير الذي وقع فيه سيادة المطران في محاولته الربط بين أيا صوفيا والمسجد الأقصى المبارك، بعدما استمعت صباح الاثنين الموافق 13.7.2020 الى حوار عبر أثير إذاعة الشمس، اجراه الصحفي جاكي خوري مع بروفسور محمود حول مسجد ايا صوفيا، حيث أبدى بروفسور يزبك درجة عالية من الموضوعية العلمية في إجابته على أسئلة محاوره التي جاءت – كما يبدو –  صدى بقصد او بغير قصد، لبيان المطران حنا، حيث استعرض مجموعة الحقائق والوقائع التاريخية حول الموضوع، من حيث ان مسجد أيا صوفيا مسجل على اوقاف السلطان محمد الفاتح بعد ان اشترى الفاتح كنيسة ايا صوفيا ابان فتح القسطنطينية، وان الدولة التركية لم تعتد على أي كان داخل تركيا او خارجها، بإعادة المسجد الى حاله الذي كان عليه لنحو خمسمائة عام، بعد ان حوله اتاتورك عام ١٩٢٤ الى متحف..

كانت السؤال حول ما اذا كان  لقرار اردوغان بشأن أيا صوفيا أي تأثر محتمل من  على مستقبل ممارسات الاحتلال الإسرائيلي وانتهاكاتها لحرمة المقدسات الإسلامية والمسيحية وعلى رأسها المسجد الأقصى المبارك، جاء جواب بروفسور يزبك حاسما وغير متلعثم، إذا اكد على أنه لا مجال للمقارنة بين أيا صوفيا والمسجد الأقصى، فتركيا دولة ذات سيادة، تعاملت مع مسجد يقع تحت سيادتها القانونية والسياسية، وهي ليست دولة احتلال وانما هي دولة سيادية تتصرف بأملاكها وارضها واوقافها وفق مقتضيات هذه السيادة، خلافا للاحتلال الاسرائيلي الذي يحتل الارض والمساجد ولا يملك اي مسوغ قانوني او شرعي لتغيير واقعها، وإنْ فَعَلَ كما فعل مع المئات من الوقفيات الإسلامية مساجد ومقابر ومقامات وعقارات وغيرها من أنواع الوقف الإسلامي والمسيحي، فهو معتد حسب كل القوانين على اعتباره قوة احتلال، لا تعطيه انتهاكاته أي مسوغ قانوني او أخلاقي، وتنفي عنه أي صفة سيادية.. انتهى..

بالعودة الى بينان سيادة المطران حنا، فقد ذكرني كلامه بشأن العلاقة الموهومة بين الأقصى وآيا صوفيا، بقصة شبيهة مع الفارق.. فعندما خضنا معركة بناء مسجد شهاب الدين في مدينة الناصرة، على ارض وقف إسلامية لا خلاف على وقفيتها، وكان الحديث متزامنا مع احتفالات المسيحية بالألفية الثانية، تدخل الرئيس الراحل ياسر عرفات – رحمه الله – واستدعى وفدا من قيادات الناصرة الإسلاميين وكان رئيس الوفد المهند سلمان أبو احمد رئيس الهيئة السياسية في الحركة الإسلامية حينها، للقاء به في ديوانه بغزة.. من جملة ما ساقه المرحوم أبو عمار لإقناع الوفد بالتراجع عن بناء المسجد قريبا من كنيسة البشارة في الناصرة، حديثه عن ان بناء المسجد سيعرض مدينة القدس الشريف والمسجد الأقصى للخطر، وكأنها لم تكن في خطر قبل ذلك الوقت!!، وسيدفع دولا غربية والفاتيكان الى التراجع عن دعمهم للقضية الفلسطينية وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس! هكذا تماما..

ما حدث ان إسرائيل غيرت موقفها تجاه بناء المسجد، وقامت بهدم اساساته التي أقامها المسلمون في حينه، وتم إقامة حديقة عامة على انقاضه، ولم يقم مسجد في الموقع حتى الآن!! فهل غير هدم المسجد وتحويل موقعه الى حديقة عامة، من موقف الغرب عموما وامريكا خصوصا تجاه فلسطين والقدس والاقصى؟!! طبعا لا.. بل زاد التطرف الغربي، وانتهى الامر باعتراف أمريكا بالقدس الشرقية المحتلة جزءا من عاصمة إسرائيل الموحدة، ونقل سفارته اليها، وفعل مثله عدد من دول العالم.. تبع ذلك، الإعلان عن صفقة القرن التي تهدف الى انهاء القضية الفلسطينية لصالح (إسرائيل الكبرى) كما جاءت تفاصيلها في قانون القومية الإسرائيلي (2018).. فهل توقفت المؤامرة الغربية على فلسطين والقدس والاقصى المبارك حينما لم يبن المسلمون مسجدهم على ارض وقف شهاب الدين؟ هل تجاوز موقف الدول الأوروبية والفاتيكان في تعامله من الاحتلال الإسرائيلي وانتهاكاته الوحشية لفلسطين وطنا وشعبا ومقدسات، وفرضه واقعا جديدا يجعل من إقامة الدولة الفلسطينية سرابا خادعا ووهما بائسا، هل تجاوز موقفهم حدود الاستنكار وابداء القلق؟!!!

يبدو أن سيادة المطران متأثر باللامنطق العربي الذي ما زال يؤمن بان المزيد من التنازلات سيأتي بالحل في النهاية، وان إرضاء الغرب على حساب الثوابت الإسلامية والعربية، سيضع في حجورنا الشمس والقمر؟

يبدو أيضا ان سيادة المطران لا يريد ان يفهم ان اردوغان وتركيا معه، ليسوا كالأنظمة العربية الفاسدة التي باعت شعوبها واوطانها ودمرتهما، خدمة لذاتها او خدمة لأعدائها.. اردوغان ومعه اغلب الشعب التركي يمثلون بامتياز العزة الإسلامية التي لا تساوم على ثوابتها، ولا تستبدل الذي هو أدنى من المصالح الدنيوية الزائفة، بالذي هو أعظم وأعلى من الاعتزاز بالقيم والمبادئ والتاريخ العظيم، والوقوف بشموخ المؤمن في وجه كل التحديات والمخاطر والتهديدات العالمية، والثقة الكاملة بالله أولا، ثم بقدرة شعبه وقياداته ثانيا، في الوصول الى شاطئ الأمان من غير انحناء يجعل كرامة الامة نهبا لكل طامع..

فهل بعد هذا يريد سيادة المطران ببيانه، اقناعنا بأن القرار بافتتاح أيا صوفيا مسجدا كما كان على مدار خمسمائة عام، سيعرِّضُ القدس والاقصى لخطر التهويد، وكأن التهويد لم يبدأ منذ نكبة فلسطين وبعدها الاحتلال عام 1967، وما يزال مستمرا بدون اية علاقة مع أيا صوفيا؟!!!

هذا الربط التعسفي بين القضيتين بالرغم مما بينهما من اختلاف عميق يكاد يجعل المقارنة بينهما مستحيلا عقلا ومنطقا، ناهيك عن بطلانه دينا وشرعا وسياسة، فمن الواضح ان سيادة المطران يحاول بهذا إسناد موقفه المبدئي من الدولة العثمانية وأردوغان، والذي هو جزء من قناعاته القومية الرافضة ابتداء لفكرة إقامة دولة إسلامية سواء كانت تركية او عربية، بدليل تأييده المطلق لأنظمة الاجرام في العالم العربي، وعدائه المبطن أحيانا والعلني أحيانا أخرى لتيارات الإسلام السياسي الساعية لإقامة دولة على أسس إسلامية..

(6)

أما تذكير سيادة المطران للرئيس أردوغان بالعهدة المحمدية والعهدة العمرية في قوله: “ألم تسمع يا سيد اردوغان عن العهدة العمرية وقبلها العهدة المحمدية المحفوظة في دير سانت كاترين في سيناء، ألم تسمع عن الخليفة عمر بن الخطاب الذي التقى بطريرك القدس صفرونيوس وجالا معا في ازقة القدس العتيقة ودخلا الى كنيسة القيامة ونادى الخليفة بالحفاظ على مقدسات المسيحيين واوقافهم.. “، فمشكور عليها، إلا انه اعتبرها – ضمنا – خاصة بالرسول الاكرم صلى الله عليه وسلم، وبالخليفة العامل الفاروق عمر بن الخطاب رضي عنه، في إشارة مبطنة لا أدري ان كان يقصدها ام لا، من ان سياستهما لم تكن هي ذاتها التي تبنتها حكومات المسلمين فيما بعد، خصوصا الخلافة الإسلامية العثمانية..

سواء أراد سيادة المطران هذا المعنى أم لا، فلا بد من التأكيد هنا دفعا لأي سوء فهم، أن سياسة الرسول والخلفاء الراشدين كانت هي ذاتها التي اتبعها خلفاء المسلمين وحكوماتهم عبر تاريخهم الطويل الممتد لنحو أربعة عشر قرنا، قدموا فيه ارفع نموذج للفاتح العادل والرحيم والحاني على الشعوب التي دخلت تحت سلطانهم، من حيث أن هذه الشعوب هي أخت الامة الاسلامية في الانسانية بغض النظر عن دينها او لونها او عرقها.. منطلق حكومات الإسلام المتعاقبة في تبني هذه السياسة هو الدين الاسلامي الذي كرم الانسان من حيث هو إنسان في قوله تعالى: ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)، ودعا الأمم والشعوب على اختلاف اديانها واعراقها الى الالتقاء حول المشتركات في قوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)..

دعا هذا الخُلُقُ الرفيعُ التي تبنته كل حكومات الإسلام عبر التاريخ المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون لأن يشهد شهادته المنصفة حينما قال: (إِنَّ الْعَالَمَ كُلَّهُ لَمْ يَشْهَدْ فَاتِحًا أَرْحَمَ مِنَ الْمسلمين)، وفيها ما فيها من رّدٍّ على اتهامات كل المتطاولين من جميع الملل والنحل من أن الفاتحين المسلمين كانوا محتلين لم يرعَوْا في الأمم التي دانت لهم إلاًّ ولا ذمة، وهو ما ثبت عكسه تماما لباحث لم نعرف انه اعتنق الإسلام يوما..

(7)

يكفيني هنا أن أذكر سيادة المطران بما يعرفه جيدا، من ان مدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك، في عقيدة المسلمين لهما مكانتهما المقدسة منذ فجر التاريخ، وفيها أقيم ثاني مسجد في تاريخ البشرية بعد اربعين عاما من بناء الكعبة المشرفة في مكة، وهو المسجد الأقصى.. اليها أسْرِيَ بالنبي الكريم عليه الصلاة والسلام، ومنها عُرِجَ به الى السماء لقاء ربه، وفيها صلى الأنبياء وراء الرسول الكريم.. فهي مقدسه ابتداء، ولذا سعى المسلمون الى تحريرها من قبضة المحتل البيزنطي.. عرف بطريرك القدس صفرونيوس هذه الحقيقة، الا انه رفض تسليم مفاتيحها صلحا الا لرجل وردت صفاته في الانجيل.. استوعب الخليفة عمر عِظَمَ اللحظة التاريخية، وعلم مسبقا ما للقدس من مكانة في قلب النبي الكريم وقلوب المسلمين جميعا، فخرج بنفسه تكريما للقدس لتسلم مفاتيحها، وهو الذي لم يخرج لتسلم مفاتيح مدينة قط على كثرة ما فتحت جيوشه من المدن.. لم تكن القدس وكرا للإفساد في الأرض، ولا كان بطارقتها عملاء للمحتل البيزنطي، ولا دعم أهلها بيزنطة ضد المسلمين، ولذلك استحقت ما استحقت من احترام وتقدير..

اما القسطنطينية حكاما وبطاركة فقد عاثت في الارض فسادا، وكادت للدولة الإسلامية عبر تاريخ طويل استمر لأكثر من 800 عام، وكبدت خلالها المسلمين خسائر لا تحصى، وكانت جزءا من حملات صليبية استهدفت الوجود الإسلامي برمته، كان لا بد من تأديبها الذي انتهى بفتحها كما فُتحت قبلها عواصم امبراطوريات كفارس، ومدنا عظيمة كانت حواضر للدولة البيزنطية كدمشق وغيرها.. الخ..

حفظ المسلمون لشعوب هذه المناطق المحررة حقوقهم وكنائسهم واديانهم.. الا ان القسطنطينية التي شكلت وكر الافعى كان لا بد من اسقاطها، وما سقطت الا حربا، وكان لا بد من تسوية امورها، فكان العفو العام عن سكانها، والمحاسبة الصارمة لعتاتها.. اما أيا صوفيا، فلم يمسها الفاتح بسوء، ولم يغير وضعها، الا بعد ان باعها له بطاركتها، حيث اشتراها منهم بالمبلغ الذي طلبوه، ولم يمارس عليهم ضغطا من أي نوع بحكم فتحته للمدينة.. عندها، وعندها فقط (1453م) حولها الى مسجد، واستمر المسجد على حاله حتى قرار اتاتورك تحويله الى متحف (1924م)..

لعلي لا اضيف جديدا لسيادة المطران ان لَفَتُّ انتباهه الى ان المسلمين في أوروبا وامريكا يشترون كنائس وكُنُسا من حر مالهم، ليحولوها الى مساجد، وهذا كما فهمت من رهبان وحاخامات كثيرين التقيت بهم عبر سنين طويلة، جائز جدا في المسيحية واليهودية..

اما الدين الإسلامي فلا يسمح ببيع المساجد او المقابر او الأوقاف الإسلامية تحت أي ظرف او سبب، لأنها ملك لله تعالى، أوقفت من اجل تخدم المسلمين وغير المسلمين، ولتكون تحت تصرفهم ابد الدهر..

(8)

لو ان سيادة المطران عطا الله حنا اعترض على افتتاح أيا صوفيا مسجدا من خلال منطق هادئ وعقلاني، بعيدا عن استدعاء التاريخ الطويل الامر الذي أوقعه في حيص بيص، لربما وجد من المسلمين من يؤيده.. اما ان يشن هذه الحرب على التاريخ الإسلامي كله، وإحيائه صيحات الحروب الصليبية القديمة التي حملت نفس الشعارات، واتهامه الفتوحات الإسلامية بالاحتلال، وبانتهاك حقوق الشعوب وبالذات المسيحية، بما يخالف الواقع الذي اعترف بها عباقرة الغرب ومفكروهم المنصفون، وحديثه  المستهتر والمستخف عن اهل الذمة، وهو مصطلح فقهي جليل له أصله في القرآن الكريم، يضع المسيحيين واليهود موضع المواطنين المتساوين مع زيادة نوعية في مواطنتهم تجعلهم في ذمة المسلمين وذمة خليفتهم، والذي يعني الحرص الشديد على تمتعهم بكامل حقوقهم بضمانة الدولة لا من منطلق السياسة ولكن من منطلق الدين..

لم يكتف سيادة المطران بذلك، بل ذهب بعيدا في ورفضه الواضح والمباشر لمشروع كل المسلمين في العالم الا قليلا من العلمانيين والليبراليين الاستئصاليين، لإقامة الدولة الإسلامية الموحَّدَة جغرافيا وديموغرافيا وسياسة وحكومة ومرجعية، مندفعا بقناعاته القومية الرافضة لسيادة الدين الإسلامي وحقه في إقامة دولته، كل ذلك، لا يمكن اعتباره الا تطاولا ما كان ينبغي ان يصدر من سيادة المطران المحترم الذي نُكِنُّ له كل الاحترام والتقدير، وهو قامة لا ينبغي له أن يلهو مع من يلهو، ولا يسهو مع من يسهو، ولا يلغو مع من يلغو، ولا يعبث مع من يعبث، تعظيما لمكانته وما يحمل من رسالة المسيح عليه الصلاة والسلام..  يتبع…

**** الرئيس السابق للحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • رائد م.
    منذ سنتين

    ترديد لمقولات التاريخ الاسلامي المزور. لبعالم يتغير لكن انتم لا تتغيروا. الان نعرف ما حدث حقيقة في التاريخ الاسلامي بعد دراسات كثيرة وانتم باقون في العصور الوسطى

  • ابو عمار
    منذ 4 سنوات

    تصريحات المطران صادمة.