وجهة نظر

تأملات في تقنية التحفظات

تعلمنا مذ كنا براعم صغارا أن الوحدانية من الصفات الواجبة في حقه تعالى،هذه الواحدية التي أكدها القرآن الكريم في أكثر من موضع، ﴿قل هو الله أحد﴾الإخلاص( الآية1)

أما الصفات الواجبة في حق الإنسان -إن صح مني هذا التعبير- فهي التعددية و الإختلاف، حتى إن قدماء المفسرين للقرآن الكريم، اعتبروا التعددية علةَ خلقِ اللهِ الناسَ، فها هو القرطبي مثلا، يقول في” الجامع لأحكام القرآن” -وهو يفسر الآية 118 من سورة ﴿هود﴾- ” و للإ ختلاف خلقهم”، أما صاحب “تهافت الفلافسفة ” فقد رفع عقيرته  مستنكرا ومتعجبا في” قسطا سه المستقيم” قائلا ما مفاده، وكيف يجتمع الناس على رأي واحد وقد تقرر منذ الأزل بأنهم لا يزالون مختلفين!، وأثيرة تلك الفقرة التي نقرأها في “مقابسات” أبي حيان التوحيدي، حيث يقول:”إن الناس في أصل جبلتهم وبدء خلقتهم قد افترقوا مجتمعين واجتمعوا مفترقين واختلفوا مؤتلفين وائتلفوا مختلفين”.

ومن ثم فليس من المغالاة القول بأن هذه التعددية، إنما هي صفة فطرية، جبلية، لصيقة بالإنسان مذ كان، وبالتالي فهي حق من حقوقه الطبيعية ،السابقة في وجودها لكل دولة أو سلطة أو منظمة أو قانون.غير أن الناس مع اختلافهم هذا، أدركوا أنْ لامناص من دخولهم في علاقات التعاون، و الإعتماد المتبادل فيما بينهم،.وقد أجاد المتنبي حين قال :

الناسُ للناسِ مِنْ بَدْوٍ وَحاضِرَةٍ  …………..بَعْضٌ لِبَعْضٍ وإِنْ لَمْ يَقْصِدوا فَعَلوا.

وهذا ما اقتضى وضع قواعد قانونية، بغرض تنظيم نشاط الجماعة،سواء أكانت في مجتمع واحد أم على مستوى ما يعرف بالمجتمع الدولي لكي تتعامل الدول فيما بينها على أساس قواعد واضحة ، ومنها إبرام الإتفاقيات الدولية لحماية حقوق الإنسان و الحفاظ عليها، على اعتبار أن حمايتها أصبحت من صميم حماية المصلحة العامة للجماعة الدولية، المتعلقة بالحفاظ على السلم والأمن الدوليين ،كما عبر عن ذلك بوضوح ميثاق الأمم المتحدة الذي اعتبر حقوق الإنسان” أحد المقاصد الرئيسية لمنظمة الأمم المتحدة.”

هذه الحقوق التي لم تعد تندرج ضمن ما يعرف في القانون الدولي بالمجال المحفوظ المنبثق من مبدأ السيادة  الوطنية ،وذلك استنادا إلى التزام الدولة بمقتضى المادة(56) من ميثاق الأمم المتحدة التي تنص على التعاون مع الأمم المتحدة لبلوغ و تحقيق أهدافها المنصوص عليها في المادة (55) ومن بينها “الإحترام العالمي والفعلي لحقوق الإنسان و الحريات الأساسية للجميع”.

وبما أن الحضارات تتسم بالتمايز من حيث  مرجعياتها العقدية والفكرية والتاريخية ….إلخ، فإن تصورات أصحابها لمفهوم الحقوق والحريات تختلف تبعا لذلك، من أمة إلى أخرى ، ومن ثم كان لابد من جامع لهذه التعددية الأممية ،والتمايزات الحضارية، الأمر الذي لم يَعْدِمْ معه الفكر القانوني الإنساني حيلة فلجأ إلى تقنية التحفظ أو التحفظات، عَلَّها تشجع الدول و تدفعها باتجاه مشاركة واسعة في الإتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان دونما مساس بخاصياتها الوطنية والإقليمية ومختلف الخلفيات التاريخية والثقافية والدينية.وإلى هنا يسوغ لنا أن نسأل و نتساءل عن مدى إمكانية التعويل على تقنية التحفظات هذه  للتوفيق -حقا و صدقا- بين ثنائية الخصوصية والكونية ؟ أم إنها لا تعدو كونها استدراجا مطلوبا، و شَرَكا منصوبا ، بغية الإختراق الثقافي من أجل تنميط مجتمعات باقي دول العالم، لصالح دول الشمال القوية، التي تحكمها عقلية التمركز الحضاري الغربي.

وقبل ذلك، كيف تعاطت الدولة المغربية مع هذه التقنية من خلال ممارستها الإتفاقية في مجال حقوق الإنسان ؟

مفهوم التحفظ في اللغة و الإصطلاح

(التحفظ) ويقابله في اللغة الإنجليزية  Reservation  ومعناه اللغوي بحسب ما ورد في لسان العرب لابن منظور:” هو قلة الغفلة في الأمور و الكلام والتيقظ من السقطة كأنه على حذر من السقوط” والتحفظ :التيقظ.

أما دلالته الإصطلاحية فنجدها في المادة الثانية الفقرة( د) من (اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لسنة (1969) حيث نصت على أن :”التحفظ هو كل تصريح من جانب واحد كيفما كانت صيغته أو اسمه تقدمه دولة عندما توقع على معاهدة أو تصادق عليها أو تقبلها أو توافق عليها أو تنخرط فيها وتهدف إلى استثناء أو تغيير المفعول القانوني لبعض مقتضيات المعاهدة في تطبيقها على هذه الدولة”.

وتأسيسا على ما سبق فكأن الدول وهي بصدد المصادقة على اتفاقية من الإتفاقيات تتوخى كامل حذرها و حيطتها، حتى لا تسقط فيما يُخِلّ بسيادتها الوطنية أو ينال من خصوصيتها و شخصيتها الحضارية.

بيد أن جواز إبداء التحفظات  ليس مطلقا، بل وردت عليه بعض الإستثناءات وفقا للمادة(19) من الإتفاقية المشار إليها أعلاه ، ومن بين هذه الإستناءات مثلا، ألا يكون التحفظ ممنوعا في المعاهدة، كما هو الحال بالنسبة للمادة (17) من البروتوكول الإختياري الملحق باتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، هذا البروتوكول الذي صادق عليه البرلمان المغربي في السابع من يوليوز سنة (2015).

هذا وإن التحفظات نوعان ، تحفظات مسطرية وأخرى جوهرية أما الأولى فتنصب على آليات اشتغال الهيئات التعاهدية المنبثقة عن الإتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان المعنية بمراقبة مدى احترام الدول الأطراف للحقوق والحريات المنصوص عليها في كل اتفاقية .”كلجنة القضاء على التمييز ضد المرأة” و”لجنة مناهضة التعذيب” و”لجنة حقوق الطفل” ……إلخ.

في حين تنصب الثانية -أي التحفظات الجوهرية- على مضامين بنود أو بعض بنود الإتفاقية،والذي يعنينا في هذه المقالة هو النوع الثاني وهذا ينقلنا إلى الفقرة التالية.

ممارسة المغرب الإتفاقية في مجال حقوق الإنسان

نص المشرع الدستوري المغربي منذ الدساتير الثلاثة الأولى(1962 / 70 / 72)على أن المملكة المغربية عضو نشيط في التنظيمات الدولية ملتزم بما تقتضيه مواثيقها من مبادئ وحقوق وواجبات .مع العزم على مواصلة العمل للمحافظة على السلم والأمن في العالم.

ثم زاد -أي المشرع- في دستوري (1992/ 96 )عبارة “تشبث المغرب بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا”.

أما دستور (2011) إضافة إلى ما سبق، فقد جعل الإتفاقيات الدولية تسمو على التشريعات الوطنية ولكن،في نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الوطنية الراسخة.

كما نصت وأجمعت كل الدساتير آنفة الذكر على أن الإسلام هو دين الدولة المغربية ،و قرر الدستور الحالي عدم إمكانية مراجعة الأحكام المتعلقة بالدين الإسلامي( الفصل 175 )،أي أنها من الثوابت المستقرة والتي لا يمكن المساس بها “رُفِعت الأقلام و جَفَّتِ الصُّحُف”.

التزاما وانسجاما مع هذه الخلفية الدستورية العتيدة،انخرط المغرب في ممارسته الإتفاقية في مجال حقوق الإنسان وحرياته الأساسية .

فلا غرو إذن أن لجأ المغرب -على غرار جل الدول الأطراف في المعاهدات و الإتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان – إلى إبداء التحفظات و التصريحات، في حالة تعارض أو اختلاف بعض بنود هذه الإتفاقيات مع خصوصياته التي تعهد الدستور نفسه بحمايتها باعتبارها ثوابت جامعة، عليها تستند الأمة المغربية في حياتها العامة.

طبعا فإننا لسنا بصدد تناول كل تحفظات المغرب الجوهرية بخصوص القانون الدولي لحقوق الإنسان ، إذ إن تتبع ذلك على سبيل الإستيعاب غير ممكن في هذه العجالة .

لذلك سنقتصر على اتفاقية واحدة  لا تقل أهمية عن باقي الإتفاقيات، التي تشكل في مجموعها  النواة الصلبة للقانون الدولي لحقوق الإنسان.

وأقصد هنا الإتفاقية الدولية من أجل القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة ،المعروفة اختصارا ب: (سيداو).

وكما هو معروف فإن اتفاقية (سيداو) قد أثارت ومازالت تثير جدلا واسعا لايكاد يتوقف حتى يبدأ من جديد، ومن ثم لم يكن غريبا أن جاءت مصادقة المغرب على هذه الإتفاقية مرفوقة بتحفظات وتصريحات طالت المواد: (2) (9ف2 ) (15) (16) …..

نعم، لم يكن هذا بالشيء المستغرب بالنسبة لمرجعية تعتمد مبدأ المساواة على قاعدة التكاملية لا التماثلية و النِّدِّيَة، كما هو الحال بالنسبة للمرجعية الفكرية و الفلسفية ،الكامنة وراء هذه الإتفاقية برمتها.

 

فعلى سبيل المثال، فإن المادة الثانية تتضمن ما فيه إخلال واضح بالمقتضيات الدستورية ،التي تنظم قواعد توارث عرش المملكة المغربية، هذه القواعد التي تستند إلى إجماع علماء الأمة على أن المرأة لا تتولى الإمامة العظمى، أي رئاسة الدولة.

أما التحفظ على الفقرة الثانية من المادة التاسعة التي تنص على منح المرأة حقا مساويا للرجل فيما يتعلق بجنسية أطفالها، فقد جاء بناء على قانون الجنسية المغربي الذي لا يسمح بذلك، وقد تم رفع هذا التحفظ وفقا للخطاب الملكي  بتاريخ: 10/12/2008، الذي أعلن فيه عن سحب المملكة للتحفظات المسجلة بشأن اتفاقية (سيداو) التي أصبحت متجاوزة بفعل التشريعات المتقدمة التي أقرتها بلادنا.

أما بخصوص الفقرة الرابعة من المادة الخامسة عشرة التي تنص على أنه ” تمنح الدول الأطراف الرجل والمرأة نفس الحقوق فيما يتعلق بالتشريع المتصل بحركة الأشخاص وحرية اختيار محل سكناهم وإقامتهم ” فإن التصريح الذي وضعه المغرب بخصوصها فقد اشترط عدم التعارض مع مقتضيات المادتين 34/36 من مدونة الأحوال الشخصية- صادق المغرب على سيداو سنة 1993- أي قبل صدور مدونة الأسرة الحالية بإحدى عشرة سنة.

وجدير بالذكرهنا أن المشرع المغربي قد التزم الصمت في مدونة الأسرة، ولم ينص صراحة على مسؤولية الزوج المادية، فيما يتعلق بإعداد بيت الزوجية ، ولا أفهم من هذا إلا رغبةَ المشرع في إفساح المجال لإعمال إرادة طرفي عقد الزواج ، وذلك على ضوء روح الآية الكريمة من سورة الشورى:﴿وأمرهم شورى بينهم﴾( الآية48) وكأنه بذلك كان يهدف إلى تمهيد السبيل، و تعبيد الطريق، من أجل سحب الدولة المغربية لتصريحها المشار إليه أعلاه.وهذا ما حدث بالفعل بحسب التقرير السنوي عن حالة حقوق الإنسان لسنتي 2005/2006

أما فيما يتعلق بالمادة السادسة عشرة الأكثر إثارة للجدل في هذه الإتفاقية، فقد سجل المغرب تحفظه عليها، لما تتضمنه من أحكام متناقضة بشكل صارخ مع أحكام الشريعة الإسلامية، المؤطرة للحقوق والواجبات المترتبة على عقد الزواج، بالنسبة لطرفي هذة العلاقة المتميزة عن باقي العلاقات الأخرى.

فالإتفاقية تنص على نفس الحقوق بالنسبة للطرفين عند إبرامهما عقد الزواج، بينما قررت أحكام الشريعة أن يؤدي الزوج المهر للزوجة (وآتوا النساء صَدُقاتِهن نِحْلَةً) النساء (الآية4) و النِحْلَةُ هي الفريضة و العبادة.

كما قررت نفس المسؤؤليات دون تمييز أثناء قيام العلاقة الزوجية وكذا عند انحلال ميثاقها، وهذا يخالف ما قضت به  الشريعة حيث تحمل هذه الأخيرة الرجل النفقة ،وهذا ما نصت عليه مدونة الأسرة من خلال المادة (194)، إذ إن الزوجية من أسباب وجوب النفقة، وكذا في حالة الإنفصال و الطلاق فالرجل وحده مطالب بأداء مصاريف ما يسمى بنفقة العدة ومتعة المطلقة المادة(83-84….)

وإذا كان مبدأ المساواة –التماثلية- بين الرجل والمرأة، هو جوهر اتفاقية سيداو، فإن الدستور المغربي رهن ذلك من خلال الفصل (19) بثوابت المملكة ،وأن( شرع الله فوق كل التزام) كما جاء في بلاغ المجلس العلمي الأعلى بتاريخ:19/12/2008 .الأمر الذي يجعل المغرب في مرمى توصيات اللجان التعاهدية ومطالبات باقي الكيانات الحقوقية الأخرى،وهذا ينقلنا بدوره إلى الفقرة الأخيرة .

رؤية نقدية لتوصيات اللجان المختصة

إن لنظام التقارير أهمية قصوى فيما يخص تتبع ورصد مدى احترام الدول الأطراف في الإتفاقيات الدولية لإلتزاماتها، والعمل على تنفيذ مقتضياتها، ومدى أخذها لتوصيات اللجان التعاهدية مأخذ الجد.

فبخصوص اتفاقية سيداو مثلا فإنها وفقا للمادة (18) تتعهد الدول الأطراف بأن تقدم للأمين العام للأمم المتحدة تقريرا عما اتخذته من تدابير تشريعية وقضائية وإدارية وغيرها من أجل إنفاذ أحكام هذه الإتفاقية .وذلك كل أربع سنوات على الأقل أو كلما طلبت لجنة سيداو ذلك.

وينبغي أن تتضمن هذه التقارير الرسمية الصعاب والعوائق التي تحول دون وفاء الدول الأطراف بالتزاماتها المقررة في الإتفاقية.

ولقد قررت لجنة سيداو منذ سنة (1993)عدم الإقتصار على فحص و دراسة هذه التقارير بل ذهبت إلى حد إقرار توصيات وملاحظات أوصت هذه اللجنة من خلالها بتقديم تبريرات لاستمرار التحفظات، وبضرورة رفعها! وتبنت جملة من التوصيات في هذا الصد د وفقا لما جاء في التوصية التي اعتمدتها لجنة سيداو في الدورة (19) .

وهذا ما ذهب إليه إعلان وبرنامج عمل بكين حيث أكد على” ضرورة تقييد التحفظات الواردة على اتفاقية سيداو، وضمان تماشيها مع موضوع الإتفاقية و غرضها، والحرص على مراجعتها بانتظام بغرض سحبها.!

 

وهكذا اتخذت بعض التنظيمات و الهيئات العربية العاملة في مجال حقوق الإنسان عامة ،والمرأة خاصة، هذه التوصيات منصة انطلاق نحو المطالبة بسحب التحفظات، واصفة إياها” بالخطرة “،و بكونها” تكرس النظام الأبوي السائد ،والقائم على التمييز، وعلى دونية النساء و الإمتيازات الذكورية التي تجد أساسها  في الموروث الثقافي والديني الذي يضفي عليها طابع القداسة “!.

و ذلك ما يتنافى مع المادة الثانية من سيداو، التي تلزم الدول الأطراف بضرورة ضمان تمتع النساء بجميع الحقوق دون تمييز، وباتخاذ الإجراءات المناسبة التي يقتضيها هذا الإلتزام.

فأعلنت هذه التنظيمات القيام بحملة كبرى مشتركة، من أجل حمل جميع الدول العربية على رفع جميع التحفظات أثناء مؤتمر أقيم بالرباط في يونيو(2006) بإشراف (الفديرالية الدولية لحقوق الإنسان) تحت شعار “المساواة دون تحفظ “و أصدرت بيانا صار يعرف ب:”نداء الرباط” .

وهكذا ُينْقَضُ كل شيء من أساسه، وكأننا بتلك الخرقاء، الحمقاء التي حدثنا عنها القرآن الكريم، التي كانت لا تغزل غزلا إلا عادت لتنقضه من جديد، ﴿ ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا﴾ النحل(92).

نخلص مما تقدم إلى أن تقنية التحفظات من خلال هذه التوصيات و المطالبات تبدو وكأنها فخ أو لعبة وخيمة العواقب، بحيث ما أن تطأ الدولة الطرف أرضية هذه الإتفاقية، مُصادَقَة و انضماما، حتى تبدأ عملية المطاردة، بدءا بالأمم المتحدة من خلال الأمانة العامة، مرورا بالآليات التعاهدية وغيرالتعاهدية وانتهاء بالمنظمات الحقوقية ،الدولية ،و الإقليمية، وكذا الوطنية.

جميعهم يطالبون بسحب ما تم التحفظ عليه ، بغض النظر عن الأساس الذي اعتمدته الدولة المتحفظة ودونما اكتراث بالأمن الثقافي للشعوب والأمم ،هذا الأمن الذي نصت المرجعية الدولية نفسها، في كثير من مواثيقها على ضرورة أخذه بعين الإعتبار !.

وليس المقصود بالأمن الثقافي هو ذلك التقوقع على الذات، والإعراض عن التفاعل مع باقي الثقافات الإنسانية،فما يقول بهذا عاقل ،وإنما القصد هو ممارسة الحق في الإختلاف ،هذا المبدأ الذي كثيرا ما يُتَشَدّقُ بإقراره للمجتمعات والجماعات والأفراد،وذلك باسم “احترام الآخر”، “الإعتراف بالآخر”، “التسامح مع الآخر”،”وهل حق الإختلاف إلا حق الإختصاص بأشياء”!!

أم إنها ثقافة القوة –لا قوة الثقافة- التي تدهس بعجلاتها الرهيبة، تلك الصفة الفطرية، اللصيقة بالإنسان التي استهللنا بها هذا المقال.وإذا كانت الدول لا تلتزم بغير إرادتها، بحسب إحدى فتاوي محكمة العدل الدولية، فإن منطق التوصيات يظهر القانون الدولي كأنه يأخذ بشماله ما سبق وأن قدمه بيمينه.

وهنا نتذكر الرئيس الأمريكي الأسبق( رتشارد نيكسون)- وهو الإستراتيجي المرموق- في كتابه

(Seize The moment ) و الذي ترجم إلى العربية بعنوان (الفرصة السانحة) فبعد توصيته بضرورة دعم التيارات العلمانية في العالمين العربي والإسلامي قال بالنص:” وسوف تلعب السياستان الأمريكية والغربية مع المسلمين دورا رئيسيا في تحديد الخيار الذي تختاره الشعوب المسلمة”!.وفي نفس الفترة- أي تسعينيات القرن الماضي- سئل جياني ديميكليس رئيس المجلس الوزاري الأوروبي عن مبررات بقاء حلف الناتو بعد زوال خطر المواجهة مع المعسكر الشرقي فأشارإلى ما سماه ” بالخطر الأخضر”! ثم أردف قائلا: “وإذا فشلنا في تعميم ذلك النمودج الغربي فإن العالم سيصبح مكانا في منتهى الخطورة…”!.وهذا تهديد رسمي و جلي، تغمره روح قابيل العدوانية من قمة رأسه حتى أخمص قدميه ﴿لأقتلنك﴾.

ومعروف عن هؤلاء القوم أنهم يخططون للمستقبل بعيده و قريبه، والذي يمتد إلى عقود بل قرون من الزمن، مما يجعل الأمر يبدو وكأن الهدف المنشود من تقنية التحفظات في إطار القانون الدولي لحقوق الإنسان، هو الهدف نفسه المقصود من التنوير و الحداثة- بمفاهيم ومضامين غربية خالصة – في الإطار الفكري و الفلسفي. أي إننا بإزاء تلك الشجرة الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ- حيث لويس التاسع ووصيته الشهيرة- والممتدة أغصانها إلى الحاضر فالمستقبل حيث هذا الجيش الجرار من المفكرين و الإستراتيجين العتاة، ومراكز الدراسات المتقدمة جدا.

إذن فما معنى الإعتراف بالتمايز الحضاري، إذا كان يُرى في حرص المجتمعات الأخرى على جذورها الحضارية أمرا سيجعل من العالم” مكانا في منتهى الخطورة”، ويؤدي بالتالي إلى” صدام الحضارات”! بكلمة واحدة إنه الغزوالثقافي، الذي يروم وضع قيم مكان قيم، وتغيير ملامح أمة ومحو شخصيتها الحضارية.

ومن العجائب والعجائب جمة ، أن القوة العظمى -ومن يدور في فلكها من بني حضارتها- التي نصبت نفسها زعيمة “العالم الحر” وجعلت من نفسها الحارس الأمين على حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، والتي تصدر خارجيتها تقريرا سنويا عن أحوال حقوق الإنسان في كل دول العالم ،سرعان ما تتنكر لهذه الحقوق، فتقلب لها ظهر المِجَن ،كلما لاحت لها مصلحة هنا أو هناك، كما هو الحال في سوريا واليمن وليبيا و أفغانستان، والحبل على الجرار….

وذلك لإيمان هذه القوة  بأن المصلحة هي جوهر السياسة الخارجية ،مما يتطلب اللجوء إلى أخلاقيات تختلف عن تلك  التي يلجأ إليها الأفراد في علاقاتهم الشخصية ،بحسب (هانز مورجنتاو) أحد أبرز رواد المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية وذلك في كتابهPolitics among nations  (السياسة بين الأمم).

و لم يبتعد عن الصواب قيد أنملة أحد الشعراء المعاصرين حين قال:

وحقوق الإنسان لوحة رسام     أجاد التزوير و التضليلا

طبعا ،إن شاعرنا لا ينكر حقوق الإنسان ،التي هي هبة من الخالق وليست منة من أحد كائنا من كان.

ولعل الدلالة البلاغية للبيت واضحة بحيث لا يخطئها لبيب.

وفي ختام هذه الإلمامة السريعة،أستحضر ما قاله “شمس التبريزي” “لسليمان السكير” في رواية (قواعد العشق الأربعون):(…نختلف ،و لا يشبه أحدنا الآخر.لا يوجد اثنان متشابهان،و لا يوجد قلبان ينبضان على الإيقاع نفسه.و لو أراد الله أن نكون كلنا متشابهين ،لكان له ذلك.لهذا السبب،فإن عدم احترام الاختلافات،وفرض أفكار المرء على غيره،يرقيان إلى عدم احترام النظام المقدس الذي أبدعه الله)

 

باحث قضايا حقوق الإنسان

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • شكري سرحان
    منذ 3 سنوات

    تحياتي لصاحب المقال، أشفيت غليلي في كل كلمة كتبتها، تسلسل منطقي في المقال وحقائق لا ينكرها عاقل، وما أعجبني أكثر في مقالك (التطعيم والاستدلال) الاستدلال بتصريحات رؤساء وأبيات شعرية جاءت على لسان شعراء، وباختتامك المقال بمقطع من رواية "قواعد العشق الأربعون" يبلغ الوصف منتهاه،، مقال رائع صراحة يستحق الثناء عليه 💚☘️

  • عائشة
    منذ 4 سنوات

    مقال ماتع و نافع ، تحياتي لصاحب المقال

  • عائشة
    منذ 4 سنوات

    مقال ماتع نافع ، تحياتي لصاحب المقال