وجهة نظر

قرن على سايس بيكو إعادة تشكيل خارطة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

مقدمة:

شكلت معاهدة سايس بيكو بين القوى الاستعمارية الكبرى خاصة بين فرنسا وبريطانيا وبموافقة الإمبراطورية الروسية، الإطار العام لنشوء الدولة الوطنية من جهة ولتأزيم علاقات حسن الجوار بين الدول الناشئة عن تلك المعاهدة.

وعلى الرغم من أن المعاهدة والتي تعود لسنة 1916 م، قد شكلت اللبنة الأساس، المنخور أصلا، للدول العربية الحالية في مجملها، فإن مضي أكثر من قرن على هذه المعاهدة يجعلها محط نقاش، رفض وتشبت من طرف البعض الآخر.

  • مواقف متباينة
  • معاهدة مرفوضة.

منذ البدء رفضت النخب العربية معاهدة سايس بيكو وذلك إيمانا من هذه النخب بوحدة الأمة العربية من جهة واحتياطا من الألغام الموضوعة داخل المعاهدة، والتي لن تسمح حتى في المستقبل ” نتكلم في بداية القرن العشرين” ببناء دولة قوية بشكل أحادي.

بعد ثلاثة عقود من التوقيع على المعاهدة، ستعمل بريطانيا على صنع دولة جديدة في المنطقة بجالية ديموغرافية مكونة على أساس ديني تحت مسمى إسرائيل والتي ستعلن استقلالها سنة 1948 أي بعد 32 سنة على معاهدة سايس وبيكو.

هكذا ازداد رفض النخب العربية لمعاهدة سايس بيكو وتم التنظير للدولة القومية الواحدة من طرف القوميين العرب وفيما بعد، تم التنظير للدولة ” الدينية الواحدة” على أساس الأمة الإسلامية.

  • رفض من جهة وتشبت من جهة ثانية

 في بداية الخمسينات من القرن العشرين، ستعمل القوى الأكثر تنظيما في المنطقة على الاستيلاء على السلطة تباعا: 1952 بمصر، 1958 بالعراق، سوريا 1963… في هذه الفترة، تشبت العسكر الذي قاد الانقلابات بمخرجات اتفاقية سايس بيكو من حيث الحدود بين الدول، لكنه رفضها على المستوى الثقافي العام وظل ينادي بالوحدة العربية.

موقف الجيوش العربية سيبقى تقريبا هو الموقف الأقوى والأكثر واقعية، وسيسمح هذا الموقف –بُعديا-بإعادة الاعتبار للتاريخ الوطني القديم لكل دولة على حدى، وذلك من أجل إنشاء حس وطني خاص بكل دولة. لكن على المستوى الوجداني العام، ظلت كل التيارات العربية القومية والإسلامية ترفض ” الدولة الوطنية” وتسعى نحو ” الدولة القومية” أو نحو ” الأمة الإسلامية”.

وفي كل هاته المحطات، ظل الغرب، من خلال المؤسسات الدولية التي يتحكم بها، متشبثا بمخرجات اتفاقية سايس بيكو.

  • الغرب يسعى لإعادة رسم الخارطة العربية

في بداية الألفية الثانية، سيقوم الجيش العراقي تحت قيادة صدام حسين باجتياح دولة الكويت. لقد كان ذلك إعلانا صريحا عن تغيير منهج تفكير الجيش في دولة عربية كبرى فيما يخص احترام مخرجات اتفاقية سنة 1916، حيث أعلن الجيش العراقي عن حاجته الجيوستراتيجية لتوسيع منفذ البصرة الضيق والتوسع في اتجاه الكويت.

هنا قام الغرب ككل بالتصدي للعراق وتم تشكيل حلف دولي أجبر صدام حسين، بعد هزيمة عسكرية، على الانسحاب من دولة الكويت وعودة الجيش العراقي لحدوده حسب المعاهدات الدولية أي خصوصا لحدود سايس بيكو.

  • الغرب يعيد التفكير في رسم حدود الدول العربية

لقد شكل اجتياح العراق لدولة الكويت صدمة قوية للفكر الغربي الذي كان يعتقد جازما بأن الحدود كما تم ترسيمها من خلال المعاهدة إياها، قادرة لوحدها على لجم طموحات الدول المنبثقة من تلك الوثيقة. لكن عراق صدام حسين قدم نموذجا لتحدي منظومة الألغام، أكيد بطرقه الصدامية المعروفة. وصار بالتالي من الواجب غربيا إعادة التفكير في الاتفاقية وفي الحدود المرسومة أيضا، ليس فقط على المستوى الجغرافي بل على مستوى الطموحات الوطنية التي يجب أن تبقى في الحدود المرسومة.

لقد تم التفكير والتخطيط لمسارين منفصلين ظاهريا ومتصلين واقعيا لإعادة ترسيم الحدود بين الدول العربية، وهما المساران اللذان سيتوجان ب:

  • استفتاء استقلال الأكراد بالعراق سنة 2017
  • ورشة المنامة لإعادة ترسيم الأحلاف سنة 2019.

 .  المسار الأول

المسار الأول والذي انهزم فيه الغرب مرحليا نتيجة تدخل كل من تركيا وإيران اللتان دافعتا عن وحدة العراق وعن عدم استقلال إقليم كردستان، لكنه سيعمل على تنفيذ مخططاته (الغرب الاستعماري) بعيدا عن العراق هذه المرة: محاولات حثيثة في سوريا، محاولات جادة في ليبيا ومحتشمة في كل من الجزائر والمغرب أو مصر. هذا المسار لا يزال قائما وهو ينبني على قناعة راسخة لدى دهاقنة السياسة في الغرب، على أن “الدولة الوطنية” التي خرجت من قبعتي كل من سايس وبيكو قد صارت قوية أكثر من الحد المسموح به وصار ضروريا اليوم تفتيتها أكثر، وذلك من خلال تفجير الألغام الموضوعة أساسا في الاتفاقية نفسها.

  • المسار الثاني

المسار الثاني يهدف للانتهاء بشكل كلي وحاسم من القضية الفلسطينية التي ظلت الوقود المحرك لحركات التحرر في العالم العربي: فإذا قبل الفلسطينيون بإنهاء “مشكلتهم” فإن مسوغ احتجاجات القوميين و/أو الإسلاميين سيعرف الأفول وبالتالي تسريع وتيرة المسار الأول.

وفي المسار الثاني أيضا، ستكون إسرائيل وكما كانت دوما، وسيلة حرق الدول المستهدفة من خلال المسار رقم 1. ذلك أن انبطاح دول مثل الإمارات والسعودية ومصر أمام طموحات إسرائيل الكبرى، سيفقد هذه الدول كل تعاطف جماهيري ممكن عندما ينطلق المسار الأول الخاص بهذه الدول.

  • للشعوب العربية موقف

لقد رأينا في هذه المقالة وبعجالة، نموذجين متناقضين للرؤية الاستراتيجية للمنطقة العربية.

فمن جهة، هناك إرادة الجيوش العربية التي سعت وتسعى للمحافظة على الوضع القائم بدون أحلام في الوحدة، بل في كثير من المحطات تعمل على تأجيج الاختلافات من أجل ترسيخ مفهوم ضيق للوطنية. وهناك من جهة ثانية، إرادة الغرب الاستعماري بإعادة النظر في الحدود المرسومة بين الدول العربية، بحيث يتم تفكيك الدول القائمة وإنشاء دول جديدة أو توسعة حدود الدول القائمة على حساب دول ” يتم اعتبارها مارقة” (حالة إسرائيل بالخصوص). هاتان الإرادتان ليستا قدرا محتوما على شعوب المنطقة، ذلك أن شعوب المنطقة قادرة على بلورة تصور آخر وإرادة أخرى تعيد لها كرامتها التاريخية المهدورة.

وفي هذا الإطار، فإن دعوات إعادة تشكيل ” الكتلة التاريخية” تجمع بين طموحات القوميين والإسلاميين من جهة وتجيب على تخوفات ” الوطنيين الليبيراليين” من جهة ثانية، وقادرة أيضا على طمأنة تخوفات الأكراد والأمازيغ والأقباط وغيرهم من جهة ثالثة. هذه الكتلة وبهذه المواصفات قادرة أيضا على بعث رسائل طمأنة للنخب العسكرية العربية للانخراط في هذا العمل والمجهود التاريخي الذي يستطيع مواجهة الإرادة الاستعمارية الغربية الساعية لتفتيت الدول العربية، من أجل تأخير عملية الوحدة والتنسيق بين دول المنطقة وشعوبها.

هذه الإرادة تمتلك اليوم بعض الأدوات الاستراتيجية المهمة، فهناك اليوم صلح تاريخي على الرغم من تذبذبه الواضح، بين جيراننا التاريخيين تركيا وإيران، وهناك أيضا تململ روسي صيني، غير واضح وأساسا غير متسرع، من هيمنة الغرب على مصادر الطاقة العالمية من أجل التحكم في اقتصادياتها هي بالذات وبالأخص الصين. وهناك أيضا – وهذا هو المهم-التجربة التاريخية لشعوبنا التي استوعبت الدرس جيدا وقادرة على إفراز نموذج وحدوي يقبل ويثمن التعدد القائم.

إبراهيم حريري

روائي وباحث

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *