وجهة نظر

ما ينبغي على “البام” أن يدشن به عهدا جديدا

نظم الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة حملة تواصل مع الأحزاب السياسية مؤخرا والتي لم يستثن منها أي حزب بما فيها غريم حزبه التاريخي والتقليدي حزب العدالة والتنمية. ويمكن تلخيص أهم رسالة لحزب الجرار من لقائه مع حزب المصباح، في ما جاء في تصريح أمينه العام السيد وهبي، لموقعه الرسمي، على هامش اجتماعه بقيادة حزب المصباح، حيث أكد (أنه ومنذ المؤتمر الوطني الرابع للحزب لم تعد العلاقة بين الحزبين تتحكم فيها “الخطوط الحمراء”)، بل والحديث عن إمكانية التحالف السياسي في المستقبل. ونظرا للطبيعة الصراعية التي تأسست عليها العلاقة بين الحزبين حتى خلال مخاض ولادة حزب الجرار، نجد أنفسنا أمام تطورات في المشهد الحزبي غير عادية تحتاج وقفة تأمل ومسائلة.

بداية كلام السيد وهبي، الذي نقلناه سابقا، هو إعلان من جهة واحدة عن التحول في العلاقة بين الحزبين، وبما أن الأمر يتعلق بالعلاقة بين طرفين، فالحديث عن انتهاء “تحكم الخطوط الحمراء” من طرف السيد وهبي وحده لا يكفي للجزم بذلك، إلا في حالة واحدة يكون فيها حزب البام هو وحده من وضع تلك “الخطوط الحمراء”، والواقع أن حزب العدالة والتنمية أعلن وتعامل مع حزب الجرار على أساس أنه خط أحمر، خاصة في بناء التحالفات السياسية. مما يجعل الحديث عن رفع تلك “الخطوط الحمراء” بين الحزبين مشروط بتحول موقف حزب المصباح من تلك العلاقة. وهو ما لم نجد له مؤشرات ترجحه إلى حدود الساعة.

ما سبق يؤكد أن التحول في العلاقة بين الحزبين نحو علاقة لا تتحكم فيها الخطوط الحمراء أكبر بكثير من أن تحققه تصريحات السيد وهبي. لكنها على كل حال مهمة، خاصة إذا وضعت في إطار بعض مؤشرات التحول في أدبيات الحزب خلال وبعد مؤتمره الرابع، والتي تعاني من عدم الوضوح.

إن الذي يفهم من مواقف حزب المصباح من حزب الجرار وطيلة عمره، أنه  يعتبره حزبا قانونيا ينخرط فيه المواطنون لممارسة حقوقهم الدستورية في المشاركة السياسية. واعتباره خطا أحمر لم يكن يتعلق بتاتا بكونه حزبا إداريا خرج من مطبخ السلطوية إذ ليس هو الوحيد في ذلك في تشكيلة المشهد الحزبي في المغرب. ولا لكونه منافسا سياسيا له، فكل الأحزاب متنافسة فيما بينها، ولم يعتبر “المصباح” أيا منها غير “البام” خطا أحمر. فلماذا اعتبر حزب المصباح حزب الجرار خطا أحمر؟

الأمر واضح وبسيط للغاية ومن المعلوم بالضرورة في الشأن السياسي والحزبي بالمغرب، وهو أن حزب البام ما صنع إلا لتحقيق هدف استراتيجي واحد وهو “قطع الطريق” على حزب المصباح في مساره الصاعد، بطرق غير ديموقراطية ومؤامرات سلطوية، وعبر نهج استئصالي. ويكاد يكون تاريخ حزب الجرار كله مجرد سعي حثيث لتحقيق ذلك الهدف ومن خلال ذلك النهج. والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى وأكبر من أن تستوعب بالذكر في هذا المقال.

وفي هذا السياق فطبيعي أن يرتبط رفع “الخط الأحمر” عن حزب الجرار من طرف حزب العدالة والتنمية بشيء واحد أساسي وجوهري، وهو أن يقوم حزب الجرار بنقد ذاتي شامل وصريح وواضح يجعل بين حاضره وماضيه فاصلا من الالتزلامات السياسية الجديدة والواضحة، تخرجه من ظلمات التوظيف السلطوي، إلى فضاءات الاستقلالية والممارسة السياسية المسؤولة والمنافسة الديموقراطية.

لقد كان المؤتمر الرابع لحزب الجرار فرصة ذهبية لتسجيل قطيعة حقيقية مع ماضيه السلطوي والاستئصالي، ورغم أن مخرجات ذلك المؤتمر تحمل بعض الإشارات عن توجه محتشم نحو ذلك، إلا أنها لم تكن قوية ولا كافية ولا واضحة ولا صريحة. لماذا؟ لأمرين أساسيين، الأول لأن الحسم في “التوجه الجديد” للبام لم يكن على أساس نقاش سياسي واسع وواضح بقدر ما كان رهين عموميات يحكمها منطق “الهضرة فراسك” خلال تبادل الرسائل والاتهامات بين التيارات المختلفة داخل الحزب. والثاني، لأن الإعلان عن التحولات للرأي العام ولباقي الفرقاء لا يكتفى فيها بعموميات بلاغ أو تصريحات صحافية، بل لابد أن يؤسس لها، كما سبقت الإشارة، من نقد ذاتي عميق وصريح، يرصد الأخطاء، ويعالج أسبابها، وينتقدها، ويلتزم بعدم العودة لها.

وما سبق يؤكد في التقدير أن رفع “الخط الأحمر” عن حزب الجرار من طرف حزب المصباح يتوقف على الجهد النقدي الكافي الذي يتوجب على حزب الجرار القيام به، ويوفر الحد الأدنى الضروري من المصداقية والثقة في ذلك.

لكن ماذا عن “الخط الأحمر” الذي وضعه حزب الجرار من جهته على حزب المصباح مند أول كلمة نطق بها بعد ولادته؟ ماذا كانت خلفياته؟ وماذا كانت دواعيه وأسبابه؟ وماذا كانت أهدافه؟ وما الذي تغير في كل ذلك حتى يعلن البام رفعه؟ وما هي الضمانات على أن الأمر يتعلق باختيارات استراتيجية وليس بتكتيكات انتخابوية؟ …

إن الجواب عن الأسئلة السابقة أمر حيوي لإضفاء المصداقية على حديث حزب البام عن أنه لم تعد هناك “خطوط حمراء” تتحكم في التعامل بين الحزبين. وعليه أن يعالجها بكل وضوح ومسؤولية، وأن يواجه الرأي العام حولها بصدق وصراحة.

إن أكبر شيء يمكن أن يجعل فرقا بين حزب الجرار ما قبل مؤتمره الرابع وحزب الجرار بعده، هو بالضبط اقتحامه ورش النقد الذاتي ليس فقط في القضايا والأسئلة التي سبقت الإشارة إليها، والتي لها علاقة بغريمه السياسي والحزبي، بل أيضا وبالخصوص بأدوار الحزب التي لعبها في الفترة السابقة ومند ولادته والتي تتجاوز الحقل السياسي إلى ما هو أمني مثل ملف كديم إزيك وأحداث الحسيمة، ومسيرة ولد زروال، وغير ذلك من القضايا الكبيرة. وهذا الورش لا تكفي فيه التصريحات الصحافية للقادة السياسيين للحزب، بل لابد أن يكون لها طابع جماعي مؤسساتي يعطي الضمانات على حدوث تحول حقيقي في الحزب، خاصة على مستوى استقلالية قراره عن السلطوية ولوبيات التحكم الاقتصادي، وعلى أن الأمر يتعلق بتوجه جديد تم التأصيل له مؤسساتيا، وليس بتكتيك للتموقع السياسي فرضه السياق الانتخابي الحالي.

إن أول ما ينبغي على حزب الأصالة والمعاصرة أن يبدأ به مرحلة جديدة وعهدا جديدا يريد أن يجعل المؤتمر الرابع محطة انطلاقه، هو فتح ورش النقد الذاتي بالمضامين والمنهجيات المشار إليها سابقا. ودون ذلك سنكون أمام إعلان نوايا لا يختلف أحد عن حسنها، لكن دون أن يكون بمقدور أحد الثقة فيها والتعويل عليها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *