وجهة نظر

عندما أهلك الاستعمار الاسباني في معركة “اغزار ن اوشن” أمام مقاومة الشريف محمد أمزيان

يكتسي موضوع المقاومة الريفية اهمية كبيرة، ولعل هذه الأهمية تكمن بالأساس في الدور الذي لعبته قبائل الريف ابان الزحف الاستعماري، قصد صيانة حوزة البلاد والحفاظ على هذه الارض من اي مكروه خارجي، اولى القبائل التي انتفضت في وجه الاسبان هي قبائل “قلعية” عقب احتلال “مليلية”، خاضت هذه القبائل صراعا طويلا مع اسبانيا، وهذه الأخيرة كانت تطمح الى توسيع جيوبها المتواجدة على الضفة المتوسطية، رفضت قبائل “قلعية” الوجود الاسباني من الوهلة الاولى وهذا هو سبب الحروب الممتدة لسنوات، لكن حرب 1909 او ما يعرف بحرب “مليلية” احد ابرز نماذج المقاومة الباسلة، والتي كبدت اسبانيا خسائر فادحة.

بمجرد الحديث عن هذه الحرب يتبادر الى ذهن الكل واقعة وادي الذئب او ما اطلق عليها في الذاكرة الريفية ب معركة “إغزار ن اوشان”، والتي دونتها الكتابات الإسبانية ب “كارثة وادي الذئب”، جرت وقائع المعركة السالفة الذكر خلال 27 من يوليوز 1909، قرب “مليلية”، قبل الخوض في النقاش حول هذه المعركة التي نصادف ذكرها 111 سنة، لبد من الوقوف عند بعض النقاط والتي ستكون بداية من سيرة ذاتية لكل من “بوحمارة” او “الزرهوني” بالإضافة الى الشريف محمد أمزيان، وتناول اهم الاحداث والمعارك التي انهزمت فيها الجيوش الاسبانية.

من هو “بوحمارة” الذي توافد على الريف الشرقي خلال بداية 1900:

هو الجلالي بن عبد السلام بن ادريس بن محمد اليوسفي الزرهوني، تاريخ الولادة غير مدقق لكن يرجع انه من مواليد 1862، (بوحمارة من الجهاد الى التآمر، 1993، ص، 5)، نشأ في اسرة متواضعة متدينة، والده كان مدرسا، مكنته وضعيته الاجتماعية لدخول القرويين والتي تعلم فيها؛ اصول الفقه، قواعد اللغة، الفلسفة، بالإضافة الى علوم دينية اخرى تلقها على يد ابوه، وله معارف ومكتسبات شخصية في مجال الهندسة والرياضيات (اسبانيا والريف والشريف محمد أمزيان 1909-1912، 2011، ص، 47)، وذكر عبد الله العروي ان الزرهوني قد ولج مدرسة المهندسين وتخرج منها، دون ان يذكر متى واين!، بينما هناك ثلة من الباحثين لهم طرح مغاير تماماً يؤكدون على ان الزرهوني كان فقيرا وله ثقافة فقهية متواضعة.

صفاته مكنته من تقلد مناصب عليا في الادارة المخزنية، بالإضافة الى علاقاته الوطيدة مع رجالات القصر نظرا لخبراته السياسة (اصول حرب الريف، 1992، ص، 129)، بالرغم من كونه قريب من سلاطين المغرب خلال فترته، الا انه سجن بتهم متعلقة بتزوير الاختام والمؤامرات على السلاطين.

نسب الشريف محمد أمزيان:

هو الشريف سيدي محمد أمزيان بن الحاج محمد بن حدو بن البشير بن احمد بن احمد مكرر ابن عبد السلام بن صالح بن احمد بن ابراهيم المعروف عندهم بالتفالي بن صالح بن الوزير بن علي بن احمد بن محمد بن ابراهيم بن عيسى بن احمد بن سليمان بن يحيى بن يعلى بن عبد العلا بن اسحاق بن احمد بن محمد بن ادريس بن ادريس بن عبد الله الكامل بن الحسن بن علي وفاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم (الكشف والبيان، ص، 25).

من مواليد عام 1859م، ومن عادات وتقاليد اهل الريف انه يدخلون الفتيان للتعليم في الكتاتيب القرآنية، كان يمتهن تجارة المواشي، وكانت له تنقلات تجارية بين الريف والجزائر، وكان يقود ايضا القوافل التجارية وهذا راجع الى مكانته الاجتماعية آنذاك في الريف، ويعد نسبه الشريف سبب في حصوله على المكانة المرموقة لدى قبائل الريف، قام بإصلاحات دينية انطلاقا من زاوية ولديه، مما مكنه من الحصول على نفوذ واسع في مجموع الريف، وهذا الامر نفسره بمكانة الشخصية المتدينة بالمجتمع الريفي، ولعله نفس الامر الذي ساهم في نجاح مقاومة الشريف محمد أمزيان، استشهد خلال المعركة في 15 مايو 1912.

“بوحمارة” يتنازل عن مناجم الريف لصالح إسبانيا:

امام الازمة المالية الخانقة التي عرفها الزرهوني وامتناع قبائل الريف عن اداء الضرائب خاصة ضريبة المكوس، وطول فترة معاركه مع المخزن، تواطؤه مع القوات الاستعمارية، فكر الزرهوني في فكرة عجلت فيما بعد الى نهايته، وهي التنازل عن مناجم الريف لصالح اسبانيا.

تعود فكرة التنازل الى الملتمس الذي قدمه كل من التاجر الفرنسي “اليكسندر باي” والمهندس “انكليفي” ومدير شركة “موخاطا الحديد” فهؤلاء حسب المصادر التاريخية هم اول من قدموا ملتمس استغلال مناجم الريف للزرهوني، لكن تم رفضه من طرف الزرهوني نفسه.

في خضم الازمة الخانقة التي اشرنا لها سابقا ومع حلول عام 1907 فوت الزرهوني شخصيا وذلك عبر اصداره ظهير “فرمان” عن مناجم الريف التي تقع في قلب اراضي “قلعية”، لصالح اسبانيا.

من جهة أخرى يذكر الباحث اليزيد الدريوش انه بعدما فشلت إسبانيا في ربط “مليلية” مع ويكسان بخط سككي، ويعود سبب الفشل الى مقاومة الريفيين لمثل هكذا مشاريع، استنجدت اسبانيا بالزرهوني وعقدت معه اتفاق ودي ينص على استغلال اسبانيا لمناجم الريف لمدة 99 سنة. وبخصوص المبلغ المالي الذي منحته له يقدر ب 659 الف بسيطة مقابل رخصة الاستغلال (الشريف أمزيان: المقاومة المسلحة ضد الغزو الاسباني مذكرات من التراث المغربي، ج، 5، ص، 52).

حسب الدراسات التاريخية فإن قضية تفويت الزرهوني لمناجم الريف تعتبر من بين اكبر الاخطاء التي وقع فيها، حيث بعدها فهمت قبائل الريف ميكانيزمات الأحداث مما مهدى لقيام ثورة ضده تحت قيادة الشريف محمد أمزيان، وبخصوص التفويت نقف عند هذا النص مقتطف من مذكرة بعثا بها الزرهوني الى امنائه في الريف، : “يعلم من كتابنا هذا أسمى الله قدره، واعز امره، وخلد في ديان السعادة طيه ونشره، واشرق في سماء المجد شمسه… واكرم مثواه ونزله، اننا، بحول الله وقوته وشامل يمنه الجميل ومنته، اذنا لماسكه المتمسك بالله وبه مسني إفريد البنكي الفرنساوي من باريز في خدمة معدن الرصاص معدن النحاس ومعدن الحديد ومعدن الذهب والفضة الموجودين في جبل قلعية، كما اذنا له في بناء موضع المكينة بطرف البحر الصغير لخدمة المعادن المذكورة وحمل المعادن الى محل المكينة بشرط ابتداء الخدمة من معدن الرصاص والنحاس…”( نقلا عن : إسبانيا والريف والشريف محمد أمزيان، 2011، ص، 72)

الحملة الاسبانية على الريف وسطوع نجم الشريف محمد أمزيان:

شكلت مناجم الريف التي فوتها الزرهوني لصالح الاسبان، احد اهم النقاط التي عجلت بوقوع الحرب، وهنا نشيد بالدور الذي اخذته قبائل “قلعية” على عاتقها، وهو الدفاع عن اراضيها وعن مناجم الريف الشرقي، وكانت هذه الثورة تحت قيادة الشريف محمد أمزيان، اذ عمل على عرقلة اشغال استغلال المناجم، وفي ظل هذه الأوضاع عقدت مفاوضات بين إسبانيا والشريف محمد أمزيان قصد الخروج بمقتضيات تفيد الطرفين الا انه فشلت.

في سياق هذه الاوضاع تحركت البعثات الدبلوماسية من كل “مليلية” في اتجاه مدريد قصد تلقي الاوامر للتحرك من جديد، كذاك من “مليلية” الى فاس ودار النيابة السعيدة في طنجة قصد الضغط على المخزن من اجل ان يرسل برقيات الى اهالي “قلعية” لرفع الحصار عن اشغال استغلال مناجم الريف، لكن المخزن كما هو معروف منذ ان انهزم في حرب تيطوان وفرضت عليه شروط قاسية، كان حليف اسبانيا في مشروعها الاستعماري في الريف. وهذا دعم اسبانيا لاستئناف اشغالها واستغلال مناجم الريف.

بالتزامن مع استئناف الاشغال، امر حاكم “مليلية” الى حشد جيشا لحماية الاشغال من المقاومة الريفية، هنا وجدت هذه الاخيرة نفسها وجه لوجه مع الاسبان دون اي سند من المخزن، بل اكثر من هذا نجده ينحاز الى جانب اسبانيا كما حصل خلال حرب سيدي ورياش.

خرجت قبيلة “قلعية” بقسماتها “ايث شيشار” ،”اولاد ستوت” ،”امزوجن” و”ايث بويفرور” بحمل السلاح والخوض في الحرب بموجب المؤتمر العام الذي عقد في “مزوجة” ( جماعة بني انصار حاليا ) خلال 5 يوليوز 1909، وانطلقت العمليات المسلحة في التاسع من نفس الشهر، وجرت معارك عديدة لكن ارتأينا الوقوف عند اهمها وهي كالتالي؛

معارك سيدي احمد الحاج وسيدي علي:

بعد الاسبوع الثاني من انطلاق العمليات المسلحة ضد الاسبان، شن الريفيون مجددا بقيادة الشريف محمد أمزيان هجومات جديدة، حتى لو كان آنذاك الشريف محمد أمزيان يفتقر الى العتاد والتجهيزات الحربية، لكن ما ميز هذه الفترة هو انه نهج أسلوب حرب العصابات والحرب الخاطفة، مما ارهق الجنود الاسبان وجعل كبار القادة العسكريين يطلبون العون من حكومة مدريد(اسبانيا والريف والشريف محمد أمزيان 1909-1912، 2011، ص، 137).

عملت حكومة مدريد على ارسال امدادات عسكرية مهمة على رأسها كل من لواء قناصة برشلونة ولواء العاصمة، عقب هذه التحركات عرفت مدريد احتجاجا ومظاهرات ضد القرارات التي اصدرتها حكومة مدريد، المتمثلة في ارسال اللواءين الى الريف، كذلك نذكر ان حكومة مدريد ارسلت ثلاث كتائب من الجنود الاحتياطيين، امام انشغال حكومة مدريد بالأوضاع، كانت المقاومة الريفية تحت قيادة الشريف محمد أمزيان قد استعادت مجموعة من اهم المواقع الاستراتيجية التي كانت في يد الاسبان، قدرت الخسائر ب 18 قتيلا في صفوف الاسبان، ضمنهم ضباط، بالإضافة الى ظفر الريفيين بالغنائم العديدة، يرجع الباحثين الاسبان الى ان سبب الخسارة هو عياء الجنود من السفر الطويل اذ انتقلوا من مدريد ثم ابحروا “مليلية”، وكذلك الاستمرار في الحرب والقتال لمدة 18 ساعة دون توقف ودون مأكل ومشرب.

معركة سيدي موسى:

جرت في 23 يوليوز 1909، اذ امر العقيد “كابريرا” وبخطة منه بمسيرة ليلية نحو ويكسان تخرج ليلا من “مليلية” لتصل في الصباح الى ويكسان وهو من تقلد منصب قيادة هذه الحملة، وليس بالغريب عن الريفيين مثل هذه الخطط، فهم السابقون لها، ولعل هذا ما تشير اليه الكتابات التاريخية اذ هذه الخطة استعارها من الريفيين، وخطته هذه فشلت نظرا لكون الريفيين تمركزوا طوال الليل بين الخنادق والجبال، فبعد وصول العدو انطلاق القتال بين الريفيين والاسبان بشتى انواع الوسائل حتى ارتوت الارض بالدماء (اصول حرب الريف 1992، ص، 139)، ارجع الاسبان سبب الخسارة الى غياب معرفتهم لمسالك وطرق مواقع المعارك، وكذا غياب الخرائط الطبوغرافيا، بالإضافة الى قولهم ان مجال “مليلية” غير معروف وصعب، لكن نجد انهم كانوا يمتلكون احسن الفرق الخاصة بالهندسة الحربية، خسرت إسبانيا في هذه الحرب مجموعة من القادة العسكريين وهم كالتالي:

العقيد بينانثيو ألباريث كابريرا
صاحب الريستينكا
المقدم إيبانيث مارين
الضباط:
النقيب فيرنانديث كويباس، سالبادور، فيرنانديث كيبار، بريث برادو، أوتشوا، دي فيكيراس، فيرنانديث مارتينيث…
بالاضافة الى 46 عسكريا، والجرحى قدروا ب 226 منهم 10 ضباط…

معركة “اغزار ن اوشن”:

عملت اسبانيا على الانتقام من مقاومة الشريف محمد أمزيان، التي الحقت هزائم متتالية بهم، امر الجنرال مارينا القائد العام “لمليلية” بخروج 6 كتائب من المشاة وفصيلة مدفعية، وكان في مقدمة هذه العملية لواء مدريد او العاصمة للقناصين، في بداية الامر تعذر عليهم استخدام السكك الحديدية لنقل الجيش والعتاد، تمت العملية عبر الأرجل والبغال لنقل العتاد العسكري (اسبانيا والريف والشريف محمد أمزيان 1909-1912، 2011، ص، 145)، وكلت العملية الى أحد ابرز خيرة الجيش النظامي الاسباني، والذي اشارت الكتابات الإسبانية على انه قدم للانتقام لشرف اسبانيا الحديث عن الجنرال “كييرمو ليد يسما بينطوس”.

ما ان وصلت هذه الكتائب الى اعالي جبال “كوروكو” حتى اصطدمت بنيران الريفيين، وما فتئت الكتائب في المعركة حتى بعثرت واصبحت تائهة محاصرة من كل النواحي، حسب المرويات فخطة الشريف أمزيان استندت الى استفزاز الجيش الاسباني في وادي الذئب، اذ كلف الشريف شجعان الفرسان من قلعية للتوغل داخل الوادي، وكلف الرماة بالتمركز وراء الصخور في الاعلى.

امهل الشريف أمزيان الوقت الكافي للجنرال قواته للتوغل داخل الوادي، وما ان اضحى الجيش كله في الوادي، اعطيت الاوامر للمجاهدين لحصار منافذ الوادي والنزول على الاسبان الذين باتوا في دائرة محاصرة من كل النواحي، قتل الجنرال “بينطوس”، وبات الجيش دون قائد مما جعله يفقد سيطرته ويتراجع الى “مليلية”، لقد طارد الريفيون الاسبان حتى مداخيل “مليلية”.

نتائج المعركة:

على مستوى الجند؛

نجد تضاربا في اعداد القتلى والجرحى، اذ اعلنت اسبانيا بعد المعركة انها فقدت 159 قتيلا و499 جريحا، لكن هذه الاعداد تبقى هزيلة، ويعود سبب اعلانها الى خوف إسبانيا من الرأي العام آنذاك نظرا لحجم الخسائر، نفس الارقام نجدها عند المؤرخة الإسبانية “ماريا روز ذي ماداريگا”، اذ تشير الى ان عدد القتلى بلغ 100 عسكري بالإضافة الى القائد “بينطوس”، وجرح 600 عسكري، تبقى ارقام اولية وفقط كما اشرنا سابقا، بيد انه بعد مرور 5 اشهر صدرت وثيقة عن كتابة وزير الحربية تشير الى الحصيلة الحقيقة والتي بلغت 1046 قتيلا، من بينهم 978 جنديا، و68 ضابط عسكري.

اما من الجانب الريفي بعد بحث في المصادر التاريخية لم نتوصل الى اي حصيلة سوى انه استشهد خيرات ابطال الريف وهم؛ الحاج توگوك الورياغلي، ميمون بن خوجة البويفروري ، محمد أمزيان بوخرطة السعيدي.

على مستوى الرأي العام الإسباني؛

كانت ردة فعل الشعب الاسباني وخاصة على مستوى “كتالونيا” هي الانتفاض والقيام بالمظاهرات واضرابات نقابية عرفت في الاستوريوغرافيا الاسبانية بالأسبوع المأساوي والذي امتد من 25 الى 30 يوليوز وعمت هذه الاحتجاجات جميع اراضي اسبانيا، واتت كرد فعل على مجموعة من المراسيم الحكومية، وابرزها ارسال لواء برشلونة ومدريد بالإضافة الى كتائب من الجنود الاحتياطيين، الذين هم في الاصل فقط عمال وابناء الفئات الاجتماعية الهشة، بسبب الضغط الشعبي على حكومة مدريد تم تعليق جميع اعمال الحرب في الريف، لكن هذا التعليق لم يدم طويلا.

* باحث في التاريخ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *