منتدى العمق

الدمياطي كمبحت إبستيمي

قصة قصيرة :

مرّة أخرى ها أنا ذا ألجأ إلى هاته الشرفة. كلما أحسست بضيق أو ضجر، أقصد هذه النافذة بالذات وكأنِّي أرمي بثقل الوِزر من ها هنا إلى تلكم الحديقة التي تشبه غابة صغيرة. فأجدني مأخوذا بسحر و هيبة هذا القصر المسمى ‘’ فيلا الريسوني’’…

لم يكن إسم الريسوني يعني لي الكثير. و حين كنا نتكلم عن فيلا الريسوني لم يكن الأمر يختلف عن دار المنبهي، أو غرسة غنام ، أو عمارة بن عبد الصادق. لكن فجأة أخد داك المجنون الزيناتي ، يقصفنا بمقالات عن الشريف الريسوني و علاقاته الملتبسة بالإسبان. يبدو أن إعجاب خاي احمد بالشريف يرجع إلى نوع من الشوفينية الزيناتية، نسبة لسبت الزينات عاصمة الثعلب أحمد الريسوني. .

-من الأدب و اللياقة أن تصحب زوجتك في مناسبة كهاته…
-عن أي مناسبة تتكلمين، لست متأكِّدا أني فزت بشيء ما …
-رجاء لا تستغفلني ، الأمر واضح … لا يمكنهم أن يستدعوا سوى الفائزين…
-ليس بالضرورة…ثم إذا اصطحبتك معي ، فمن الأدب و اللياقة كذلك أن تذهب معنا أختك…
-طبعاً ، إنها أختي …
-جميل ، و إذاً يجب أن يأتي معنا ، خالد الغَبي…
-اسمه خالد … و هو الآن مسافر…
-لماذا كل هذا التعقيد … ؟دعيني أذهب وحيداً و أعود بسرعة…
-كنت أعرف أنك لا تريدنا معك، و الدليل أنك أخفيتَ الإستدعاء لمدة ثلاتة أيام و لولا أني اكتشفته صدفة ، ما كنت لتكلمني في هذا الموضوع.. الرجولة مِلّة واحدة ،لا أمان فيكم … إذهب يا سيدي لوحدك … أو بالأحرى مع تلك التي تلهمك في كتابة تلك الطلاسيم…
لا أخالني محظوظاً إلى هذه الدرجة، هكذا أوحت لي نفسي الأمّارة…
سكتت وأنا أتأمل الإستدعاء الموضوع أمامنا فوق المنضدة. حفظت عن ظهر قلب تلك الجملتين:
تتشرف جمعية المبدعين الشباب، فرع طنجة، باستدعائكم لحفل توزيع الجوائز على الفائزين بالمسابقة الثقافية التي شاركتم فيها. وسيُقام الحفل بقاعة المهدي المنجرة بالمركز الثقافي الفرنسي.
رباّه… المسألة معقدة من البداية.

منذ ثلاثة أسابيع كنت قد قرأت إعلانا صغيرا في جريدة يبدو أن أحدهم نسيها، أو تخلص منها، بمقهى ” الحافة ”. كانت أول وآخر مرة أقرأ فيها جريدة ” أخبار الفنانين ‘‘، ذكّرتني بمجلة قديمة إسمها ” الموعد ‘‘، لكنها أكثر تفاهة من هذه الأخيرة. وفجأة اصطدمت عيني بإعلان صغير يفيدُ بِأنّ جمعية المبدعين الشباب ستقيم مسابقة في الشعر العربي والفلسفة، بمساهمة وزارة الثقافة والمركز الثقافي الفرنسي. إذا كان من الصعب أن تجمع بين عنصرين من هذه ” الحجاية ” فمن المستحيل أن تجمع بين كل العناصر… شعر عربي، فلسفة، المركز الثقافي الفرنسي، ” أخبار الفنانين ”… ويزيد هذا الإستدعاء في تشويش الصورة. حسب علمي، فالمرحوم المنجرة كرس جزء من حياته في مناكفة الفرنكوفونية بالمغرب، كيف يطلقون اسمه على قاعة في المركز الفرنسي؟

لقد كانت زوجتي صادقة، فمنذ ثلاثة أيام و أنا محتفظ بالإستدعاء. الوحيد الذي يعرف بالموضوع هو أخي حميد. ا تصلت به فور توَصُّلي بالرّسالة، و علقت على إسم القاعة ، أجاب ساخراً كعادته : قلت لك أنك الشخص الوحيد في طنجة الذي يمكن أن يفوز في مسابقة للشعر العربي و الفلسفة ، مدعومة من المركز الثقافي الفرنسي ووزارة الثقافة المغربية. و كعادتي تماهيت مع عبثيته ، و قلت له ، و يبدو أني الوحيد في العالم الذي سيدخل قاعة المهدي المنجرة في المركز الثقافي الفرنسي.
في الواقع سخرية أخي حميد ساهمت إلى حد ما في نوعية مشاركتي. حين كلمته عن المسابقة في أول الأمر ، سألني مستغرباً :
-أحقاً تريد أن تشارك؟
– نعم …
-و لكن متى درستَ البحور و الأوزان…؟
-ممم… لدي بعض المحاولات في الشعر الحر…..أعتقد أنها لا بأس بها… المشكلة في الفلسفة…
-وماذا عن المفردات الرنّانة التي صدّعت رؤوسنا بها في الفايس بوك…
-لأني وجدتكم ” ولاد الناس ” و لا تحرجونني.. أما في الحقيقة فلست أكاد أعرف من الفلسفة سوى أفلاطون و أرسطو… آه… أعرف أيضا سقراط…
-و هل من الضروري أن تشارك في الشعر و الفلسفة معاً ؟
-نعم يا صديقي ، يبدو أنهم يبحثون عن أبي العلاء المعري في طنجة…
و بنوع من السوريالية التي تقتحم أحاديثنا دون مقدمات، فاجأني حميد قائلاً :
-لدي موضوع مهم في الفلسفة يمكنك أن تكتب عنه…؟
– أفِدْنا أفادك الله …
-شخصية السَّماوي الميطافيزيقية…
-الله يداوي … أفضِّل أن أكتب عن الدّْمياطي…
غيّرْنا الموضوع إلى مواضيع أخرى… ثم افترقنا.. في طريقي إلى المنزل بدأ موضوع الدمياطي ينمو كوَرم سرطاني ما فتئ أن سيطر على عقلي… كل ما أعرف عن هذه الكلمة ، أنها تطلق على شيء صعب ، غير مفهوم.. وأحيانا على السحر و الشعوذة…ثم ماذا ؟ لا أعرف…
طبعاً ، لم أخبر زوجتي بشيء…مباشرة بعد وجبة العشاء ، اسْتَفردت بالحاسوب و تيمَّمت قبلة ما بات يُعرف بالحاج غوغل.
ما يعجبني في زوجتي أنها ما إن تراني منهمكاً في بحثٍ ما، إلّا و تحترم ”مسافة الأمان” ، و تدعني ” متشرنقاً ” في عالمي الخاص ، بل إنها لا تسألني عن موضوع البحث و لا ما ذا سأفعل به….. نذرْتُ أنً أهديها أولَ جائزة إِن فَهِم أحدهم ماذا أكتب…
المهم … رقنتُ كلمة ”الدمياطي” ، على بركة الله… 450000 نتيجة في 0.5 ثانية. يبدو أنني من القلائل الذين يقرؤون كم من الوقت استغرقه غوغل في البحث… على أيٍّ…
هناك من يتكلم عن الدمياطي كسحر ، كقراءة للقرآن بالمقلوب… هناك مطعم الدمياطي بالزقازيق بمصر… و أطرف تعريف للدمياطي كان من أحد الظرفاء المغاربة: الدمياطي هو ما يلي(bac+5) أُس 15.
ما يهمني في المرحة الأولى هو الإطمئنان إلى وجود مادة خامة لابأس بها.. السؤال الثاني ، كيفية تكييف هذا الموضوع العجيب ، لِتخريجه كبحث فلسفي… بعد وقت من التأمل ، اخترت كلمة إبستيمولوجيا. كلمة ذات رنة فلسفيةوتوحي بأنك تفهم أكثر من الآخرين… في الحين استحضرت جوابا قلته لأستاذ الفلسفة حول معنى كلمة الفلسفة ، ” نوع من العبث الفكري ” ضحك التلاميذ و غضب الأستاذ ،ثم طردني من القسم. في امتحان البكالوريا لا أتذكر ما ذا كان السؤال ، كل ما أتذكر هي الخاتمة ” لا يهم صحة جواب المجيب من خطئه ، كل ما يهم هو إثراء النقاش الفلسفي ، و هذه هي روح الفلسفة ” أُصِبتُ بهستيريا من الضحك حين رأت النقطة ، واحد على عشرين.
و كعادتي وجدتُني في حالة شرود ، و يبدو أنها حالتي الأصلية… من يا ترى سيُقَيِّمُ هذه المشاركات ، يجب أن يكون في اللجنة شعراء و فلاسفة. و لكن من مَن الشعراء الذين يستحقون أن يُقيِّموا مشاركاتنا ، اعتصرت ذاكرتي ، استحضرت إسم محمد بنيس. في الفلسفة أعرف أن لدينا طه عبد الرحمان ، محمد سبيلا و العروي … ثم تمرّد عليَّ عقلي و تساءل من هو أصلا و زير الثقافة المغربي ؟
سلاّم الودغيري ، أمين حزب الحركة من أجل الثقافة ، أمازيغي متعصب . يحكى أنه في إحدى جلساته الخاصة قال أن العرب سيخرجون من المغرب كما خرجوا من الأندلس. أُعْطِيَ منصب وزارة الثقافة لترقيع الأغلبية الحكومية. ثم تماديت في غيِّي و أخذتُ أتفحص أسماء و وجوه الأمناء العامين للأحزاب ، لأرى أيهم يصلح وزيراً للثقافة ، بل وزيراً لأي وزارة …
الرجوع نالله … الدمياطي و الإبستيمولوجيا… يجب أن أركبهما في ” جملة فلسفية ” أو لنقل عنوان لبحث فلسفي. الدمياطي كمبحث إبستيمولوجي ، بين الواقع و المخيال الجماعي… هل هناك شيء أفضل؟ الدمياطي كمبحث إبيستيمولوجي ، واقع واحد و مقاربات متشاكسة …أعتقد أنه عنوان طويل..لنتركه كما يلي ” الدمياطي كمبحت إبستيمي ”….

حتى لا أضيع أكثر قررتُ التعاطي من الدمياطي كنوع من السحر…
” من المعلوم أن تاريخ السحر كممارسة يكاد يتطابق مع تاريخ البشرية. في بحثنا هذا لن نطلق العنان للفضول المعرفي الفائرُ بدواخلنا لإماطة الغبش المُركّب الذي يكتنف هذا الموضوع. بتواضع الباحث الذي يعرف حدود إمكانياته ، و إكرهات الموضوع/ اليم الذي أنوي الخوض فيه سأقتصر على ” الدمياطي ” . لا بل حتى هذا الفرع ، سأكتفي منه بالجانب الإبستيمولوجي ، تاركاً جوانب أخرى كالبسيكولوجي و السوسيولوجي إما لفرصة أخرى ، أو لباحثين / غواصين آخرين أصابهم ما أصابني من عشق المعرفة ”…
مقدمة لا بأس بها …إلى العمل… كوبي / كولي مع بعض الترتيبات جمل للربط.. و من ثم …و حيثما… وإن كنت أرجح هذه المقاربة ، لكن ثمة اتجاه آخر يرى أن الأمر عكس ذلك…
البحث شبه جاهز…
أعدتُ قراءة النص… هُراء مُرصّع بالجنون…مخلوق هجين ، مليء بالثغرات ، و أحياناً تناقضات فجة… جاءتني مقولة ”صلاتي لا تعجبني فكيف تعجب ربي…”
فكّرت أن أترك هذه التُّرهات و أذهب للنوم… لكن مشاكسات داخلية حدثت بين الأنا و الأنا الأعلى و الهُو و عقُد الماضي والمستقبل… و كان القرار ألا أستسلم…
‘ تدوير الزوايا ” ، تطلق هذه العبارة على المهمات الصعبة ، أو الشِّبْه المستحيلة ، و هذا بالضبط ما كنتُ أودُّ فعله، أن أخلق معنى لِلّامعنى.
و مرة أخرى أخذت أتساءل ، هل فعلا يجب أن يكون لكل شيء معنى في هذه الدنيا ؟… لكن في حالتي ستكون لجنة و تقييم… حسناً ، من قيم أغنية ” دي دي.. دي دي ” للشاب خالد ، أو أغنية ” سو يا سو .. حبيبي حبسوه..” لمحمد منير… بالمناسبة لست أدري من هو صاحب أغنية ” كاع كاع يازبيدة…”، رغم تحفظي على المعنى لكن إيقاعها جميل.
لنعدْ إلى تدوير الزوايا… ما العمل يا ترى؟
سألجأُ إلى حيلة خبيثة تستعمل لتصريف الغذاء الفاسد: الإكثار من البهارات… الميطافيزيقا ، البارابسكولوجية ، تجاوُز الزمكانية… ثم مزيد من المُحسنات اللغوية التي تعني كل شيء و لا شيء…
لا بأس ، لقد أتخمت البحث بعبارات تكفي كل المتفيقهين في طنجة و ربما أصيلة.
و كوني محتاج إلى طمأنة نفسي أني لا أمارس العبث ، يمكنني الإدعاء أنني في آخر المطاف لم أكن سوى شرطي مرور ينظم سير الأفكار. ثم بالله عليك ، دُلَّني على شيء واحد في المغرب ليس هجيناً. حكومة تجمع بين اليمين و اليسار. قانون نابليون مع الشريعة الإسلامية . سلعة تشتريها من المضَيق و على مشارف المدينة يصادرها الجمركي و كأنك أتيت بها من هونكونغ. صحيح أن بعض التناقضات مقززة و مثيرة للأعصاب ، لكن هناك بعضها مثير للسخرية. كالقانون الذي يجرم بيع الخمر للمسلمين عِلماً أنه تم تقدير الإستهلاك المغربي لكل أنواع الخمور بأكثر من 130 مليون لتر سنة 2013. حاول أنت أيضاً أن تقنعني بأن السياح ، الغير المسلمين، هم من وردوا تلك السيول. و يمكن أن نتكلم أيضاً عن قوانين تجرم زراعة و بيع المخدرات ، و كأن كتامة توجد في جاميكا. على ذكر الخمر و الحشيش ، وجدتني أفكر في أحد زعماء المعارضة ، الذي اتهم سبعة وزراء بمعاقرة الخمر…رد عليه القائد يونس فنوش : يبدو أن شباط تحول إلى ألكوطيسط ( جهاز اختبار للكحول).
ليس هذا موضوعنا ، أودُّ فقط أن تعرف ” اللجنة ”أن كل شيء في هذا الوطن متناقض ،مُرقع و في أحسن الأحوال حمّال أوجه. و عليْه فبحثي ليس بِدْعاً من ” السيسطيم ” ،بل لعل القلق الذي يمور في أحشائه هو ما يضفي عليه نوعا من ” الأصالة ”.
انتهينا إذن من النَّص الفلسفي ، تبقى القصيدة الشعرية. تبسمت ، و قلت في نفسي ، أمَّا هذه فمُيَسرة نوعاً ما. بحثت في أرشيفي ، لم أجد خيراً من ” قصيدة ” كنت قد اخترت لها عنوان ”هكذا تكلمتْ ديوجينة” .على الأقل العنوان يتماشى مع النَّفس الفلسفي الذي ارتضاه المُنظِّمون. جملة ” هكذا تكلم ” توحي إلي الفيلسوف نيتشه و كتابه ” هكذا تكلم زارادشت ” . أما ديوجينة فهي تأنيث لديوجين ، و هو فيلسوف كان يحمل مصباحاً في النهار و يقول : أبحث عن إنسان ، كما اشتهر بلقائه الطريف مع الإسكندر. كان مستفزا لقومه لدرجة أنهم أطلقو عليه إسم ديوجين الكلبي.
لكن مصدر اعتزازي بالعنوان ” هكذا تكلمت دْيوجينة ” هي فكرة تأنيث إسم أحد الفلاسفة . لا أذكر أني قرأت لأحد كتب عن ” سُقراطة ” . لا جرم أن هذا السبق يعتبر قيمة مضافة ستُؤخذ حتْما بعين الإعتبار …

راجعتُ ” القصيدة ” أعدت ترتيب بعض الجمل.. حذفت بعض الزوائد ، و مرّة أخرى يجب الإسراف في مساحيق التجميل ،علّها تُخفي جهلي بأُصول الصنعة. و انتهينا….
البحث و القصيدة في ليلة واحدة ، إنجاز هائل…
-الصلاة خير من النوم …
-صدقتَ و بَررْتَ…
حينما يتلكم الإفرنج على ليلة كتلكم الليلة يصفونها بأنها نوي بلونش ,ليلة بيضاء …
بعد أسبوع توصلت بالإستدعاء… حاولت أن أخفيه ، لكن زوجتي اكتشفته صدفة. و في اليوم الموعود ، أظنكم سمعتم بعض اللحظات الحرجة من النقاش. ما لم تسمعونه هي أنها ستقضي بقية النهار والليل مع أختها.. طبعا لم أمانع. مِن عادة زوجتي أن تبيت عند أختها حين يسافر زوجها خالد المُغفّل… لقد أقامت نعيمة معنا سنتين قبل أن يراها صديقي خالد و يُخلِّصني منها و من فضولها. جزائي له على المعروف الذي أسداه إليّ هو أني و جدت له سكناً رخيص الإيجار بالعمارة التي أسكن فيها بحي مرشان… مرشان أُمي إن غابت أُمي… هكذا كنت أدندن في الطفولة و هكذا عدت إلى هنا…
أمّا اليوم فأنا فعلا محتاج لأختلي بنفسي . رغم أني تظاهرت أمام زوجتي أني لست متأكدا من فوزي بإحدى الجوائز الأولى ، إلّا أن إحساساّ قويا كان ينبؤني أني مُتوّج لا محالة. و أخيراً وُجِد من يفهمني… لا يمكن أن يكون كل المغاربة أغبياء… ثم كوْنُ رجل مثل سّي سلاّم على رأس الوزارة لا يعني أن الثقافة في البلد تعاني من الأنيميا ، و ها هو الدليل ، أشرفوا على مسابقة طريفة تجمع بين الشعر و الفلسفة . لا جرم أنهم اختاروا لجنة كفؤة استطاعت أن تفك الشفرات الكامنة بيْن ثنايا كلماتي ، سواء في القصيدة أو البحث.
ما إن خرجت زوجتي ، حتى أسرعت بأخد حمام خفيف . ثم توقفت لأختار المناسب من اللباس. بدلة مع عقدة العنق … لا … كلاسيكي أكثر من اللازم … سروال الدجينز مع قميص … هكذا أحسن… لن ألبس طبعاً الحداء الرياضي… يستحسن حذائي الخفيف…
لازال على الموعد ثلات ساعات. يجب أن أتدرب قليلا على الإلقاء… وقفت أمام المِرآة.
أعتقد أنه من الأفضل أن أستهل الكلمة بالبسملة… لكن ماذا لو امتعض بعض الحاضرين. لا زلت أذكر أني أثناء إعداد إحدى البيانات النقابية كنت قد اقترحت إضافة ”بسم الله الرحمان الرحيم” في مقدمة البيان ، لكن ” الرفاق ” رفضوا يومها…
حسناً ، سأكتفي بمساء الخير… ربما طاب مساؤكم ، تبدو ألطف…
الشكر موصول إلى كل من ساهم من قريب أو بعيد في إنجاح هذه التظاهرة الثقافية في مدينتنا الحبيبة طنجة. أعترف أنني لم أكن أتوقع أن أحظى بهذه الجائزة ، لكن يبدو أن دعوات أمي تلاحقني…
هنا يجب أن أصمت قليلا ، لأن اللجنة و الجمهور سيضحكون…
صحيح أن المسابقة كانت في الشعر و الفلسفة و صحيح أن موضوعي الفلسفي تعلق بالسحر ، لكن صدقوني لست بشاعر و لا ساحر…
هنا أيضاً يجب أن يضحكوا… بعد ثواني قليلة ، يجب أن أرفع صوتي ، هكذا تكلمت ديوجينة ،ماذا لو أقحمت كلمة أو كلمتين بالفرنسية… سأعطي الإنطباع أنني موسوعي ، كاتب و شاعر ، و متعدد اللغات… لكن المسابقة باللغة العربية ، صحيح أن المركز الثقافي الفرنسي هو الذي تبناها ، لكن إقحام اللغة الفرنسية في هذه المناسبة لن يكون سوى نوع من التنطع.
لننسى إذن مسألة الفرنسية … أظن أن أحسن وسيلة لترك انطباع جيد هو تصنُّع التلقائية… ابتسمت و أنا أتأمل هذه الجملة ” تصنُّع التلقائية ”… هذا النوع من الجمل تسمى بذات الحدّين المتناقضين ك ” لذة الألم ” و ربما أيضاً ” ديموقراطية العرب ” أو حتى ” سعادة الزوج ” … على ذكر سعادة الزوج، لماذا يبدو خالد الغبي سعيدا مع نعيمة أخت زوجتي ، هل هو فعلا كذلك ، أم تراه يتصنع التلقائية هو الآخر…
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله… وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم.
غفر الله لي، لست أذكر كيف أقنعته بالزواج منها ، كان كل همي هو التخلص من ثقل دمها… أي آيات شيطانية رتلتها عليه… أتراني أقنعته بأنها من الغرانيق العلا و أن شفاعتها تُرجى…
يوسف… ركز قليلا ، لم يبق الكثير من الوقت…
هكذا تكلمت ديوجينة…
لم تكن رؤيا.. لا … و لا كابوس… غالب الظن ،أنها كانت حالة… روح أنثى في الهاجرة تمشي، و قد تدلى من يمناها فانوس.. صورة لها ألف دلالة.. هنا يجب أن آخذ نفس…
… لا أبحث عن رجل ، قالت ،و ما كانت تحتاج إلى مقالة.. حين أنطق كلمة لا ، يجب أن أشفعها بتحريك السبابة سيكون الوقع أكبر على الجمهور…
استغرق الكاستينغ أكثر من ساعة . كان بوُدّي أن أقرأ المقالة الفلسفية بصوت عالٍ ، من يدري ربما طلبوا مني أن أقرأها للجمهور… لا أظن ذلك, فالمقالات الفلسفية طويلة و مُملة. صحيح أن الموضوع الذي اخترته جديد و أسلوب كتابتي يمزج في تموجاته بين المتانة و السلاسة ،بين الصرامة العلمية و بعض المستملحات، لكن لا أظن أن يطلبوا مني قراءته. غالب الظن سيقومون بنشره في مجلة مختصة…
و لكن ماذا لو حاول مُقدِّم الأمسية أن يجري معي حواراً قصير بعد التتويج فيسألني مثلا لماذا تكتب؟
” أعتقد أن الكتابة هي إحدى وسائلي لتفادي الصدام مع زوجتي… ”
كفاني تهريجاً ، هناك فرق بين خفة الدم و بين السماجة … لا يليق إقحام زوجتي في كل شيء…
يجب أن يكون يكون جوابي أنيقاً و أصيلاً…
-في الواقع أنا لا أعتبرني أكتب نصوصاً و أبياتاً، بل أرسم لوحات…
لكن ماذا لو عاد فسألني لماذا ترسم إذن… فٱلأبحث عن جواب أبسط…
الكتابة بالنسبة لي تصريف لتلكم الأصوات المعتملة في دواخلي… أظنه أسلوب منمق أكثر من اللازم… كما أنه لا يختلف عن مئات الأجوبة التي قيلت في مثل هذه المناسبة..
و إني و إن كنت الأخير زمانه …لآتي بما لم تستطعه الأوائل.
بما ذا كنت ستجيب سائلنا ” لماذا تقرض الشعر يا أبا العلاء ”…
سأفكر في الأمر و أنا في طريقي إلى المركز الثقافي الفرنسي… لكن علي أن أجد الفكرة العامة.. حسنا سأقول بأن الرغبة في الكتابة تنتابني بطريقة شبه ميكانيكية ، كما البركان الذي ينفجر استجابة لدرجة من الضغط ، أو بحدة أقل كما الإناء ينضح حين يمتلئ… بتعبير آخر ، كل الناس لديها مَداخل إدراكية و مخارج ، نوع من input و output. بالنسبة لي فالكتابة واحدة من هذه المخارج. أخالها فكرة لا بأس بها ، سأصقلها قليلا ، أو ربما سأتركها لتلقائيتي تفعل فيها الأفاعيل… على ذكر تلقائيتي ، عليّ أن أتحكم في حركات يدي… فأنا من الأشخاص الذين يتكلمون بأيديهم أكثر من لسانهم… في مذكراته عن تجربته في العراق ، سخر بول بريمر كثيرا من الجعفري و حركات يديه… لن أسمح لعفويتي ، أو ربما عصبيتي، أن تخدش الإستحسان الذي سأخلِّفه… لن أقبل بتعليق على غرار: كان رائعاً و لكن…
القميص الذي لبست ، فاتح نسبياً ، لذلك عليَّ ألاَّ أقوم بأي جهد عضلي حتى لا أعرق. آخر إطلالة على المرآة ، قليل من الجيل على الشعر… لست أدري لماذا لست مرتاحاً في هذا القميص ، سأغيره.. لو كان معي أخي حسن لكان قد حسم الأمر من الأمس و اختار لي ما ألبس.. زوجتي خرجت غضبانة إلى أختها… لا بأس ، سألبس تي شورت أسود ، و أحتفظ بالحداء الخفيف… قليل من العطر… آه, يجب أن أتأكد هل لدي ما يكفي من المال…أظن خمسين درهم تكفي ، سآخد التاكسي فقط في الذهاب و أعود على قدمي … و لكن ماذا لو كانت الجائزة تقيلة ، موسوعة علمية ، أو سلسلة دواوين… حسنا مائة درهم … المركز الثقافي الفرنسي ليس بعيد من مرشان. قبل أن أذهب لابد من بعض المشاكسات… تلفون إلى أخي حميد …
-ألو صاحبي ، ألازلت مُصرّاً أن لا ترافقني إلى المركز الثقافي..
-اعذرني ، فعندي بعض الإلتزامات…
-لا بأس ، إذا دخلت إلى المنزل اقلب إلى الجزيرة مباشر.. ستجدني أتحدث عن ديوجينة… الحمد لله الذي أبدلني بأميين أمثالكم ، رجالا من تلاميذ سِّي سلاّم.. مازالت الثقافة بخير في هذه البلاد… إلى الملتقى ، سأحكي لك التفاصيل فيما بعد..
و لكن لماذا لم أفكر بأخي محمد ، لو طلبت منه إيصالي ، فلن يمانع… من الأحسن ألا أزعجه… ربما أشتري سيارة بعد أن أنال جائزة البوكر… كل آت قريب…
حملت الإستدعاء ثم خرجت.
توقف التاكسي عند باب المركز. لم يسبق لي أن دخلته من قبل. ليس هناك ما يشي بتظاهرة ثقافية كبيرة. لم أودّ أن أسأل أحداً. تبعت أحد المتسلِّلين , ثم وجدتُني أمامها ، لائحة مكتوبة بالفرنسية: قاعة المهدي المنجرة .
هناك اختلاف في الميثولوجيا اليونانية عن إسم إله الوقت هل هو كرونوس أو خرونوس . في الواقع لا يهمني إسمه بالضبط كل ما أريد معرفته هو سبب كراهيته لي… لا أذكر أنني الْتزمت بموعد ما ، مهما حاولت… درست في طفولتي بمدرسة حفصة أم المؤمنين و كانت تبعد عن منزلنا بأقل من 200 متر ثم انتقلت إلى إعدادية ابن الأبار و تفصلنا عنها أقل من 100 متر فثانوية زينب النفزاية التي كانت تتطلب ستة دقائق للوصول إليها ، لكني كنت غالبا ما أصل متأخراً … و حين اشتغلت في فترة ما بمدينة تطوان سكنت فوق الإدارة التي كنت أعمل فيها ، و… من شبَّ على شيء… لك أن تفهم أني دخلت قاعة المهدي المنجرة و وجدت أحدهم يتكلم…
جلست في الصف الأخير ، ليس تواضعا و لا لأن المجلس انتهى بي إلى هناك. تعمًّدتُ ذلك لأنه عندما سيُنادى على إسمي سيدير الحاضرون رؤوسهم للبحث عني و سيكون عندي مجال أكبر للظهور و أنا أُهرول نحو المنصة… سمها غرورا أو حبا للظهور … أنا سأسميها لحظة الإنتشاء بالتتويج …عليَّ أن أستغل كل سنتيمتر و كل ثانية ، و عهْد منّي لن تكون هذه الليلة سوى الدرجة الأولى لمنصات أعلى.
ابتسمت و أنا أسمع تعليق طريف للمقدم ، ذلك بالرغم من أن الإعلان كان واضحاً في كون المسابقة تهم الشعر العربي ، إلا أنهم توصلوا بمحاولات مكتوبة بالفرنسية و الإسبانية أيضاً.
” و كي لا أطيل عليكم سنمر مباشرة إلى الإعلان عن الفائزين بالمراتب الثلاثة الأولى ”.
الجائزة الأولى ، يسرى بلعايش ، سمعت بداخلي صرخة على إيقاع أيياي ، حين يضيع ميسي هدفاً محققاً.. عنوان القصيدة ، كن بجنبي. عنوان البحث ، نقد فلسفي لكتاب نهاية التاريخ لمؤلفه فرانسيس فوكوياما.
” فيها خير..” قالت نفسي لنفسها…
الجائزة الثانية ، يوسف ت..ت.. تملمت في مكاني و كدت أصرخ ، إسمه يوسف اتباتو..
تواتي..أعيد ،يوسف تواتي.
الله ينعل والدك ، قلتها هذه المرة بشكل شبه مسموع…..
عنوان القصيدة ، في القلب يا وطن ، عنوان البحث ، نيتشه و النازية ، أيَّة علاقة..
الجائزة الثالتة..تم صمت ، و أخذ يتبادل الهمسات مع أحد أعضاء اللجنة..و كأن الأمر مقصود.. جهان الخمليشي ، عنوان القصيدة ، متى ستغضب ،
الآن أجبته بمرارة…
عنوان البحث ، ابن رشد من زاويتن.
استحضرت جملة قالها المرحوم الحسن الثاني في كتاب ذاكرة ملك مفادها أنه في بعض اللحظات العصيبة تنتابك أفكار كاريكاتورية. فعندما كانت الصحون تتطاير بفعل الرصاص أثناء الهجوم على قصر الصخيرات ، تساءل ملكنا عن وجود شركة تأمين للأواني …
كان حَرياًّ بي أن أتساءل عن شركة تأمين عن الأزمات النفسية ، لكن كل ما استحضرته حينها هو المقطع الجميل لِلْجميل عبد الهادي بلْخياط ” الصدمة كانت قويا ..كانت قويا …و الصدمة كانت قوية …” … استفقت على صوت المنشط و هو يبشرنا بمفاجأة الأمسية الثقافية ، الفرقة الفرنسية للبالي…
قلت في نفسي ساخراً، هذا هو الشيء الوحيد النشاز في هذه التظاهرة… في الواقع و بمناسبة مسابقة الشعر العربي الذي ترعاه وزارة سّي سلّام، و المقامة في قاعة المهدي المنجرة بالمركز الثقافي الفرنسي لا بأس من فرقة البالي و لكن كان يجب أن تكون من أفغانستان أو الصومال …
غادرت القاعة تاركاً وراء ظهري فتيات كالفراشات يتنقلن على رؤوس أصابع الأقدام. لم أستفق إلا على صوت ” شي بركة ألْخَوا ”
إنه، أطيلا أو بالأحرى أطيلا الثاني….. متشرد مستقر في باب طياطرو. الثاني ،لأن قبله كان أطيلا الأول ، كان في أواخر الثمانينات. لست أدري في أي مكتب تُسجّل أسماء المجانين و المتشردين . أطيلا، بعلولا ، اتشمَقْ..
رددت بإشارة من يدي و شفعتَها بتعابير على وجهي و حين نجمع الإثنين تكون المحصلة ” اعطيني التيساع فهاد الساعة”.
دخلت المنزل، غيرت ملابسي ، و هاأنا ذا بالشرفة أتأمل فيلا الريسوني…
مرّ على جلوسي الآن أكثر من ربع ساعة. رنة خفيفة على الهاتف، يبدو أنها رسالة خطية. إنها من زوجتي لا بد أنها تجلس مع أختها في البلكون ، و قد علمت بِوُصولي حين أشعلت الإنارة.
bessaha ljaiza..
سحقا لمن اخترع هذه الطريقة في التواصل… أُفضِّل أن أقرأ ثلات صفحات بلغة ما ، أي لغة ، على أن أقرأ هذه التعاويذ…. أجبتها باقتضاب ” الله يعطيك الصحة ”
في الواقع كان علي اصطحابها معي… من يدري ربما هي من دعت علي حتى غيروا الترتيب…
ولكن منذ متى كانت في المغرب وزارة إسمها الثقافة. … أراهن أن سّي سلاّم إذا تولّى وزارة البترول في السعودية ، ستنضب كل أبارها…
ربّاه لماذا هذا العنت… أين الخطأ …؟
لقد اخترت كلمة “الدمياطي” الشعبية و أردت فقط إخضاعها للمصطلح الثري ” الإبستيمولوجيا “. علما أن هذه العملية ، إخضاع ما هو شعبي لمن هوثري، يقوم بها وسطاء في مستويات عديدة ومنذ أحقاب مديدة..
كنت أقرأ ذات مرة عن الحداثة في الشعر العربي ، فاستفزتني هذه الجملة في نص أبى كاتبه إلاّ أن يسميه ” قصيدة ” : العمال يخرجون من أوراق الشجر…
لماذا سمح لهذا الشاعر أن يخرج العمال من أوراق الشجر ، و لم يستوعبوا إبستمولوجية الدمياطي..

لست أدري لمادا يتركون الأضواء مشتعلة طيلة الليل في فيلا الريسوني… من يؤدي الفاتورة؟

ا لرجوع نالله أسي يوسف قلت في نفسي…
الدمياطي كمبحث إبستيمي ، هل حقاً كانو ينتظرون مني أكثر من هذا… ألستُ حصاد زرعهم ، و ابن نسقهم… ألست واحد ممن شاهدو في طفولتهم فيلم “التشاكرباكربن ” لنبيل الحلو… ألست من جيل فئران التجارب حيث إصلاح التعليم و التعريب و التخريب…
هكذا تكلمت ديوجينة ، حكومة هجينة ، سلاَّم وزير الثقافة ، قاعة المهدي المنجرة في المركز الثقافي الفرنسي … الشريف الريسوني رجل دولة…
لقد تعبت ، سأذهب للنوم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *