وجهة نظر

بأي حال عدت يا عيد ؟

أبى القلم أن يبقى مرفوع الرأس، سقط فبدأت رحلة الكتابة بعد صراع مرير مع البياض، في هذا الركن القصي من زاوية البيت محاوراً الليل، في هذه اللحظات عقلي شارد، أنا الذي ربطت علاقة حميمية مع الليل، أجمل الأشياء تعجبني في هذا الوقت، أقرأ بنهمٍ، أكتب بروحٍ عالية، أكل بشهية كبيرة رغم أنني في الآونة الأخيرة أقسو على نفسي بحمية قاسية.

أحياناً كثيرة قد تكون الورقة قاسية، لكنها أغلب اللحظات هي ملاذي الوحيد حين تحتضنني بشوق ولهفة كي أسكب على أسطرها الحنونة ما تبقى من هشاشتي، من إنسانيتي في الزمن المجرد من الروح المتكلمة، زمن المادة الصماء البكماء.

اليوم عيد وبأي حال عدت يا عيد؟ هكذا الأيام وفي كل يوم نقطة مضيئة، قد نستطيع قطف جميع الزهور، تخريب جميع الحدائق والمروج، لكن يصعب علينا إيقاف تفتح الربيع.

أجمل اللحظات هي التي نتعرى أمام المرآة لا كي نقسو على ذواتنا لا كي نجلد أنفسنا، ليس للبكاء على الأطلال، ليس لوم أفعالنا وليس هروبا إلى الأمام، وتعليق مأساتنا على شماعة الآخرين، أجمل اللحظات أمام المرآة لكي نقوم بنقد ذاتي، لكي نصحح قناعاتنا وأفكارنا وكم غال ثمن هذه القناعات.

الناس الطيبون وما أدراك ما الناس الطيبون لهم وقع خاص على قلوبنا، رؤية إنسان كبير، رؤية أسطورة يوم العيد إنسان ليس كباقي الناس، شخصية سكنت العقل، والقلب، والوجدان، واللحم، والشحم، والدم.

رؤية إنسان غال بكل ما تحمل هذه الكلمة من دلالات، تدخل الفرحة على القلب لكن في نفس الوقت تدخل الرهبة، أمام هذا الكائن، أمام هذا الشموخ، أمام الأسطورة تخونني اللغة ألهو بالألفاظ، وأعجز عن الكلام، من أصعب اللحظات وأكثرها تدميرا للنفس هي أن تودع أناسا لا تقوى على وداعهم، وتدرك كم هي الحياة صعبة وشحيحة بدونهم، أن تبكي بحرقة أن تسهر الليالي ولا تجد سببا أو تفسيرا لذلك، كم صعب أن تحس باليتم، كم صعب أن تعيش على المسكنات، على المهدءات، على الحلم، على الانتظار ،على الأمل، لمدة قد تطول لسنوات…

حقا، أجمل الناس إما يموتون أو يرحلون أو يهاجرون، فيتركون جرحا غائرا في القلب لا يندمل، أكبرت في الشاعر الراحل محمود درويش شاعر القضية وقضية الشاعر، أكبرت فيه صبره وعناده وهو الذي عاش السنوات الطوال في المنفى الاختياري، لحظة وفاته أجمل ما وجد في جيب سرواله مفتاح بيته، حيث كان يحن إلى خبز أمه وقهوة أمه، مفتاح بيت طرد منه من طرف محتل متغطرس لمدة تفوق الخمسين عاما، رغم ذلك كان كله أمل في العودة لمعانقة الجدران، حيث البدايات، حيث البراءة، حيث الطفولة، حيث الهوية، حيث الأصل…

وكيف لك وأنت الذي تحمل معك صورة أسطورية خرافية أينما حللت وارتحلت، ألا تخشى وأنت الذي تجاوزت العقد الثالث أن تخطفك يد المنون وألا يتحقق حلمك، أنت المجنون من نوع خاص، أنت المسكون بوجع الحروف،ألا تخشى ألا تكتمل الحكاية بجانب الصورة، ألم يسبق لك ورددت مرارا أن “الأعمال العملاقة نتاج مخاض ومعاناة”.

دعني صديقي، أدون حكايتك بجانب الوسادة، أنت المهووس بالتأريخ، دعني أدون هذه المسودات، أجمل ما فيها اليوم رؤية الأسطورة، فشكرا لك أيها العيد، شكرا لطلعتك البهية، وشكرا لمفاجأتك السارة، وكل عيد وأنتم طيبون، والسلام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *