وجهة نظر

العالم في حاجة إلى نظام عالمي جديد أكثر عدلا وإنسانية

أحمد بلمختار منيرة

يبدو أن نظام العولمة، يحتضر. وأن صناعه عاجزون منذ ثمانينيات القرن الماضي، وخاصة في العشرية الأخيرة، عن إيجاد الحلول الملائمة للمعضلات الاقتصادية والمالية والاجتماعية الناجمة عن تطبيقات هذا النظام. وهم لم يفوا بوعودهم للعالم ولدول الجنوب خاصة.

بداية دعنا نستحضر معا الركائز المعلنة لنظام العولمة منذ نشأته من طرف منظريه “الليبراليون الجدد” ، وهي أربعة: الديمقراطية، والتعددية، والتنافسية، والتحررية. لكن تطبيقات العولمة ميدانيا تنافت، وما زالت تتنافى، مع هذه المبادئ.

نعم، يصعب أن يسقط نظام ينبني على مثل هذه الركائز كيفما كانت تسميته، العولمة أو الشوملة أو الأمركة(…). لذلك من حق القارئ أن يتساءل عن الأدلة ومؤشرات التنبؤ بسقوط نظام العولمة، خاصة في هذا الظرف العالمي الرهيب، الذي تحتاج فيه الإنسانية جمعاء إلى مخارج من الدائرة المفرغة ل ” جائحة كورونا “.
لملامسة هذه الأدلة والمؤشرات، سنستند إلى آراء ودراسات خبراء في السياسة الدولية أمثال عبد الهادي بوطالب (رحمه الله) وعباس برادة السني المتخصص في الدراسات الدولية والبلدان النامية والذي مارس عن قرب في مجموعة من المنظمات الدولية، ووطننا العربي يزخر بمثلهما.

فحسب العديد من الخبراء الدوليين، حملت وتحمل العولمة في طياتها أسباب سقوطها منذ سقوط حائط برلين في (1989) على الأقل. ولهم دلائل كثيرة عن ذلك استنادا إلى المرتكزات المعلنة أعلاه.

أولا: نظام العولمة ليس ديمقراطيا، لأنه لم ينبثق من إرادة جماعية، إرادة شعوب العالم. ولم يتم طرحه للنقاش من طرف ممثلي الشعوب في العالم، في البرلمانات وفي مجالس الشعوب.

ثانيا: نظام العولمة ليس تعدديا، لأنه اعتمد خيارا وحيدا هو خيار نظام السوق وحرية التبادل وتحرك الرأسمال عالميا بدون قيود. ولذلك ذهب عبد الهادي بوطالب (رحمه الله) إلى أنه حين لا يترك هذا النظام للعالم إلا هذا الخيار، فإنه يفرض عليه نظاما أحاديا غير قابل للنقاش، ناسفا بذلك مبدأ التعددية إن لم يكن قانونيا ففعليا.

ثالثا: نظام العولمة ليس تنافسيا ولا تحرريا. إن قاعدة التنافس لم تخدم قط مبادلات بلدان الجنوب نظرا لأن إنتاج هذه الأخيرة لا يستجيب دوما لمعايير الإنتاج والاستهلاك المقبولة والمعمول بها عالميا. وبالتالي، فإنه لا يتلاءم في جزء كبير منه مع قوانين السوق العالمي. كما أنه يفتقر من جهة أخرى في نظر الخبير الاقتصادي الدولي عباس برادة، لتلك الشبكات الواسعة من العلاقات والتحالفات التي تجعل من المنتوج الأوروبي أو الأمريكي أو الياباني معروفا لدى الفاعلين الاقتصاديين في العالم. وتؤهله بالتالي لكي يحظى بالاختيار والصدارة لدى المستهلكين.

وحسب بوطالب (رحمه الله) ففي هذا النظام يملك الرأسمال الكبير السيادة والنفوذ على حساب الرأسمال الصغير والمتوسط. ويصبح التنافس بين هذه المستويات شبيها بمصارعة السمك الصغير للحيتان الكبرى في المحيط الصاخب.

واليوم، يبدو أن جائحة كورونا ستوقع مع نهايتها (التي نتمنى أن تكون في القريب العاجل) على آخر مرحلة في تاريخ نظام العولمة. وقد بدأت دول الاتحاد الأوروبي وأمريكا وآسيا الاستعداد للمشاركة الفعلية في النظام العالمي ل ” ما بعد كورونا “. وهو ما يؤشر على أن النظام المقبل سيكون متعدد الأقطاب.

فالصين، أبانت عن ملامح سياستها الاستراتجية في افريقيا من خلال مساعدتها للعديد من الدول لمواجهة جائحة كورونا، وهي تقوم بذلك منذ سنوات مستغلة الفراغ بل التخلي الأوروبي عن افريقيا . وقدمت لإيطاليا ودول أوروبية أخرى ما لم تقدمه لها دول الاتحاد الأوروبي. وهي تطمح إلى أن تتزعم العالم منتصرة على أمريكا بالنقط.

وأمريكا رغم خسارتها للعديد من النقط في العالم بسبب سياساتها الأخيرة على المستوى الخارجي، لن تسمح أو تتسامح فيما يخص مصالحها الاستراتيجية خاصة في الشرق الأوسط. ولن تسمح في الزعامة العالمية، إلا مجبرة، كما حصل لبريطانيا بعد الحرب العالمية الأولى.

الاتحاد الأوروبي الذي فقد مكونا كبيرا بثقل بريطانيا، رغم التصدعات التي عرفها ومازال يعرفها بسبب جائحة كورونا، توصل مؤخرا بعد أسابيع ” مارا طونية ” من التفاوض إلى اتفاق حول تخصيص 500 مليار أورو للانطلاقة الجديدة لاقتصادات دوله في مواجهة الحرب على كورونا. وهو إعلان على أن أوروبا تعي أن استمرار وجودها قوية في الساحة الدولية رهين بتقوية اتحادها.

وللأسف الشديد، باستثناء التحرك المغربي نحو افريقيا. وتنبيهاته المتكررة، آخرها في الخطاب الملكي الأخير، من طرف أعلى سلطة في بلاد المغرب إلى أنه لا مفر من التعاون جنوب/ جنوب. وذلك ليس للتخفيف من تبعات “جائحة كورونا ” فحسب، ولكن لأنه لا حل للمعضلات الاقتصادية والاجتماعية المستقبلية إلا في ظل نظام عالمي جديد، يضمن لدول الجنوب مكانا آمنا ولو نسبيا.

وعلينا أن نعي أن الأبناك الدولية قد أثقلت بالديون، كاهن الدول الافريقية المتضررة بسبب جائحة كورونا. وما أدراك ما تبعاتها الخطيرة في المستقبل.

وباستثناء النداءات المغربية وترجمتها إلى أفعال في دول افريقيا، لم نسمع لحد الآن عن إعادة بناء البيت العربي الذي يهتد بنيانه يوما بعد يوم.

إن العالم اليوم في حاجة إلى نظام عالمي جديد، لا يشيئ الإنسان. ولا يجعل منه بضاعة تخضع لقوانين العرض والطلب كسلعة جامدة لا تستطيع التعبير عما يضرها. نظام إن لم يكن يحقق المساواة بين الدول، يسن قواعد ومبادئ تقلص من حجم تباعد المسافة بين عالم الشمال وعالم الجنوب.

نظام متعدد الأقطاب، لتحقيق التوازن المفقود منذ غزو العراق.

وعلى أوروبا أن تعي أن مستقبلها مرتبط بتقوية العلاقات الاقتصادية المبنية على التشارك بين القارة الأوروبية والقارة الافريقية. ويمكن للمغرب أن يؤدي أدوارا كبيرة في الوساطة بين القارتين لاعتبارات متعددة منها موقعه الجغرافي، ومكانته السياسية (…).

ولاشك أن التاريخ أثبت أن ” الحق يؤخذ ولا يعطى ” والمقصود أن حق افريقيا في الحصول على مكان آمن في الساحة الدولية لن يتأتى إلا بتوفر شرط أساسي عنوانه: افريقيا القوية. قوية بالديمقراطية داخل كل بلد افريقي. قوية بالعدالة الاجتماعية، داخل كل بلد، في التعليم والصحة والسكن. قوية باقتصادها.

إن علينا نحن الأفارقة أن نستيقظ من غفلتنا فنحن نمتلك، الخيرات الطبيعية، والموارد البشرية، والطاقات العلمية (…) وهي ثروات تمكن من تحقيق التكامل الاقتصادي والاجتماعي في القارة الافريقية. وبالتالي، تحقيق الاستقرار السياسي في كل دولة افريقية على حدى.

ولما لا نتحدث في المستقبل القريب عن “النظام الإفريقي الجديد”؟ ونسن قواعده ومبادئه. ليس الأمر هينا، ولكن يمكن أن يتحقق إذا توفرت الإرادة السياسية على المستوى الافريقي. وتوفر شرط الاستعداد لأن تحقيق هذا الحلم يحتاج إلى تضحيات كبرى. ولن تسمح الدول العظمى بإحداثه إلا إذا أجبرت على ذلك.

كما أن التفاوض مع أوروبا أو أمريكا أو الصين لن يكون ناجحا إلا من خلال اتحادات قوية في افريقيا، لأن التعاون بين دول العالم الشمالي والعالم الجنوبي، ونقل التكنولوجيا، وحقوق الإنسان في العالم (…) ما هي إلا شعارات مضللة، يستعملها الأقوياء في العالم لتحقيق مصالحهم الاسترتيجية. أما واقع العلاقات الدولية فهو مبني على امتلاك أسباب القوة في كل أبعادها.

مجمل القول، إن العالم في حاجة إلى نظام عالمي جديد يعيد للإنسان كرامته، وأخلاقه. تتعامل فيه الدول في الشمال والجنوب بمنطق التكامل والتعاون والتشارك.
نظام ينبني على احترام الثقافات والأديان.

نظام يعيد للدولة صدارتها في الضبط الاقتصادي، والحماية الاجتماعية. الدولة القوية بقطاعها العام، والحامية للحريات العامة ولحقوق المقاولات الصغرى والمتوسطة. الدولة التي تفرض شروطها بقوة عند فتحها الباب للشركات الكبرى، حتى لا يتعرض الإنسان إلى الطرد التعسفي أو التهميش وهو في وطنه.

والأكيد هو أن ” ما بعد كورونا ” إما نكون من خلال المشاركة كقوة افريقية وعربية في سن قواعد النظام العالمي المقبل، أو لا نكون ولن ينفع البكاء على الأطلال آنذاك.

* إعلامي وباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *