وجهة نظر

أي واقع سوسيو-مجالي نريد؟

اللا مبالاة واللا اهتمام واللا مسؤولية حصاد لتنشئة اجتماعية معطوبة تتداخل وتتاشبك فيها أبعاد عديدة من قبيل البعد الثقافي- القيمي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي، كل نسق من هذه الأنساق نجده في بعض الأحايين معتريا بخلل وظيفي ولا ربما ببنيات مهترئة، إذن فالمنفذ الوحيد للخروج من هذه الدوامة المزعجة هو التأسيس لتغير اجتماعي ارتقائي- وقائي مقصود، وهو تغير إلى الأفضل، بهدف تحقيق أغراض مخطط لها تخطيطا علميا، قائما على الدراسة الموضوعية والبحث العلمي، ومن أمثلته تقدم وارتقاء العلوم والمعارف، وفق استراتيجيات تروم تنمية شاملة، بدء بإعادة الإعتبار للمؤسسات الاجتماعية، وتفعيل أدوار تنظيمات المجتمع المدني، ودمقرطة المجال، هذا المجال المنتج والمستهلك في ذات الآن.

فمتابعة لتداعيات أزمة كورنا المفاجئ، اتضح بجلاء أن الخلل كل الخلل في نوع الأسئلة التي طرحت قبلا، حول الإنسان الفاعل في المجال، وحول السبل الحقيقية لتأهيل المجال بمعناه الفيزيقي الذي يعتبر المرآة العاكسة لقياس اتجاه وإيقاع التغير الاجتماعي.

فهناك أساسات لا محيد عنها، و التي أوجزها في ثلاثية: البنيات التحتية والتجهيزات الحديثة، الخدمات الاجتماعية المحسوسة، والأخلاق المواطناتية.

فكل هذه العناصر الثلاثة تعمل في انسجام وتكامل، وتظل رهينة بثنائية الحق والواجب، فالمطمحين الأول والثاني ( البنيات التحتية والخدمات الاجتماعية )، لن يتحققا إلا بسياسة عمومية حكيمة والتي يمكن تصنيفهما في خانة الحق، أما المطمح الثاني فلن يتحقق إلا بجودة المطمحين السالفي الذكر والذي يصنف بقوتي الشيء والفعل في خانة الواجب.

لهذا وجب قبل أي وقت مضى استغلال كل المقومات الطبيعية والموارد الترابية والطاقات البشرية والموروثات الثقافية المحلية والتراثين المادي واللا مادي، في كل المشاريع التنموية المزمع تنفيذها، كونهم مداخل جوهرية ضامنة لمخرجات تنعكس نفعا وإيجابا وتنمية على الإنسان والمجال.

إن الواقع السوسيومجالي الذي يعتمل بداخله الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي، غالبا ما يبعث بإشارات وملامح ومحاذر قوية، تنبه لضرورة إعادة النظر في السياسات المنتهجة ومراجعة ترتيب الأوراق في شأن العلاقات الثنائية الآتية: مواطن/مواطن، مواطن/مؤسسة، مؤسسة/مؤسسة.

إن الوضع الراهني وضع مقدور عليه إن جددت الثقة بين المواطنين والمؤسسات، ومقدور عليه إن وفرت العتبة الإقتصادية لسيرورة أداء الأسر، ومقدور عليه إن هيكلت كل المهن الحرة على وجه السرعة، ومقدور عليه أيضا إن ذابت الخلافات السياسية والنزاعات الشخصية، وغابت الإيديولوجيات المنزوعة بنزعة “أنا ومن بعدي الطوفان”، وغابت معها ديماغوجية سماسرة الأزمات أو أعداء الوطن، المسخرين للعب أدوار كراكيز الرأسمالية المتوحشة، الكراكيز العديمة الإنسانية والمجهولة الهوية، والمسيرة بخيوط النيوليبرالية.

هنا يجرنا الحديث للتنشئة السياسية التي تستمد روحها من القانون الذي أتى به الدستور ومن قانون الأحزاب ومن المواثيق والأعراف الدولية، والتي تهدف إلى الإعتزاز بالإنتماء والهوية، و التحلي بالقيم السياسية العليا، و تجديد الثقة بالمؤسسات، وترسيخ الوطنية والتفاني والإخلاص للوطن، وبالتالي إلى المشاركة السياسية.

فالعالم الآن، وجراء اكتساح كوفيد-19 قد تغير نتيجة تعرضه لهزات ورجات وأزمات نخرت كل الأنساق والوحدات والنظم الحيوية بالمجتمعات، وبطبيعة الحال سيتغير معه الإنسان باعتباره فاعلا وسط هذه المنظومات، على مستوى سلوكياته وقيمه وتمثلاته الذهنية وعلاقاته الاجتماعية، وهو تغير ذو حدين، إما ستقع ثورة قيمية، بمعنى إما سيعاد للقيم والثقافات المحلية قيمتهما الأصيلة، وهما اللذان ترعرعا و نمتا في أرض كانت تسودها تضامنات وتعاقدات قبلية، أو ستحل قيم وثقافات مستحدثة ستفسد على المحلي ” أطموسفير ” انتعاشه، وستعود الكلمة والهيمنة والسيطرة للفكر الأناني البارغماتي، ولمتطلبات اقتصاد السوق.

فالرهان كل الرهان على الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، التي من المفروض أن تكون ملتقى تجتمع فيه كل الفعاليات الحاملة في نواياها القصدية الإستعداد وقابليةالاستفادة من دروس كورونا، في إطاريها المحلي والإقليمي، والإلتزام بالتزامات واضحة المعالم في شأن ما قرر وتقرر لإصلاح ما يمكن إصلاحه، تنفيذا لكل المخططات التنموية سواء بالمجال القروي أو المجال شبه الحضري أو المجال الحضري، لمواكبة ومسايرة الركب الحضاري، وللتخلص من التمثلات الذهنية التي تولدت عند الطبقات الكادحة آنفا، جراء المعاناة والمشاكل الاجتماعية التي كانت له بمثابة قيود وكوابح تقف سدا منيعا أمام الرغبة في الإنخراط والمساهمة في البناء والتجديد، ولربح مجال إيكولوجي بامتياز ليس بالمعنى الطبيعي فقط، بل حتى بالمعنى المجازي الذي يتعداه، أي مجال تسوده العدالة والمساواة والديمقراطية، خاضع لحكامة سياسية رصينة، تستطيع عن طريقها مؤسسات ومواطنين الوصول للمردودية والجودة والإنتاجية، وبالتالي للإبداع الذي يفيد المجتمع لا محالة، ويعطي المكانة اللائقة للبلاد وسط تنافسية المنتظم الدولي.

فنحن لسنا سلبيين تجاه كل المبادرات المقدمة لحد الساعة، لكن في نفس الوقت لسنا مطمئنين لأحوال الأهالي، فالمتغيرات الاجتماعية المرصودة هنا وهناك، تسائل الجميع بخطاب صريح:

أي واقع سوسيومجالي نريد؟

هنا يتحتم إعادة النظر في دوري، الفاعل السياسي والفاعل المدني، وجعلهما يتقاسمان الهموم المنبعثة من الاجتماعي، علما أن ضغوطات الهموم المعيشة، تنخفض حدتها على إثر مترسخات أوجزها في، القناعة والصبر والتفاؤل، كما تعتبر بمثابة مناعة مكتسبة، لكن في نفس السياق وجب اتخاذ الحيطة والحذر والتحلي باليقظة لمدة فاعلية وصلاحية هذه المناعة التي يمكن أن تضعف مع مرور الزمن والأحداث، أي كلما اعترضتنا أزمات ومشكلات وانكسارات، كالتي نعيشها اليوم، الأزمات الناجمة عن تداعيات وباء كورنا العالمي على سبيل الذكر لا الحصر.

كما لا نبخس جهود المؤسسات ومجهودات مواردها البشرية، بل على العكس من ذلك، نشد على أياديهم النظيفة وغيرتهم الوطنية بحرارة، كما نثمنها لكن شريطة العمل بمسألة إيجاد الحلول التوافقية قبل الإقبال المستعجل على المحاربة المطلقة للمظاهر والظواهر الشاردة والمخالفة لكل ما من شأنه عرقلة المسير والمسار التنموي، لهذا الأساس، فلا زيغ عن حتمية توفير الأولويات الآتية ذكرها:

٠ هيكلة المتبقى من المهن الحرة.
٠ التغطية الصحية الشاملة.
٠ الرفع من نسبة دعم البحث العلمي.
٠ الاهتمام بالشأن الثقافي كونه مدخل للتنموي.
٠ إشراك تنظيمات المجتمع المدني في الإقتراح والتخطيط والتدبير.
٠انتهاج منهجية التدبير التشاركي انتصارا للديمقراطية التشاركية.
. وجلب الاستثمارات الخارجية…

إن هذه الأولويات وحسب التجارب الدولية فهي قاطرة النمو والنماء والتطور والتقدم، ومبدأ كل تنمية وتهيئة وعدالة مجالية، لأنها تهدف بالأساس إلى تقويم الاختلالات السوسيومجالية المسجلة بكل الجهات، دون الرجوع لسياسة الترميق…

فبالإضافة إلى إعطاء الأهمية القصوى للمجال المؤسساتي المتمثل في تفعيل الجهوية المتقدمة، والمجال الاقتصادي المتمثل في تشجيع الاستثمارات وما ينتج عنها من تحسين مستوى العيش والمعيشة لدى الأسر، والمجال البيئي المتمثل في ضرورة الإستغلال الأمثل للمقومات الطبيعية المحلية التي تساهم في ارتفاع منسوب التحضر لدى الأهالي، كما تعمل أيضا على تحقيق سلامة الصحة والفكر في ذات الآن، هناك مجال آخر يعتبر من أولوية الأولويات، وهو مجال البحث العلمي ، على حد توصيف الباحث السوسيولوجي د. عبدالرحيم العطري ” العلم مفتاح الفرج ” قياسا بالصبر، فتطوره يعد ركيزة ودعامة أساسية في كل العمليات التي تطرأ في الحيوات: الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، فمن خلاله تنمو وتتطور وتتقدم ضمنيا الدول، ولا يجب أن يقتصر تطوير هذا البحث العلمي على مجال واحد دون غيره، كون كل العلوم تتكامل فيما بينها، لتحقيق هدف واحد أسمى ألا وهو خدمة الإنسان بالدرجة الأولى، كما يجب إيلاءه الإهتمام الكافي، لخلق دينامية علمية إيجابية في كل المجالات وفي كل الحقول المعتملة بداخل هذه المجالات دون أي تمييز وتعصب وحيد الوجهة.

في هذا الباب، لا مناص من التذكير بما جاء به برتراند راسل الفيلسوف وعالم منطق ورياضي ومؤرخ وناقد اجتماعي، بكتابه ” أثر العلم في المجتمع ” الصادر عن المنظمة العربية للترجمة، نونبر 2008، وهو عبارة عن محاضرات، أبرز عناوينها: النتائج العامة للتقنية العلمية، والديمقراطية والتقنية العلمية، والعلم والقيم، حيث يقول أن للعلوم وظيفتان: الأولى تمكننا من معرفة الأشياء، والثانية تمكننا من فعل الأشياء، وأنها المنفذ الذي يسهل على المسؤول مأمورية تطبيق القانون، عوض الدخول في المجابهات الصدامية، فسيطرة القانون يعد الطريقة الوحيدة للهروب من الواقع المليء بالنزاعات غير المجدية، وهو أحد شروط نجاح الديمقراطية، هذه الأخيرة الضامنة لحرية الأفراد والجماعات، والضامنة كذلك لمساهمة الأفراد وانخراطهم المادي الملموس في السياسة على المستوى المحلي، إيمانا واقتناعا منهم أنها وصفة رشيدة لتحسين الوضع المعيش، وفي نفس الصدد أبرز إ هذا العالم إعجابه وانبهاره بالعلم، لأنه يعطي على حد تعبيره، قوة تقنية تساعد الإنسان على السيطرة على الطبيعة وتقلباتها والمجال وعوائقه، وكشاهد على أفضال العلم وانتصاراته، هو ” هبة العلم للبشرية نعمة هائلة في التقدم الطبي ” على مر الأزمنة والعصور، فانتصار العلم جاء وبكل تأكيد نتيجة الملاحظة والإستنتاج بدل * المرجعية المتناقلة والمتوارثة، أي اعتماد العقل المبني على الملاحظة بدل النقل.
فعلى سبيل الختم، نعود ونقر على أنه ” لا سلطة تعلو فوق سلطة المعرفة ” – ميشيل فوكو-.

* طالب باحث بماستر سوسيولوجيا المجالات القروية والتنمية جامعة سيدي محمد بن عبدالله كلية الأداب والعلوم الإنسانية سايس فاس.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *