وجهة نظر

النغم والطرب في خدمة الجلاد

تمهيد :

الموسيقى شيء جميل يحبها كل إنسان، وبما أن الجلاد إنسان فهو بالضرورة يحب الموسيقى، لكن أيها السادة لا تذهبوا بعيدا و تسرحوا في الخيال، و تحسنوا ظنكم بسيادة الجلاد، لأن أهداف الموسيقى عنده شيء مختلف تماما عما هو في أذهانكم، إذا كانت الشعوب ترقص أو “تجدب” للتنفيس عن كبتها و حرمانها، فإن للطغاة أهدافا خفية من وراء إشغال الناس بالموسيقى و الطرب، و الشعوب في الغالب تكون مغفلة و تحسن الظن هنا بمن يحكمها، و تنخرط تلقائيا في جو الرقص و الطرب دون أن تلتفت للواقع المعاش، و تشكر كل من ينظم هذه المهرجانات من أجل “سعادتها”، إذن كيف يتم توظيف الغناء و الطرب في خدمة الجلادين..؟ و لتقريب الصورة أكثر يمكن الإستعانة هنا بلقطة من أحد الأفلام، والذي أعتبره شخصيا من أروع الأفلام الغربية الكلاسيكية، إنه فيلم “الطيب و الشرس و القبيح” (The Good, the Bad and the Ugly). و يعتبر هذا الفيلم من علامات السينما الغربية، ويتميز بقصته المثيرة وأداء الممثلين. و الفيلم إيطالي من نوع ( الوسترن ) تم إنتاجه سنة 1966، المخرج (سيرجيو ليون ) بطولة ( كلينت إستوود )..

الفقرة الأولى : كرم ضيافة ثم حساب عسير

باختصار الفيلم يتحدث عن فترة الحرب الأهلية، بين سكان الجنوب الأمريكي والشمال، و أحداث الفيلم تدور حول البحث عن كنز مفقود، والمعلومات عن مكانه توجد حصريا عند اثنين من معتقلي الجنوب، هما : الطيب المدعو (بلوندان ) ـ أما القبيح فهو المدعو ( طوكو )، و الإثنين وقعا معا في قبضة الضابط الشرس من أهل الشمال المدعو ( سينتنزا )، هذا الأخير أقام معسكر اعتقال كبير لأهل الجنوب، وكانت عنده طقوس عجيبة في التعذيب، حيث عمد إلى إنشاء فرقة موسيقية في هذا المعسكر، و التناقص هو أن الفرقة مكونة من أهل الجنوب أنفسهم، تصور معي أن إخوانهم يعذبون وهم يعزفون مرغمين، و المصيبة أن أفراد الفرقة على علم بما يقع في غرفة التعذيب المجاورة، و دورهم يكمن فقط في التعتيم على أصوات المعذبين، إنه تمزق عاطفي رهيب و مؤلم أي كابوس يتكرر عند كل حفل تعذيب، لقد نجح المخرج ( سيرجيو ليون ) في رسم المشهد بشكل مدهش، يجعلك تنخرط تلقائيا في الشعور بمرارة الجنوبيين، و المشهد هو كما يلي :

 

ـ لقد تم استدعاء المدعو (طوكو)، إلى مكتب الضابط الشرس ( سينتنزا) وهو في نفس الوقت مكان تعذيب، فعند دخول (طوكو) وجد مالذ و طاب من أصناف الطعام والشراب، و هو القادم للتو من معسكر الحرمان حيث الجوع والعطش ، طبعا لم ينظم الضابط الشرس هذا العشاء الفاخر عبثا، وإنما لحاجة في نفس يعقوب قضاها كما يقال، المهم أن (طوكو) انقض على أطباق الطعام والشراب يلتهمها بشراهة، و الضابط ينظر إليه و يطرح عليه أسئلة محددة، يريد من ورائها معرفة مكان الكنز بالتحديد، وعندما شعر هذا الأخير بكذب ” طوكو” و تلاعبه وأنه يراوغ و يخفي عنه الحقيقة، إنتقل إلى جانب النافذة حيث تتواجد الفرقة الموسيقية، ثم أشار برأسه لأحد الجنود بأن وقت العزف قد حان، كما أن حفل التعذيب سينطلق كذلك بالتزامن مع العزف، لقد جاء أحد زبانية التعذيب له جثة ضخمة أظنه جندي برتبة (كبران )، وبدأ بتعذيب (طوكو) المسكين دون مقدمات، و علا صراخ هذا الأخير من شدة ألم التعذيب، و علا كذلك صوت إيقاع الموسيقى بشكل متزامن، بحيث أن آلاف المعتقلين في المعسكر لا يسمعون إلا صوت الموسيقى و الطرب، أما عن حال أفراد الفرقة الموسيقية المساكين، فحدث و لا حرج حسرة ودموع مع استمرار العزف، تناقض “دراماتيكي” مضحك مبكي في نفس الوقت، المهم عندما اعترف( طوكو) توقف التعذيب مباشرة و كذلك الموسيقى، وهكذا ياسادة يتضح لكم توظيف الجلاد الضابط الشرس ( سينتنزا )، للموسيقى لا حبا فيها ولكن للتعتيم فقط عن جرائم التعذيب… بحيث يعلو صوت الموسيقى و الطرب، عن صراخ المعذب ( طوكو ) المسكين..

الفقرة الثانية : المظاهر الخداعة

 

كثيرا ما نسمع عن شعارات جميلة براقة، مثلا يقال : ( أن عاصمة دولة ( × ) هي عاصمة الموسيقى و الطرب هذه السنة، أو هي عاصمة الفنون الجميلة أو المسرح أو الأدب… أو هي بشكل عام عاصمة الثقافة العربية والإسلامية…)، المهم دعكم من هذا الهراء و المكياج السخيف و المزيف، يقول المثل المغربي : ( المزوق من برا أش اخبارك من الداخل )، وهذا ينطبق تماما على كثير من العواصم العربية والإسلامية، حيث ان هذه الأنشطة الفنية والأدبية قد تخفي مصائب، بحيث تجد الثقافة و الموسيقى فوق الأرض و التعذيب تحتها..!! هنا يكون فن الموسيقى أو غيره في خدمة الجلاد فعلا، قد ترى مظهر الأفعى جميل ألوان متناسقة ملمس رطب ناعم، لكنها تحمل في أنيابها السم الزعاف، قد تجد في أحد العواصم كذلك سوق كبير للورد و الزهور، حيث الألوان والعطر الفواح يسلب الأدهان، لكن قد تجد أيضا تحت سوق الورد هذا سجن سري، الذي يعذب فيه المعارض و المعتقل السياسي وكل من قال ” لا ” للنظام، إن الكثير من الأنظمة الحاكمة اليوم عندما تسقط، تنطلق مباشرة عملية البحث والتنقيب في كل الوطن، لا عن آبار النفط والغاز أو مناجم الذهب والفضة، لا بل عن المقابر الجماعية و آلاف المفقودين، وعن السجون السرية وأماكن التعذيب، الأمثلة كثيرة في هذا الميدان و يلزمها مجلدات لكي نعطيها ما تستحق، لهذا نكتفي ببعض الأمثلة و هي في المجمل ثلاث عواصم فقط، المشترك بين هذه العواصم الثلاث هو حكم العسكر، لقد سقطت عاصمة وبقيت عاصمتان تنتظران وما بدلوا تبديلا ..!!، العاصمة التي سقطت هي دمشق ليكتشف العالم المقابر الجماعية، و سجون التعذيب السرية وعلى رأسها أيقونة السجون السرية ( صيدنايا)، و الطريف هي أن هذه العاصمة حازت لقب عاصمة الثقافة العربية عدة مرات، و غنت فيها ( جوليا بطرس ) اغنيتها المشهورة ( الشعب العربي وين ) ( الجيش العربي وين )، وغنت فيها كذلك الفنانة ماجدة الرومي، والفنان مرسيل خليفه و الفنانة فيروز..، وصاحب الصوت العذب نجم الموشحات صباح فخري، كما ألقى فيها الشاعران الكبيران قصائد رائعة، هما اللبناني نزار قباني و الفلسطيني محمود درويش، في حين كان الأب المقبور حافظ، والإبن المغرور سابقا المخلوع لاحقا بشار، في شغل تحت الأرض من ذبح و سلخ و تشبيح للمعارضين، واليوم تنتظر الشعوب بفارغ الصبر خبر سقوط القاهر والجزائر، كي يكتشف العالم جرائم عسكر هذه الأخيرة، وماذا فعلوا في ما يسمى ( العشرية السوداء)..؟، و نظام السيسي كذلك ماذا فعل في رابعة وما بعدها…؟

خلاصة :

لا معنى لطوفان المهرجانات من أجل الغناء والموسيقى والرقص، والشعب جائع غارق في الديون و يعاني من غلاء المعيشة، يقول المثل المغربي : ( إلى شبعت الكرش تقول للراس غني )، هنا يا بوراس يا اصطل الغناء مشروط بشبع الكرش، وإذا غاب هذا الشرط لم يعد للغناء معنى ( يا بو صنطيحة )، لكن أن تغني وأنت جائع ( على لحم بطنك ) كما يقول المشارقة، أكيد أن حالتك جد متقدمة ولا تحتمل التأخير، لابد لك من زيارة طبيب الأمراض العقلية في أقرب فرصة، لقد سألت عجوزا عن سبب ضرب الدفوف و الطعارج والغناء، أثناء عملية ختان الأطفال قالت لي : ( باش نوضروا غوات الدراري.. أو ما يسمعوا أولاد العائلة و الجيران غواتهم )، المهم هذا تعتيم لكنه غير مسيس… لست ضد الموسيقى و الطرب ولكن شيء من احترام ذكاء الشعوب…!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *