وجهة نظر

مفهوم العلية بين الغزالي وابن رشد

يتناول هذا البحث المتواضع إحدى معضلات الفلسفة العربية الإسلامية التي حصل النقاش حولها بين الفلاسفة والمتكلمين، وهي مشكلة السببية الطبيعية ، ويعتبر أبو حامد الغزالي وأبو الوليد بن رشد أشهر الممثلين لهذا الجدال في تاريخ الفلسفة الإسلامية ، وذلك أن كتابيهما ” تهافت الفلاسفة” و ” تهافت التهافت” يمثلان أعنف مظهر لصراع الفلسفة مع علم الكلام.

فالأول هاجم الآراء الفلسفية ورام نقضها مدعيا تعارضها مع الدين والثاني تصدى له مدافعا عنها باعتباره أحد الممثلين لها في الغرب الإسلامي.

لابد إذن وفي هذا الصدد من تحديد مدلول العلية الطبيعية، إن مبدأ العلية القائل أن لكل شيء سببا هو من المبادئ العقلية الضرورية التي يشعر بها الإنسان ويدركها في حياته الاعتيادية ، فالإنسان كيفما كان متحضرا أو “بدائيا” يجد في صميم الطبيعة الباعث الذي يبعثه على محاولة تعليل ما يصادفه في حياته اليومية من حوادث طبيعية قصد تبرير وجودها والكشف عن أسبابها. إن الإنسان يواجه دائما إثر كل حادثة يصادفها سؤال : لماذا…؟ ما السبب …؟، الشيء الذي يبين انه يريد دائما معرفة كنه الأسباب المنتجة للمسببات التي يصادفها ، وحتى إذا لم يجد لها السبب المباشر فإنه يميل إلى الاعتقاد بوجود سبب أو أسباب خفية انبثق عنها الحادث.

من هذا المنطلق يمكن التقرير أن هذا المبدأ مبدأ عقلي ضروري يتوقف عليه أساسا إثبات الواقع الموضوعي للإحساسات، وكل النظريات والقوانين العلمية المستندة على التجربة، ويتوقف على أساسه أيضا جواز الاستدلالات وإنتاجيتها في أي حقل من الحقول العلمية والفلسفية.

إن مبدأ السببية إذن مبدأ أساسي في كل اليادين وخاصة منها التجريبية وهكذا فهي تحتل مكان الصدارة بل يمكن القول إنها العمود الفقري للنظريات العلمية التي تستند إلى التجربة والمشاهدة ،فإذا أسقط الإنسان العلية وقوانينها ونظامها الخاص أصبح من المعتذر عليه تمام التعذر تكوين فكرة عن شيء أو نظرية عملية في مجال من المجالات.

إن مبدأ العلية الذي يفيد كما اسلفت ان لكل حادثة سببا ،تستند عليه عدة قوانين منها على سبيل المثال لا الحصر ، قانون الحتمية الذي يعني أن كل سبب يولد النتيجة الطبيعية له بصورة ضرورية بحيث لا يمكن معها الفصل بين الأسباب والنتائج المترتبة عنها ، وهذا القانون سيساعدنا على فهم النقاش الذي دار بين الغزالي وابن رشد.

لقد خصص الغزالي مسألة من المسائل العشرين التي تناولها في كتابه ” تهافت الفلاسفة” للرد على القائلين بهذا المبدأ، وهي المسألة السابعة عشرة ، وقد جاء الرد الرشدي بدوره موازيا لذلك في كتابه ” تهافت التهافت” ، فتعرض ابن رشد للقضية نفسها في المسألة السابعة عشرة . ولهذا سيكون الاعتماد الكلي في هذا المجال على ما قاله هذان الرجلان في هذه المسألة وتلك دون الاهتمام بما ورد في الكتابين من مسائل أخرى ولا في غيرهما من الكتب إلا إذا دعت الضرورة إلى ذلك.

إن تناول الغزالي للعلية الطبيعية لم يكن تناولا علميا نظريا خاليا من كل الأغراض، حتى نقارنه بما تم في الغرب، في ميدان العلم التجريبي والميتودولوجيا، بل أتى هذا التناول نظرا لان القول بتوفر هذا المبدأ في العالم الطبيعي يتعارض مع مبدأ من مبادئ الدين وهو الإيمان بالمعجزات التي ظهرت على أيدي الأنبياء والمرسلين والتي يتحدث عنها النص الديني، فهل استطاع الغزالي أن يقدم خدمة للدين أم أنه سقط في منزلقات سببت الفوضى في مجال الدين؟. أما ابن رشد فقد كان رده قائما أساسا على بيان مراتب الأقاويل المثبتة في كتاب التهافت. في التصديق والإقناع وقصور أكثرها عن مرتبة اليقين والبرهان.

إن كشف الأهداف التي يصبو إليها الغزالي والأسباب التي حركته تبدو من الأهمية بمكان ضدا على الموقف الذي يريد أن ينفي عنه كل بعد تحزبي، ويضفي على المحاولة الغزالية بعد آخر جاعلا منه الرائد لنظرية ابستمولوجية صرفة.

يقال عادة إن الغزالي ظل سجين الإشكالية الأشعرية، أسبقية النقل على العقل، وإن ابن رشد ظل يدور في مجال التفكير الارسطوطالي ، ولا معنى لذلك في نظرنا ،إذ يمكن للمرء أن يزعم بأنهما قد تمكنا من تجاوز هذين الإطارين وذلك بفضل المناخ الفكري الذي كانا يعملان فيه، فالغزالي على خلاف رواد المدرسة الأشعرية استطاع أن يطلع على بعض الأفكار الفلسفية كما ان ابن رشد بدوره قد أحاط بالخطابين القرآني والكلامي بالإضافة – وعلى وجه الخصوص- إلى إحاطته بالمنظومة المعرفية الكلاسيكية بصورة معمقة ، وساهم فيها مساهمة فريدة ، وهكذا تم تمزيق ذلك البرزخ وأصبح الحقل الكلامي والفلسفي مفتوحين .إن قصدنا في هذا الصدد ليس قصدا تصنيفيا ، ولهذا أبادر إلى القول بان هذه المحاولة في دراسة هذا الجانب من تراثنا القديم تتوخى الموضوعية قدر الإمكان، إنها محاولة بارزة تتحاشى الوقوع في القراءة الموجهة وتحاول الابتعاد عن الانفعالات.

إن المهمة الأساسية إذن هي القيام بتقديم التصور الغزالي من جهة والرشدي من جهة أخرى للعلية وإطلاع القارئ على نقط الاتفاق والاختلاف ،او نقط الانفصال والاتصال بين الرؤيتين إن وجدت مع ترك مجال الأحكام جانبا على عكس ما يذهب إليه الأستاذ ان التونسيان، صالح القرمادي وأبو يعرب المرزوقي حيث يدافع الأول عن الموقف الرشدي من العلية ويرى فيها أساسا للعلم بدل اعتبار عقلانيته المابعدية عائقا ابستمولوجيا. في حين يذهب الثاني إلى اعتبار الغزالي زعيم العقلانية ،وكان العلم ظل ينتظر قدومه ليعطيه إشارة الانطلاق نحو النمو والترعرع(1).

إن معطيات النص الغزالي لا تسمح بإعطائه الريادة في مجال العلم التجريبي كما يدعي أيضا الأستاذ علي سامي النشار في كتابه ” مناهج البحث عند مفكري الإسلام” ،وحتى إذا افترضنا أن كل ذلك متوفر لديه، فيمكن على الأقل أن نتساءل : هل كان الغزالي واعيا بذلك تمام الوعي؟.

منذ البداية يمكن القول ان النقد الغزالي الذي يوجهه لمفهوم السببية عند الفلاسفة ليس نقدا معرفيا صرفا، كما نجد ذلك مثلا عند الفيلسوف الإنجليزي” دفيد هيوم” في القرن الثامن عشر، فإذا كان هذا الاخير ينتقد الأفكار الفطرية والاتجاه العقلاني بصفة عامة من أجل وضع الأسس لمعرفة تجريبية ،فإن نقد الغزالي له أسس دينية محضة كما يفصح هو نفسه عن ذلك.

قد يذهب المرء إلى القول أن ابن رشد والغزالي على طرفي نقيض، ولكن الاختلاف الظاهر في تناولهما لمسألة العلية أتى فقط من اختلاف المنطلقات والمسلمات الضمنية لكل واحد منهما ، فالغزالي مثل ابن رشد يرى أن التأثير الطبيعي موجود، ولكن الأول يرى أنه يأتي من مصدر خرجي في حين أن الثاني يرى بأنه موجود في الطبيعة ذاتها.

إن الغزالي لا يجحد ما يلاحظ من ترابط بين أشياء العالم الطبيعي وظواهره،فالفعل والانفعال معطى لا يمكن لأحد ان ينكره ،فإذا كان الغزالي يسلم بهذا المعطى فأين يكمن الخلاف إذن؟ هذه هي المسألة التي يدور حولها مضمون البحث ،إنه يتناول مسألة الاختلاف والاتفاق والمنطلقات والمقاصد من أجل فهم تصور كل من أبي حامد وأبي الوليد لمفهوم العلية. وقبل الانتقال إلى عرض تصور أو قراءة الغزالي للعلية عند الفلاسفة وتصوره الخاص لها ثم بعد ذلك التصور الرشدي ونقده للتصور الغزالي لا بد من الإشارة ولو بصورة عامة ودون الدخول في التفاصيل إلى أن المحاولة الغزالية ماهي في واقع الأمر إلا استمرار لما تم في المذهب الأشعري حيال هذه القضية ، وفي هذا الصدد نجد مناسبة لحديث موجز عن هذه المحاولات الاولى لنفي العلية. فكيف نظرت الأشعرية إلى العالم الطبيعي وكيف فسرت ما يشاهد فيه من تأثير ؟.

أفكار عامة عن المحاولات الأشعرية لنفي العلية.

تبدأ المحاولات الاولى لتفتيت العالم عقليا مع المدرسة الأشعرية التي ترفض كل تفاعل وبالتالي كل تأثير في العالم الطبيعي وفي الكون كله، إن أشياء الطبيعة لا فعل لها ولا انفعال في ذاتها، إنما الفاعل الوحيد هو الله الذي خلق هذا الكون بكل ما فيه من عدم محض ، ويعتبر هذا التوجه نفيا ضمنيا لمبدأ العلية الطبيعية ، هذا النفي الذي سيظهر في منتهى الوضوح مع أبي حامد الغزالي، الذي أنتجته هذه المدرسة والذي ذهب بكل جرأة إلى إحلال مفهوم العادة والاقتران مكان مفهوم السببية الطبيعية التي ظل الفلاسفة ينادون بها، والتي ينبني عليها العالم الطبيعي وتشيد على أساسها كل النظريات في الحقول العلمية .

إن تتبع المحاولة الأشعرية من الاهمية بمكان للوقوف أخيرا على ادعاءات أبي حامد الوريث الشرعي لمهمة الدود عن الاتجاه الأشعري بكامله ضد الأعداء . غن المدرسة الأشعرية اعتبرت العالم المادي عالما محدثا يعاني نقصا مستمرا ونظرا لهذا النقص فهو في حاجة إلى التدخل والعون المستمرين من جانب الله حتى يستمر هذا العالم في الوجود، وفي هذا التوجه تأكيد لنظريتهم حول عدم وجود حركة في المادة وعدم وجود قوانين في الطبيعة ، وإنه بدلا من ذلك كله يوجد التدخل الإلاهي المستمر، فالله خلق الأجزاء التي لا تتجزأ منفردة ثم ألف بينها وجعلها محلا للأعراض، وحتى الأعراض نفسها حسب الاتجاه الأشعري ليست مجرد تفاعل طبيعي، بل هي من خلق الله (1).
إنه هو الذي أحدثنا ويحدثنا في كل آن بفعله الإرادي وليس بالعلة ، وهو الذي يؤلف ويفصل الجواهر كيفما يشاء وفي أي وقت شاء ،أما الطبيعة فليست لها فاعلية ، وبالتالي ليس لها أي تأثير لأن الفعل الذي يظهر لنا في العالم الطبيعي هو فعل الله.

إن الاطرادأو الطرد والانعكاس المشاهد في حوادث الطبيعة ليس دليلا على ان الأول يفعل أو يؤثر في الثاني ،أو ان التالي يتأثر بالأول، فالطبيعة تستمد ما يلم بها من تغير من الإرادة الإلهية المتميزة بالقدرة المطلقة على الفعل. هكذا إذن يصبح العالم عبارة عن جسيمات سلبية لا تأثير لها ، وجدت بطريقة إلهية خارقة ،فالجواهر تأتيها الحركة من الخارج ،أما هي في ذاتها فلا حول لها ولا قوة .
إن هذا القصد، أي نفي العلية عن العالم الطبيعي، واعتبار ما يشاهد من تفاعل وتأثير ليس سوى مجرد العادة والاقتران، سيتمر باستمرار هذه المدرسة، وسيمتد مع امتدادات المذهب بحيث يمكن للقارئ أن يجد هذه المسألة عند أغلب متكلمي الأشاعرة ، على أن الاختلاف بينهم فقط هو بروزها بشكل كبير عند بعضهم دون البعض الآخر، وهكذا يمكن اختصار عشرات المتكلمين في متكلم واحد كأبي حامد الغزالي.
إن علم الكلام سيظل يبحث عن الأصيل ضد الدخيل على عكس الفلسفة التي تريد تمثل الدخيل في الأصيل في نظرية عقلية أوسع وأرحب، والفرق بينهما ان الفلسفة بالأساس تعتمد على البرهان وتحاول البحث عن اليقين الداخلي، العقلي أو الطبيعي، أما علم الكلام فيعتمد على الجدل وعلى البدء من مقدمات مشهورة أو مظنونة كما لاحظ ابن رشد، قصد اقحام الخصم وليس الوصول إلى الحقيقة ، وهذا الاختلاف في المنطلقات والمقاصد هو ما سيتجلى من خلال نقاش موقف كل من علم الكلام والفلسفة من إشكالية مبدأ العلية الطبيعية.
ابن رشد يرى ضرورة أخذ الحقيقة من أي مصدر كان في حين الغزالي يرفض اتباع طرق فلاسفة اليونان في البحث عن حقائق الوجود، ولهذا كان الخلاف حول المسائل التي حصل حولها النقاش.

القراءة الغزالية لتصور السببية عقد الفلاسفة

بعد هذه الإشارة الخاطفة والجولة السريعة التي أخذتنا إلى رحاب التفكير الأشعري في صورته العامة نقفز مباشرة قصد عرض القراءة التي قدمها ابو حامد الغزالي لتصور السببية عند الفلاسفة، لننتقل بعد ذلك إلى تصوره الخاص ثم لننتهي أخيرا إلى عرض النقد المنهجي الذي طرحه أبو الوليد ابن رشد بخصوص تصور الغزالي. فما هي القراءة التي قدمها الغزالي للتصور السببي عند الفلاسفة ؟ .يرى أبو حامد الغزالي أن الفلاسفة ذهبوا إلى القول بضرورة الاقتران المشاهد في الوجود بين الأسباب والمسببات ،وأنه اقتران تلازم بالضرورة ، بحيث يتعذر بتاتا ن لا على مستوى الواقع فحسب بل حتى على مستوى الإمكان أيضا إيجاد السبب دون المسبب ولا وجود المتسبب دون وجود السبب.
وقد اوجز تصور الفلاسفة لهذه القضية في جمل مركزة وقصيرة حيث يقول : “حكمهم بأن الاقتران المشاهد في الوجود بين الأسباب والمسببات اقتران تلازم بالضرورة فليس في المقدور ولا في الإمكان إيجاد السبب دون وجود المسبب، ولا وجود المسبب دون وجود السبب” (1) .إن الملاحظة تدل دلالة واضحة أن هناك ترابطا بين أشياء التجربة وحوادثها في العالم الطبيعي، فالأشياء تبدو مترابطة بعضها مع البعض، ويؤثر بعضها على البعض الآخر، فهناك جانب فاعل وآخر مفتعل، وهذا المعطى لا يمكن لأحد ان ينكره.
هذه الترابطات إذن ضرورية في نظر الفلاسفة، لا يمكن الشك في صحتها فهي لا تحيد عن ذلك قيد شعرة، فالسبب يؤدي حتما غلى نتيجة تترتب عنه، فغذا توفر السبب فلا بد أن يوجد المسبب وإذا وجد المسبب فهذا دليل قاطع على وجود السبب الذي أدى إلى ظهوره، وإذا انعدم السبب انعدم المسبب بصورة ضرورية. وكذلك إذا نعدم المسبب فذلك دليل قاطع أيضا على غياب السبب، فالسبب والنتيجة مرتبطان ضرورة سلبا وإيجابا، وعلى هذه القضية ينصب نقد الغزالي بحيث يعتبر أهم ما يتعارض مع تصوره الخاص فهذه الحتمية والضرورة الناجمة عن التصور الفلسفي للمبدأ العلي هي المركز الحساس الذي يصوب نحوه كل ما يملك من أدوات نقدية.
إن التصور الفلسفي للسببية ينتج عنه إن الله ذاته ليس في إمكانه إيجاد الأسباب دون المسببات ، ولا إيجاد المسببات دون احتياج إلى الأسباب ،إن الله ذاته سبب أو علة يفعل بطبيعته ، هذه النتيجة سيحاول الغزالي أن يستشفها من تصور الفلاسفة ، وخاصة من النظرية الفيضية، وإن كانت معطيات النصوص التي يعتمدها لا تثبت ذلك.
هذا القصور من جانب الغزالي في الاطلاع على الأفكار الفلسفية غير نظرية الفيض هو الذي دفع ابن رشد إلى القول أن الرجل لم ينظر إلا في كتب الفارابي وابن سينا فأصابه القصور.
لقد حاول الغزالي أن يستخرج النتائج الضمنية في النص الفلسفي وكأنه ينقلها من القوة إلى الفعل، ويتم حسبه استنتاج هذه النتائج من خلال فحص مفهوم الله عند الفلاسفة ، الذين يرون أنع علة تفعل بطبيعتها، وبناء على هذا التصور يصبح مفهوم الله في مستوى واحد مع السبب الطبيعي، فالله يفيض عنه الوجود بكل ما فيه من حيث هو أيضا سبب يفعل بطبيعته، أو من حيث هو محرك أول ، فلا التصور الفيضي لمفهوم الواحد ، ولا التصور الأرسطي يتماشى مع رؤية الغزالي ، إلا أن الغزالي يبدو على جهل بالتصور الأرسطي المشائي للمحرك الأول.
ولهذا فقد انحصر نقاشه حول الاتجاه الفيضي كما تمثله من خلال أبي نصر الفارابي وأبي علي بن سينا، فأصحاب التصور الفيضي لله وللعالم يرون أن الله يفعل بالطبع وليس بالاختيار فلا مجال للروية واختيار القرارات وتفضيل بعضها عن البعض الآخر، ونتيجة لذلك يولي الغزالي جانبا كبيرا من الأهمية لنقد نظرية الفيض.
هذا ما يمكن قوله عن القراءة الغزالية لتصور السببية لدى الفلاسفة ، فما هي المعضلات التي حركت الغزالي لمعارضة هذا التصور الفلسفي يصطدم بثلاث مسلمات عند الغزالي والمتكلمين بصورة عامة : المعجزة ، والقدرة الإلهية والحرية الإلهية أيضا ، والغزالي سواء اعتبره المرء متكلما أو فيلسوفا أو غير ذلك فإنه يظل متمسكا بالروح الكلامية عموما، فهو الذي يأخذ من كافة المتكلمين وينفي التعارض والخصام بينهم ولو مرحليا من اجل الوقوف ضد الفلاسفة ، هذا التمسك بالروح الكلامية هو الذي دفع ابن رشد إلى الكشف عن دوافعه التحزبية.
والآن وبعد هذا العرض السريع يحق للمرء أن يتساءل : ما مفاد ذلك التعارض الموجود بين الاتجاه الفلسفي وخصمه الكلامي ؟، إن التعارض موجود بالفعل فالتصور الفلسفي يطرح اشكالات لعلم الكلام ، ويتعارض مع المسلمات التي ينطلق منها ، فحتمية السببية وضرورتها لدى الفلاسفة تتعارض مع المعجزات، ذلك أن النصوص القرآنية والتي هي في حد ذاتها معجزة تتكلم عن خوارق الانبياء ومعجزاتهم، فكيف يمكن التوفيق بين هذه المعجزات والتصور الضروري للسببية؟.
الغزالي يرى أنه لا مجال للتوفيق، والإمكانية الوحيدة لديه هي التضحية بمبدأ العلية من أجل الحفاظ على صحة المعجزة، ليس هناك مجال للتأويل كما هو الحال عند المعتزلة التي ترى ان إعجاز القرآن ليس في لغته بل في معناه، وهذا له نتائجه على مفهوم الخوارق، وسينعكس على تناول محتويات النصوص التي تتحدث عن معجزات الانبياء ،أي كيف يمكن أخذ هذه الخوارق بعين الاعتبار؟ المذهب الإعتزالي رأي إن هذه الخوارق لها معنى يمكن كشفه بالعقل ، وهنا تتدخل آلية التأويل ، كل ما يبدو غير مألوف وغير واقعي أولته المعتزلة حتى يفيد المعنى المقبول عقليا، وهنا أصبح التيار العقلاني في مواجهة التيار اللاعقلاني أن ما يقرأ في القرآن يجب الكشف عن معناه بالعقل.
لا مجال ايضا للتفسير السيكولوجي ، حيث نشأ سؤال في الفلسفة متعلق بالمعجزة ويدور حول تأثير النفوس الإنسانية في العالم الطبيعي، ولذلك حاول بعض الفلاسفة المسلمين وخاصة أبو نصر الفارابي وضع نظرية تفسر إمكانية تأثير النفوس الإنسانية في العالم الطبيعي، وقد وجد الآليات في السيكولوجية اليونانية القديمة. التعارض بين الاتجاه الكلامي والاتجاه الفلسفي موجود بخصوص هذه المسألة ويعترف الغزالي بذلك حيث يقول بصريح العبارة في المسألة السابعة عشرة : ” وليس يلزم أن نخالفهم شرعا في شيء من هذه العلوم – أي الطبيعيات- وإنما نخالفهم في أربع مسائل “( 1)، وبعد سرد المسائل الأربع يعود إلى تفصيل القول من أجل بيان كل واحد على حده فيقول “… وإنما نخالفهم في الأولى من حيث إنه ينبني عليها إثبات المعجزات الخارقة للعادة ، من قلب العصا ثعبانا، وإحياء الموتى ، وشق القمر ، ومن جعل مجاري العادات لازمة لزوما ضروريا فقد أحال جميع ذلك ” (2).
هدف الغزالي ودوافعه إذن واضحة ومقاصده صريحة لا يكتنفها أي غموض أو إبهام ، ذلك أنه يريد أن يثبت المعجزات كما وردت في النص المقدس، نعم اثباتها حرفيا دون تأويل وتفسير، ويظهر الغزالي على علم بما تم في هذا المجال من هذه المحاولات، ولهذا نجده يقابلها بالرفض إذ يقول : ” وأولوا ما في القرآن من إحياء الموتى وقالوا : أراد به إزالة موت الجهل بحياة العلم، وأولوا تلقف العصا سحر السحرة بإبطال الحجة الإلهية الظاهرة على يد موسى صلى الله عليه وسلم ،شبهات المنكرين، وإما شق القمر فربما أنكروا وجوده وزعموا أنه لم يتواتر ” (3).
يرى الغزالي إذن بأن إثبات السببية في العالم الطبيعي والقول باكتفائها الذاتي يؤدي منطقيا إلى نفي المعجزة، وهذا تعارض صارخ للفلسفة مع علم الكلام ومع مبادئ الدين، ولكن الامر لا يتوقف هاهنا بل يستمر الإشكال في التعقيد أكثر فأكثر، وينتج عن هذا التصور الفلسفي نتائج اخرى أخطر من الاولى حيث يمتد ليمس مسلمة إيمانية أخرى ، فالله الذي يصف نفسه بالقدرة المطلقة على فعل ما يشاء ،يصبح طبقا لهذا التصور ،حسب الغزالي مقيد القدرة، ذلك أن هذه القدرة تعتبر محدودة ، فغذا كان هذا العالم ضروريا، فكيف يمكن الحفاظ على قدرة الله المطلقة هذه، وفي نفس الوقت القول بضرورة مجرى العالم ،وحيال هذه المشكلة لا يجد الغزالي بدا من الخوض مع الفلاسفة لنصرة هذه العقيدة إذ يقول ” … فلزم الخوض معهم في هذه المسألة لإثبات المعجزات، ولأمر آخر، وهو نصرة ما أطبق عليه المسلمون من ان الله تعالى قادر على كل شيء، فلنخض في المقصود .” (1). وبالإضافة غلى القدرة المطلقة هناك أيضا إشكالية التوفيق بين حرية الخالق الذي يفعل ما يشاء باختيار، وبين القول بوجوب هذا العالم .إن العالم في نظر الغزالي كان عبارة عن عدد كبير من الإمكانيات قبل ترجيح الوجه الذي يظهر عليه، أما القول بالوجوب فمعناه أن العالم لا يمكن ان يكون أكبر منه ولا أصغر، والواجب ليس في حاجة إلى علة ، ونفي العلة معناه نفي مبدأ لهذا الوجود، وهكذا يؤدي تصور الفلاسفة إلى هذا التدرج من نفي العقائد الدينية الى نفي وجود الباري تعالي : ” (إذا كان العالم على ما هو عليه واجب لا ممكن، والواجب مستغن عن علة، فقولوا بما قاله الدهريون من نفي الصانع ونفي سبب هو مسبب الأسباب ).(2).
ينتهي الغزالي أيضا إلى رفض نظرية الطبائع ويلزم الفلاسفة موقف الدهرية التي ترى اكتفاء العالم بنفسه، دون حاجة إلى مبدأ خارجي مفسر، وهكذا فالإنسان إما أن يكون متكلما يؤمن بكل المسلمات التي ينطلق منها علم الكلام وغما أن يكون دهريا لا يؤمن سوى بالطبيعة والتاريخ، أما الموقف الفلسفي فلا يمثل في الحقيقة موقفا متميزا بذاته، المتكلمون والدهريون نقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان ولا يقبلان وسطا من الاوساط، لأن الفلاسفة الذين يثبتون وجود الله ويقولون في نفس الوقت بقدم العالم وضرورته ، موقفهم مرفوض لأنه ينطوي على تناقض ولا معقولية ، فالله الذي يثبت الفلاسفة وجوده لا فائدة فيه بما أن هذه الضرورة والحتمية تتجاوزه رغم سبقه المنطقي، فسلسلة العلل التراجعية التي تبدأ من الحركة الظاهرة في الوجود لتصل في الختام غلى محرك لا يتحرك يمكنها أن تتوقف عند حدود العالم بدل الصعود إلى المبدأ التفسيري ويصبح الفلاسفة في دائرة الدهريين الملاحدة.
هذه هي العناصر الاساسية التي حركت أبا حامد الغزالي إلى معارضة تصور الفلاسفة وتقديم تصور خاص يتماشى مع الاتجاه الكلامي ، فالتصور السببي عند الفلاسفة يطرح لعلم الكلام عدة مشاكل –كما لاحظنا- تتعارض مع العقائد الدينية التي يسلم بها المتكلم، وهذا ما حفز الغزالي –كما يصرح بذلك هو نفسه عديدا من المرات غلى محاولة الدحض والدفاع عن المدرسة الأشعرية التي ينتسب إليها مستخدما كل الوسائل المتاحة له من اجل تهديم نظرية الخصم، ولكن إذا كان الغزالي للهدم أنزع، فما هو البناء الذي يقدمه بديلا عن سببية الفلاسفة ؟.
تصور الغزالي الخاص لمفهوم السببية
( اعتبر ارسطو قانون العلة من المقدمات الأولية بإطلاق ،فلا يمكن القدح في بداهته، وقد عالج أرسطو العلية لا على انها فقط مبدأ أو مشكلة طبيعية أو ميتافيزيقية، بل أيضا على اعتبار انها قانون عقلي منطقي تستند عليه أبحاث المنطق جميعا،وقد انتقلت فكرة العلية في أبحاث أرسطو غلى العالم الإسلامي. ووجدت قبولا لدى المشائية الإسلامية ،بل إن أكبر الفلاسفة المشائين ، وهو ابن رشد يضعها في أبحاثه في المكان الأول . ولكن سرعان ما وقف مفكرو الإسلام – الممثلون الحقيقيون للإسلام وهم الأشاعرة- من العلية الأرطاليسية موقف الإنكار لها والهجوم العنيف عليها … ووضعوا نظرية في العلية تتوافق مع عناصر المذهب توافقا تاما، وبلغت النظرية أوج نضجها لدى مفكر الأشاعرة الكبير أبي حامد الغزالي
بعد عرض القراءة التي قدمها الغزالي بصدد مفهوم السببية لدى الفلاسفة نتطرق مباشرة إلى عرض التصور الغزالي الخاص بهذه المسألة اعتمادا على القسم المخصص للطبيعيات،وخاصة المسألة السابعة عشرة، حيث يضع الغزالي حدا فاصلا بين الأشياء التي يعتبر ترابطها ضروريا، وتلك التي ليست روابطها ضرورية، ويعتبر هذا التمييز أساسا لتصوره السببي .إن الغزالي يستهل كلامه في المسألة السابعة عشرة بجمل واضحة ومركزة تعبر عن الرؤية التي يتبناها في نقاشه للمبدأ السببي إذ يقول : ” الاقتران بين ما يعتقد في العادة سببا وما يعتقد مسببا ليس ضروريا عندنا، بل كل شيئين ليس هذا وذاك ،ولا ذاك وهذا، ولا إثبات أحدهما متضمنا لإثبات الأخرى ولا نفيه متضمنا لنفي الأخرى، فليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر ولا من ضرورة عدمهما عدم الآخر، مثل الري والشرب ، والشبع والأكل، والاحتراق ولقاء النار، والنور وطلوع الشمس، والموت وجز الرقبة، والشفاء وشرب الدواء، واسهال البطن واستعمال المسهل، وهلم جرا إلى كل المشاهدات من المقترنات في الطب والنجوم والصناعات والحرف ). (1).
إنه تعبير صريح ملخص للرؤية الغزالية، فمنذ البداية يتوجه إلى مفهوم العلية الفلسفي بالنقد ليقرر أن ما يشاهد في كل المجالات ليس دليلا على توفر علاقة بين المقدم والتالي أن الأحداث المشاهدة مهما ظهرت مترابطة فذلك ليس من نتائج الضرورة ،غن هذه الامور المترابطة يمكن الفصل بينها، ولكن هل هذا الفصل يتم في عالم الحس والتجربة ؟ الإمام الغزالي لا يذهب إلى ذلك ،بل يناقش إمكانية هذا الفصل على مستوى العقل فقط ، إن الترابط المشاهد بين ظاهرتين أو أكثر ليس حتميا بحيث لا يمكن إلا أن يكون، فالوجود كان عبارة عن عدد كبير من الإمكانات قبل تحققه في الواقع العيني، فالله قبل خلق العالم على ما هو عليه، كانت لديه إمكانية خلقه وترجيحه على هذا الشكل المشاهد كما كانت لديه القدرة على خلقه في حالة أخرى مغايرة لما نشاهده في الوجود ،إن هذا الشكل المرجح ليس نتاجا للضرورة وكل ظواهره عادية : ” فإن اقترانها لما سبق من تقدير الله سبحانه، بخلقها على التساوي لا لكونه ضروريا في نفسه غير قابل للفرق، بل في المقدور خلق الشبع دون الأكل، وخلق الموت دون جز الرقبة ، وإدامة الحياة مع جز الرقبة ، وهلم جرا، إلى جميع المقترنات “. هذا الأمر أي إمكان الانفصال بين ما يعتقد سببا وما يعتقد مسببا هو ما يقره الغزالي لكن الفلاسفة أنكروا إمكان ذلك : “وأنكروا الفلاسفة ذلك وادعوا استحالته”. (2). الغزالي إذن ينفي أن يكون لشيء من الاشياء فعل في ذاته ، وانطلاقا من هذا المنظور، ونظرا لخروج هذه الامور عن الحصر يختار مثلا واحدا هو من الوضوح بمكان، ويردده الغزالي تقريبا على طول جداله في هذه المسألة ،غنه مثال القطن والنار ، يقول الغزالي : ” والنظر في هذه الامور الخارجة عن الحصر يطول فلنعين مثالا واحدا : هو الاحتراق في القطن مثلا عند ملاقاة النار، فأنا نجوز وقوع الملاقاة بينهما دون الاحتراق ، ونجوز حدوث انقلاب القطن رمادا محترقا دون ملاقاة النار ، وهم ينكرون جوازه “. (3).
ليس القطن في حاجة ضرورية إلى النار لكي يحترق ويصير رمادا ، وليست النار سببا ضروريا لحصول ظاهرة الاحتراق ،بل يجوز وقوع التأثر دون وجود النار، ويجوز ايضا ألا يقع مع وجود النار، والجواز هنا في لغة الغزالي يعني الامكان على مستوى العقل.
يمكن للمرء أن يتساءل بصدد هذا الذي يورده الغزالي ، هل له من دلالة أو معنى ؟ ويمكن أن يجيب بالإيجاب، ذلك أن أبا حامد يماثل بين هذا المثال، وما ورد في النصوص القرآنية من المعجزات، وهو سيتكلم لاحقا عن وقوع ابراهيم في النار وسلامته منها هكذا وبعد تحديد مفهوم السببية كما يتصوره، يدخل الغزالي في الجدال مع الفلاسفة فيطرح مواقفهم ويرد عليها، حيث رفض القول بأن فاعل الاحتراق هو النار فقط وأنها تفعل بطبعها لا بالاختيار، فلا يمكنها أن تكف عن ذلك، بحيث كلما التقت بمحل قابل لها فلا بد أن تفعل، والغزالي ينكر ذلك بصريح العبارة لأن فاعل الاحتراق لديه، بخلق السواد في القطن والتفرق في أجزائه وإحالته رمادا منثورا بعد ان كان جسما يتميز بالتماسك هو الله تعالى ،دون أن يهتم بالطريقة التي يتم بها هذا الفعل هل هي مباشرة أم يتم ذلك عن طريق الملائكة . أما النار فلا يمكن لها أن تفعل شيئا ،فهي جماد، ومن الاولى أن ينسب الفعل إلى الخالق يدل نسبته إلى المخلوق، ويطرح الغزالي المشكل التالي : لنسلم جدلا أن النار هي الفاعل، ولكن على الفلاسفة أن يقدموا لنا الدليل على ذلك الفعل، وعن كونه يصدر حقيقة عن النار نفسها، ليس للفلاسفة أكثر من دليل واحد، هذا الدليل الوحيد هو المشاهدة أي الملاحظة الحسية التي تقرر حصول الاحتراق منذ ملاقاة النار لكن هذه المشاهدة لا يعتبرها الغزالي ذات شأن كبير بحيث أنها ليست دليلا على الاحتراق فالتجربة الحسية تقول أن القطن يحترق عند التقائه بالنار ، وأن الماء يسخن عند وضعه فوق النار ولكنها لا تدل أن حصول هذه التأثيرات ناتج عن النار وحدها وأنه ليست هناك علة سواها، إذ يقول الغزالي باحتمال أسباب خفية لا نستطيع إدراكها : ” فمن أين يامن الخصم أن يكون في مبادئ الوجود علل وأسباب تفيض منها هذه الحوادث عند حصول ملاقاة بينها؟ . إلا انها ثابتة ليست تنعدم، ولا هي متحركة ،ولو انعدمت أو غابت لأدركنا التفرقة ،وفهمنا أن ثم سببا وراء ما شاهدناه” (1).
غن الغزالي إذن يعترف بالأسباب الكامنة وراء الظواهر المشاهدة في عالم الحس ، أي الأسباب المفارقة والتي يرجعها غلى سبب واحد هو الله،والدليل على وجود هذا السبب الذي يستطيع الفعل والكف عنه، هي الحوادث التي وقعت في التاريخ والتي تسمى بالمعجزات، ويرى أن من الفلاسفة من يعترف بهذه الأسباب الخفية . وهؤلاء هم المحققون الذين يتفقون على ان الأعراض والحوادث التي تحصل عند وقوع الملاقاة بين الأجسام ، إنما تفيض من عند واهب الصور وهو ملك من الملائكة : ” وبهذا تبطل دعوى من يدعي أن النار هي الفاعلة للإحراق، والخبز هو الفاعل للشبع والدواء هو الفاعل للصحة، إلى غير ذلك من الأسباب .(1).
حتى مع المحققين الذين يسلمون بوجود أسباب خفية وراء ظواهر الاشياء ،فإن الغزالي يستأنف الجدال من أجل اثبات أن هذه المبادئ تفعل بحرية واختيار، فهو ضد كل من يقول بالفيوضات. إن هؤلاء الفلاسفة الذين يقرون بوجود أسباب فاعلة ، يسقطون فيما لا يرضى عنه الغزالي. وعدم الرضى هذا ناتج عن قولهم بان الحوادث المشاهدة تفيض من المبادئ ولكن المحل هو الذي يختلف في قبول الصور، وأن تلك المبادئ تصدر عنها الأشياء باللزوم والطبع لا على سبيل التروي والاختيار، فالفيض معناه صدور الفعل قسرا حيث لا مجال للتراجع عن التأثير او اختيار فعل بدل آخر، إن المبدأ فعله دائما هو هو ، لا يملك تغييره أو التوقف عنه تماما مثل صدور النور من الشمس . ولكنالاختلافات المشاهدة ناتجة عن المحال في القبول لاختلاف الاستعدادات فهناك ما يلين بالشمس، وهناك ما يتصلب والفعل في كلتا الحالتين واحد : ” فكذا مبادئ الوجود فياضة، بما هو صادر منها، لا منع عندها ولا بخل، وإنما التقصير من القوابل ” (2).فعل النار مستمر على وثيرة واحدة، فلا اختيار لها في الفعل أو الكف عنه، فهي كلما التقت بمحل قابل للاحتراق احرقته.
وبناء على هذا التصور كيف يعقل لدى الفلاسفة وقوع ابراهيم في النار مع عدم الاحتراق ؟ إن نجاة ابراهيم من النار ناتج عن احتمالين ،الأول هو سلب النار حرارتها ،والثاني قلب ذات ابراهيم ورده حجرا أو محلالا يقبل الاحتراق ، ولا تؤثر فيه النار .والاحتمالان غير ممكنان عند الفلاسفة ،لان الاول يخرج النار عن كونها نارا، والثاني يخرج الإنسان عن كونه إنسانا، ويحتج الغزالي ضد الفلاسفة بالمسلمة التي ينطلق منها وهي أن المبادئ تفعل بالاختيار ، وأن الله تعالى يفعل بالإرادة ،وكما ان الإرادة تتضمن العلم بالضرورة،فإن الفعل يتضمن الإرادة بالضرورة، إذن الفعل الحقيقي إنما يكون بالإرادة، اما القول بأن النار تحرق، والسيف يقطع، والثلج يبرد، والخبز يشبع، والماء يروي، فكل ذلك مجاز لا يدل على الفعل ،لان الفعل ينسب إلى صاحبه الذي يمتلك الإرادة ولهذا ينسب الفعل في جريمة قتل بالنار إلى الفاعل المريد حيث يقال ما قتله إلا فلان مع أن النار هي العلة القريبة للقتل. إن ما تتداوله اللغة في هذا المجال إنما هو فقط ضرب من الاستعارة والمجاز، أما المعنى بالصنع والفعل فهو ما يصدر عن الإرادة حقيقة، في حين أن الذي يصدر بالطبع والضرورة فمحال تسميته فعلا، وبهذا يصبح الله تعالى لا فعل له عند الفلاسفة، الشيء الذي يتعارض مع الدين، عندما انتهى الغزالي إلى ارجاع كل الافعال التي تظهر في عالم التجربة إلى الفاعل الحر المريد القادر على كل شيء، أخذ يشعر بالإشكالات ، وبدأ يتكلم عن المحالات الشنيعة التي يمكن ان يعترض بها الفلاسفة على محاولته التي تنفي العلية عن العالم الخارجي، وترجع كل فعل إلى الله، “فإن قيل ،فهذا يجر إلى ارتكاب محالات شنيعة، فإنه من أنكر لزوم المسببات عن أسبابها، وأضيفت إلى إرادة مخترعها، ولم يكن للإرادة أيضا منهج مخصوص معين، بل أمكن تفننه، وتنوعه، فليجوز كل واحد منهما أن يكون بين يديه سباع ضارية ، ونيران مشتعلة، وجبال راسية ، وأعداء مستعدة بالأسلحة لقتله، وهو لا يراها، لأن الله تعالى ليس يخلق الرؤية له، ومن وضع كتابا في بيته، فليجوز ان يكون قد انقلب عند رجوعه إلى بيته غلاما، امرد عاقلا متصرفا ، أو انقلب حيوانا، ولو ترك غلاما في بيته،فليجوز انقلابه كلبا، او ترك الرماد فليجوز انقلابه مسكا، وانقلاب الحجر ذهبا، والذهب حجرا، وإذا سئل عن شيء من هذا فينبغي ان يقول : لا أدري ما في البيت الآن ، وإنما القدر الذي أعلمه اني تركت في البيت كتابا، ولعله الآن فرس قد لطخ بيت الكتب ببوله وروثه، وإني تركت في البيت جرة من الماء، ولعلها الآن انقلبت شجرة تفاح، فإن الله تعالى قادر على كل شيء”.
إن محاولة الغزالي تؤدي منطقيا إلى انتفاء المعرفة أو على أقل تقدير نفي استمراريتها، فالاقترانات المشاهدة في العالم الخارجي تدل فقط على ان هناك علاقات ناتجة عن العادة اي عن تكرار نفس الحادث إلى جانب حادث آخر ملازم له في الوقوع ولكن هذا التلازم غير ضروري، وانطلاقا من هذا التصور لا يمكننا وصف هذه المعرفة ولا هذا الاقتران بين الأحداث بالضرورة، ذلك ان هذه المعرفة مبنية على التسليم بأن هذه الحركات المنظمة تفترض وجود تلك القدرة العاقلة التي تفعل بالاختيار وليس بالضرورة، فالمشاهدة تدل إذن على المعرفة العادية ما دامت لا تدل في الوقت نفسه أن نقيض ما يحدث مستحيل : “فهذه علوم يخلقها الله تعالى بمجاري العادات، نعرف بها أحد قسمي الإمكان ، ولا نبين به استحالة القسم الثاني ” (2).
قد يعلم الإنسان مثلا أن الماء يطفئ النار، وأن النار تحرق الورق ولكن معرفته هذه ليست ضرورية، فليس الضروري إلا ما كان نقيضه مستحيلا، ويطرح الغزالي محاولة للتميز بين مجالين معرفيين مختلفين : مجال العادة أو المعرفة العادية ومجال الضرورة فالمعرفة العادية هي علم ما تكرر لحد الآن حسب المجرى العادي المتداول، أي المعرفة الحسية التجريبية، أما معرفة الضرورة فهي العلم الصوري القائم على التعريضات وتحصيل الحاصل.
فما هو سبب الضرورة في هذا المجال ، والعدة في ذلك؟ إن العلم الضروري هو الذي ينبني على وضع علاقات ضرورية مثل التكافؤ والتلازم بين الماهيات في ميدان الرياضة والمنطق، فالضرورة لا توجد إلا حال اقترانها مسبقا ،بحيث إذا تراجع العقل عنها يسقط حتما في التناقض. أما العلم العادي فلا يمكن وصفه بالضرورة لأن في المجال الطبيعي يمكن ان تكون ولو فرضيا على عكس ما هي عليه، ولا شيء في الوجود ينفي هذه الإمكانية ، إن محال الطبيعة حسب الغزالي هو مجال الإمكان، فالشيء المشاهد على هذه الحال المعينة يمكن ان يصير بخلاف ما هو عليه ولا ينطوي ذلك على أي تناقض فالممتنع أو المحال : هو إثبات الشيء مع نفيه، أو إثبات الأخص مع نفي الأعم او إثبات الاثنين مع نفي الواحد، وما لا يرجع غلى هذا فليس بمجال، وما ليس بمجال فهو مقدور”.(1).
بناء على هذا التصور الغزالي القائم على نفي العلاقة الضرورية بين الإقترانات ماذا تكون طبيعة المعرفة ؟ ،إن نفي العلية يؤدي إلى فقدان النظام في الكون واختلاف ما في الأعيان عما في الأذهان ، وقد شعر الغزالي بذلك الإشكال وحاول أن يحد منه بإيجاد مبدأ آخر تستند عليه المعرفة ، هذا المبدأ هو الله الذي يضمن العلم بعدم فعله هذه الممكنات، أي التدخل المستمر لله في الحفاظ على التناغم في الكون وهو ما يعبر عنه في الاتجاه الكلامي الأشعري بنظرية الخلق المتجدد، وبالتالي تستمر العادة ثابتة دون الحاجة غلى الضرورة ن وهكذا تتأسس المعرفة : “إن الله تعالى خلق لنا علما بان هذه الممكنات لم يفعلها، ولم ندع أن هذه الامور واجبة بل هي ممكنة يجوز أن تقع ويجوز ألا تقع، واستمرار العادة بها مرة بعد أخرى ، يرسخ في أذهاننا جريناها على وفق العادة الماضية ترسيخا لا تنفك عنه”. (2).
هكذا يجد الغزالي مخرجا من هذا المأزق، فلا مكان في نظره لا يقتضي انعدام النظام في الوجود وضياع المعرفة ،بل يعني فقط ان العلم الذي لدينا ليس ضروريا بل يعتمد بالأساس على ضمان اللهن باستثناء المنطق والرياضيات، إذ يكون الاعتماد فيها على ضمان العقل ويقينه.
ويمكن للمرء الآن أن يتراجع الى الوراء قليلا ليتساءل عن مصدر فكرة الاقتران العادي غير الضروري بين الأسباب والمسببات، وهو نفس السؤال الذي نجده عند أبي يعرب المرزوقي في كتابه” مفهوم السببية عند الغزالي”، إذ يقول هل التحليل المفهومي للضروري يكفي لتفسير هذا التمييز بين العلوم الصورية التي تتوفر فيها الضرورة بفضل استيفاء شروط مبدأ عدم التناقض، وبين علوم الموضوعات الحقيقية التي تنتفي فيها الضرورة ويتم تعويضها بالاعتقاد في العادة. ويلجأ صاحبنا إلى نصوص أخرى للغزالي لا يسمح لنا الموضوع بالرجوع إليها،ليرى أن مصدر القول بفكرة العادة أو الاقتران مأخوذة أصلا من مجال الفقه، ولا نملك إلا أن نشاطره الرأي ،غذا الغزالي يماثل بين نوعين من السببية العادية ،هما السببية الفقهية والسببية الحسية، يقول أبو يعرب : ” فلا يمكن إذن أن يكون الانتقال قد وقع إلا من الفقه إلى الطبيعة وليس العكس، إذ ان السببية الفقهية من حيث هي اقتران غير ضروري بينة بنفسها أو على الأقل يقبل بها الفلاسفة ويساعدون عليها الغزالي”. (1). وكان هذا الاخير يعارض رأي الدكتور علي سامي النشار الذي يذهب مذهبا مناقضا لما يراه الأستاذ التونسي حيث يقول : ” أما الأشاعرة فلم يقبلوا العلة على هذه الصورة ولكن يعرفونها بانها الموجبة للحكم بجعل الشارع أي ان تعريف الأشاعرة أيضا يتصل بمذهبهم الكلامي وهو شمول القدرة الإلهية فليست العلة هي المؤثرة بذاتها ولكن ذلك التأثير بخلق الله …وكان لا بد لهم أن ينقلوا مذهبهم إلى نطاق العلوم الفقهية “.(2).
الانتقال إذن في رأي النشار قد تم من الطبيعة إلى الفقه وسواء سلمنا بهذا الرأي أو ذاك فإن النتيجة تظل هي هي ذلك أن الغزالي قد وجد في مجال العلوم الفقهية تأييدا للقول بالارتباط أو الاقتران العادي .
يمكن القول أخيرا أن الغزالي لم يكن يهدف غلى فكرة العلاقة بين السبب والمسبب عن طريق التفسير التجريبي أو التفسير العقلي بل كان يهدف بالدرجة الاولى إلى هدم السببية هدما تاما، فكل ما فعله الغزالي يكمن فقط في دفاع عن المعجزات التي تتحدث عنها النصوص الدينية وقد ظلت هذه الفكرة تمثل ثابتا أساسيا في كلامه ،فهو لم يلجأ إلى فكرة العادة إلا ليصل لفعل الاشياء وخصائصها إلى الله مباشرة ، لأنه هو وحده القادر على خرق العادات واظهار ذلك في صورة معجزات مؤيدة للأنبياء ، وبذلك يتم افساح المجال للممكنات ونفي الضرورة من مجال الظواهر الطبيعية. ويؤكد هذا الراي علي سامي النشار بقوله : ” ويرى الغزالي خطورة هذه الفكرة الطبيعية للعلية او للسببية إذا طبقت في نطاق ديني هام ، فيتجه نحو تراث الأشاعرة ليستمد منه مادة يسوغها صياغة كاملة في انكار العلاقات الضرورية اللازمة بين العلة والمعلول “. (1).
تجدر الإشارة في هذه الخلاصة إلى أن أبا حامد الغزالي قد حلل مفهوم العلية من وجهتي نظر ،الأولى منطقية والثانية تجريبية، وهكذا فإنه قد ميز بين مجال الضرورة ومجال العادة أو الاقتران، فالعقل لا يقيم علاقة الضرورة بين الأسباب والمسببات إلا في مجال الماهيات والتعريفات، فالمنطق والرياضيات يقومان على يقين العقل الذي يستند إلى مبدأ عدم التناقض، وبهذا المعنى تكون المعرفة ضرورية ويقينية، صادرة عن أسبابها باللزوم بصفة لا يتسرب الشك إليها والغزالي يعترف بهذه الضرورة ويقرها حيث لا خلاف بينه وبين الفلاسفة بصددها، أما خارج هذا المجال فليس هناك إلا العادة، عالم الحس والتجربة لا يدل إلا على ما يتم عنده الشيء وليس ما يتم به إذ أن ما يشاهد في الطبيعة مجرد اقترانات، أي ما يشاهد مترابطا في الحس لا يدل إلا على التعاقب والتجاور في الزمان والمكان، أما التأثير العلي فليس هناك ما يدل عليه، إن الملاحظة الحسية تدل فقط على ما يتم عنده الفعل ولا تدل على ميتم به ، فالاقترانات هي فقط مناسبة للخلق الإلهي أو فعله في الوجود، هكذا نرى ان الفعل الذي يؤدي إلى الاقتران لا يرجع فيه الأمر إلى السابق واللاحق، وبناء على هذا التصور تبقى العلاقة علاقة عادية وتبقى القوانين الطبيعية متعلقة بالعادة إذ ليس هناك دليل على أن الأشياء ستستمر بهذا الشكل او ذاك، وبذلك يتحول القانون العلي عند الغزالي ،إذن، إلى مجرد مألوف العادة . فالعلة أو السبب هو ما يلزم عنه شيء ما ، وبهذا المعنى تنقسم العلة إلى نوعين علة منطقية وعلة وجودية أو طبيعية، فالعلة المنطقية تبدو واضحة في القياس والاستقراء حيث المقدمتان علة النتيجة ،متى اجتمعتا في العقل لزمت عنهما النتيجة أي صدرت صدورا ضروريا، فكانت معلولة لهما وتبدو كذلك كما يقول يوسف كرم في ارتباط الموجود بماهيته وتفسير الماهية بالخصائص، مثل مساواة زوايا المثلث للقائمتين، فإنها لازمة عن ماهية المثلث ، وبهذه الماهية يبرهن عليها (1) أما العلة الوجودية فلا يعيرها الغزالي أهمية كبرى لأنها عادية لا تصدر عنها المسببات بتلك الدرجة من الضرورة .

الموقف الرشدي من المعجزة ونقده للتصور السببي الغزالي

لقد رأينا أن الغزالي في تصوره للسببية قام بالربط بينها وبين المعجزة، ولهذا يمكن القول إن محاولته تعتبر محاولة عقلية لتبرير الخوارق التي تتحدث عنها النصوص الدينية ، وقد آن الأوان لعرض الموقف الرشدي من العلية الطبيعية، لنرى ان أبا الوليد بن رشد يرفض اعتبار العالم الطبيعي مجرد حدث بل يرى فيه عالما ضروريا نشأ طبقا لقوانين طبيعية ثابتة، فغذا كان الغزالي قد انتهى به موقفه إلى نفي العلية من اجل إثبات المعجزة ، فإن ابن رشد على العكس من ذلك سوف يثبت توفر العلية في الكون كله مع الحفاظ على المعجزة التي لا تعني الخروج عن القوانين الطبيعية بل إنه بل إنها وقعت طبق بعض القوانين التي يجهلها العقل البشري، فالعقل الإنساني هو القاصر عن إدراك القوانين الطبيعية وليست المعجزة هي التي خرجت عن هذه القوانين.
إن موقف ابن رشد سيكون إيجابيا حيث أنه يركز على وجود العلاقة الضرورية بين الأسباب والمسببات وفي نفس الوقت يعترف بالمعجزة ويقرها . وبناء على هذا سنتتبع النقد المنهجي الذي قدمه ابن رشد لتصور الغزالي فنبين موقفه من المعجزة لنتطرق بعد ذلك إلى تصوره السببي.
الموقف الرشدي من المعجزة
لقد عرفت الثقافة الإسلامية عدة مواقف بصدد المعجزة هذه المواقف نذكر منها الموقف الأشعري الذي اتجه نحو القبول المطلق والتبرير لينتقل إلى قبول كرامات الأولياء وليس الاقتصار على معجزات الانبياء. والموقف السلفي الحنبلي الذي وقف من المعجزة موقفا وسطا يذهب إلى استعمال أسلوب نظري لممارسة بعض الرفض الضمني على الخارق وتحديد نطاقه بحيث لا يقبل الحنابلة إلا المعجزات التي يتحدث عنها القرآن الكريم ن كما يمكن الإشارة إلى موقف الزنادقة والملاحدة الذين أنكروا المعجزة وبالتالي الرسالة (1) ، إلا أن الثقافة الاسلامية الكلاسيكية عرفت موقفا متميزا، ذلك هو موقف ابن الوليد ابن رشد الذي يرفض كل امكانية لتفسير المعجزات وتأويلها أو تعليلها، إن أبا الوليد حاول أن يتناول مسألة الخوارق والمعجزات بصورة لا تنتهي به إلى نفي الأديان والطعن في النبوات،فيرى ابن رشد أن الخارق لا يمكن تعليله ، وهو يتكلم هنا عن المعجزة. إنه لا يقبل سوى المعجزات التي وردت في النصوص الدينية والتي لا يمكن أن تفهم أو تفسر ، ولكن لماذا لا يمكن أن تفهم أو أن تقبل التفسير؟ هذه النقطة لا يمكن أن تفهم إلا بالعودة إلى منابع التفكير الرشدي الفكر اليوناني سبق ان استعمل الاديان والأساطير ،في نظر ابن رشد هذه النصوص التي تحكي إحدى المعجزات لا ينبغي تكذيبها لا لأنها صادقة في شكلها بل في معانيها، فهي رموز، وتناولها بالطعن أمر لا يتفق مع طبيعتها، بهذا المعنى نفهم الموقف الرشدي، المعجزة لا يجب أن تفسر أو تعلل بل ينبغي الصمت حيالها، لأنها ترتبط بمبادئ الشريعة، المهم هو الغاية منها وليس هي في ذاتها. ابن رشد يريد أن يقول أن كل تساؤل حول المعجزة أو طرح اشكالي لها يتضمن التشكيك في العقيدة ،إن المعجزة في ظاهرها لا تعني شيء ولكن نقبلها ويجب عدم الطعن فيها لتعلقها بمبادئ الشرع ،إن ابن رشد لا يدافع عن المعجزة في حد ذاتها ولكنه يدافع بالدرجة الأولى عن العقيدة ،يقول ابن رشد في تهافت التهافت : ” أما الكلام في المعجزات فليس فيه للقدماء من الفلاسفة قول ، لأن هذه كانت عندهم من الاشياء التي لا يجب أن تتعرض للفحص عنها وتجعل مسائل : فإنها مبادئ الشرائع، والفاحص عنها والمشكك فيها يحتاج إلى عقوبة عندهم مثل من يفحص عن سائر مبادئ الشرائع العامة مثل هل الله تعالي موجود؟ وهل السعادة موجودة؟ وهل الفضائل موجودة؟ (2).
للمعجزة حسب الموقف الرشدي وظيفة دينية ومن هذا المنطلق فإن كل طرح اشكالي لها يجب أن لا يقبل ، يجب رفض هذا الطرح نظرا للمخاطر التي يؤدي إليها هنا يتجلى موقف ابن رشد من الموقف الرافض، موقف ابن الراوندي والطبيب الرازي ،أن عملية الرفض وعملية التبرير والتدليل على صحتها أو خطاها غير مقبولتين لدى ابن الوليد ،إن الأديان نصت على هذه المعجزات ، ولهذا يجب الالتزام بهذا النص الديني أو ذاك ،ولكن لماذا نصت الأديان على هذه المعجزات؟ للإجابة على هذا السؤال يرى ابن رشد أن المعجزة مرتبطة بالممارسة العملية أي بالمعرف العملية ، فالأمور العملية يجب أولا أن تتعلم ،ولتعليمها وتقريبها إلى الأذهان يحتاج المعلم إلى وسائل بيداغوجية ، والمعجزات هي إحدى هذه الوسائل التربوية التقريبية لنشر هذه المعرفة العملية. مجال المعجزات لا يشمل المعرفة النظرية بينما الصنائع العملية تفتقر إلى قدوم المعلم وإلى أسلوب يقربها إلى أذهان المتعلمين، يقول ابن رشد : ” وإذا كانت الصنائع العلمية –أي النظرية- لا تتم إلا بأوضاع أو مصادرات يتسلمها أولا، فأحرى أن يكون ذلك في الأمور العملية ” (1).
تصبح المعجزاتإحدى المسلمات التي يجب التسليم بها في تعلم الأديان ، إذن لا مجال للخلط هنا بين دور المعجزة وبين طبيعتها ،طبيعة المعجزة لا ينبغي تفسيرها وإنما ينبغي النظر إليها كمسلمة لنشر المعرفة العلمية ، إن المعجزة تمثل إحدى الاسس التي يقوم عليها البناء الديني، فدورها في هذا المجال أشبه بدور المسلمات في البناء الهندسي أو الرياضي، تماما كما يقوم القول البرهاني على أوائل لا تعرف بحد اوسط أي لا تبرهن، وهكذا يرفض ابن رشد القول بخروج المعجزة عن القانون او السببية الطبيعية، إن المعجزة ممكنة في نفسها ممتنعة على الإنسان، لهذا نجد فيلسوفنا يسلم بالمعجزات ويعتبرها أمورا دينية ، تتعلق بها الفضائل في المجتمع الإنساني،
وقد نجد لديه تفضيلا لبعضها على البعض الآخر، ويقرر ان الظاهرة القرآنية هي أبين المعجزات لان باقي المعجزات التي يتحدث عنها النص معجزات خاصة بمرحلة ما من مراحل نمو الإنسانية . أما القرآن فهو معجزة مطلقة وليست متعلقة بقوم دون آخرين أو بفترة معينة من الزمن وبناء على هذا نجده يقول : ” وإذا تأملت المعجزات التي صح وجودها وجدتها من هذا الجنس وأبينها في ذلك كتاب الله العزيز الذي لم يكن كونه خارقا عن طريق السماع، كانقلاب العصا حية، وإنما ثبت كونه معجزا بطريق الحس والاعتبار لكل انسان وجد ويوجد إلى يوم القيامة “. (1).
إن المعجزات وسيلة لإقناع العامة لا لإقناع الخاصة ، الأديان استعملت المعجزات لإقناع العامة ولتنبيه الخواص ولهذا فإنكار المعجزة هو تشكيك في الدين ودفع الجمهور غلى الكفر، إن الخاصة ليسوا ملزمين بالمعجزة لكن العامة لا يمكن ان يقتنعوا غلا عن هذا الطريق . إن الفلاسفة منذ القدم كانوا يدركون أهمية الخوارق في الإيمان الجمهوري ولهذا كانوا يقابلونها بالاحترام فلم يسبق لاحد من القدماء أن طعن فيها أو طرحها للنقاش في الساحة العمومية وقد ميز ابن رشد بين نوعين من المعجزات : المعجز البراني والمعجز المناسب ، البراني هو كل فعل يظهر خارقا في ذاته لا يتعلق بعلم ما أو معرفة ما ، اما المعجز المناسب فهو المتعلق بالمعرفة الصحيحة أي المعجز الذي يؤكد على نبوة الأنبياء . ابن رشد يرفض أمرين الأمر الأول أن يكون الخارق في ذاته كافيا أو ذات قيمة ما ، الأمر الثاني هو أنه يرفض أن يكون الخارق دلالة على النبوة . المعجز في ذاته لا يدل على النبوة ،غن المتكلمين ربطوا البرهان على النبوة بالمعجزة، أما ابن رشد فيرى ان المعجز في ذاته لا يمكن ان يبرهن على نبوة الأنبياء ، لأننا لا نعلم النبوة ولا مسبباتها ولا شروطها ،فالمعجزة لا تصح إلا إذا صحت دلائل أخرى على النبوة ، لهذا يورد هذا التمييز . المعجز المناسب هو الذي يرتبط بعلامات النبوة وهي العلم بالغيب والمعرفة الصحيحة ، أي أن يقر النبي أو أن يؤدي معاني ومبادئ صحيحة في العقل ،أي أن يقر العقل بصحة هذه التعاليم ، فإذا أقر العقل تعاليم الرسول أقر بالمعجز المناسب إما إذا اقتصر النبي على أحداث التأثيرات الكونية فلا يسمى ذلك بنبوة . ابن رشد يرى إذن أن للمعجزة منافع وجودية من حيث هي وسائل توصل إلى الفضلية في المجتمع البشري، فهي تحرك النفوس نحو الخير، ولهذا يجب التسليم بها والصمت حيالها : ” فليكتفي بهذا من لم يقنع بالسكوت عن هذه المسألة ، وليعلم ان طريق الخواص في تصديق الأنبياء طريق آخر قد نبه عليه أبو حامد في غير ما موضع وهو الفعل الصادر عن الصفة التي بها سمي النبي نبيا، الذي هو الإعلام بالغيوب، ووضع الشرائع الموافقة للحق والمفيدة من الاعمال ما فيه سعادة جميع الخلق ” (1).
هذه هي مجمل آراء بن رشد بخصوص المعجزة بنوع من العمومية ودون الدخول في كثير من الخصوصيات ننتقل إلى بيان موقفه من مبدأ العلية .
نقد ابن رشد للتصور السببي عند الغزالي .
بعد بيان الموقف الرشدي من المعجزات يمكن الآن أن ننتقل إلى بيان موقفه من العالم الطبيعي، ومن مبدأ السببية ،فابن رشد ،إذن، كان واعيا بما كان يطمح إليه الغزالي، لذلك فإنه شرع في القول بدرء التهمة عن القدماء من الفلاسفة الذين حاول ابو حامد أن ينسب إليهم موقفا سلبيا من المعجزات، ثم انتقل لبيان موقفه الخاص، ليتطرق بعد ذلك إلى معضلة العلاقة بين الأسباب والمسببات، وهي منهجية واعية في نظرنا حتى لا يتهم بالإلحاد والزندقة، ويتعرض للاضطهاد والتكفير، فغذا كان هذا هو موقف أبي الوليد بن رشد من المعجزات فما موقفه من العالم الطبيعي، هل هذا الكون خاضع للضرورة ولقوانين طبيعية لا يحيد عنها؟ أم أنه مجال الامكان والعادة كما ادعى ابو حامد والمدرسة الأشعرية ومن قبله برمتها ؟.
إن ابن رشد في نقده للغزالي يجعله في نطاق أوسع فيعتبره أحد المتكلمين المنتمين إلى الاتجاه الأشعري، ويمكن للمرء أن يقول ان ابن رشد ظلت تراوده هذه الإشكالية الأشعرية التي تنفي العلية عن العالم الطبيعي مدة تأليفه لثلاثيته المشهورة ، حيث نجد لها حضورا في فصل المقال وفي مناهج الادلة لينتهي أخيرا إلى صياغتها صياغة متكاملة وعرضها عرضا منهجيا مستقلا في نقاشه للغزالي في المسألة السابعة عشرة من تهافت التهافت . لقد ظل ابن رشد يصرح بأن هذه المحاولة لا أساس لها، فنجده يقول في فصل المقال :” …بل كثير من الاصول التي بنت عليها الأشعرية معارفها هي سوفسطائية ، فإنها تجحد كثيرا من الضروريات،مثل ثبوت الأعراض وتأثير الأشياء بعضها في بعض ، ووجود الأسباب الضرورية للمسببات “. (1).
هكذا نجد ابن رشد يلح على هذه القضية وكأنه يجس النبض ليمهد الطريق للنقد المباشر، إن انكار الاسباب الفاعلة التي تشاهد في المحسوسات قول سوفسطائي والمتكلم بذلك إما أنه جاحد بلسانه بما في جنانه وغما منقاد لشبهة سوفسطائية عرضت له، إن أبا الوليد إذن شرع في الكلام عن الاسباب والمسببات كما تصورها الغزالي بالتفرقة وبتمييز الأقاويل المثبتة في هذا الباب وبيان مراتبها، وهكذا فالغزالي يحتمل احتمالين إما أنه ينكر مبدأ طبيعيا يؤمن به داخليا وهذا صحيح فكيف يمكن للإنسان أن يقوم بنفي شيء لا يؤمن به؟ وإما أن يكون منقادا لقناعة لا صور لها ،الغزالي إذن عنده آراء أعتقد أنها صحيحة ولذلك نجده يطمح إلى نصرتها بأي نوع من أنواع الأقاويل اتفق، سوفسطائية كانت جاحدة للمبادئ الأولى ، أو جدلية أو شعرية حتى صارت هذه الاقاويل عند من نشأ على سماعها من الامور المعروفة بنفسها، مثل إنكار وجود الطبائع، والقوى، ورفع الضروريات الموجودة في الطبيعة ، وجعلها كلها من باب الممكنات، وانكار الأسباب المحسوسة الفاعلة ،وانكار الضرورة المعقولة بين الأسباب والمسببات (1).
فالغزالي إذن لم يتأد إلى رفض علاقة العلية بالنظر بل ليصحح بها امورا بنى اولا على صحتها واصطلح مع نفسه عليها فأخذ يثبت ويطلب كل ما يعاضدها، ويزيف وينفي كل ما يعاندها ،لقد أرجع الغزالي كل افعال الموجودات إلى فاعل واحد هو الإله الشيء الذي يدل دلالة واضحة أن الله هو الذي يخلق باستمرار ولكن إذا كان ذلك كذلك فغن الموجودات ليست لها أفعال خاصة طبعها الله عليها، وإذا لم تكن للموجودات هذه الافعال الخاصة لم تكن لها ذوات خاصة . فأفعال الموجودات اتت مختلفة لاختلاف ذواتها، فإذا رفعنا الأفعال الخاصة بالذوات ارتفعت الاسماء والحدود واتحد الوجود وصار كله شيئا واحدا حيث لا فرق بين نار وماء ولا بين ذهب وحجر : ” …فماذا يوقلون في الأسباب الذاتية التي يفهم الموجود غلا بفهمها ،فإنه من المعروف بنفسه أن للأشياء ذوات وصفات، هي التي اقتضت الافعال الخاصة بموجود موجود، وهي التي من قبلها اختلفت ذوات الأشياء وأسماؤها وحدودها، فلو لم يكن لموجود موجود فعل يخصه لم يكن له طبيعة تخصه، ولو لم يكن له طبيعةو تخصه لما كان له اسم يخصه ولا حد، وكانت الأشياء كلها شيئا واحدا ولا شيئا واحدا “. (2).
إن الأفعال الخاصة بكل موجود من الموجودات تلزم الغزالي، فالماء له فعل خاص به، والنار لها فعل خاص بها، وأن لكل شيء من الأشياء الموجودة في العالم الطبيعي له ذاتيه الخاصة وفعل وانفعال خاص، ومن رفع هذه الذاتية لم يستطع أن يميز بين الموجود الواحد وغيره من الموجودات فالموجود لا يفهم إلا من قبل أسبابه الذاتية، إذن بدون هذه الأسباب لا يستطيع الإنسان تمييز موجود ، ولا يستطيع أن يفرق بين مادة ومادة فترتفع طبيعة الأشياء، وأن كل موجود إلا وله فعل معين فالنار تحرق ولا بد والماء يروي وبدون هذه الأسباب الذاتية والصفات الجوهرية لكل مادة على نحو خاص تكون الأشياء كلها شيئا واحدا، إذ سترتفع طبيعة الموجود ويؤدي ذلك إلى العدم، وذلك مستحيل .يقول ابن رشد : ” …وإذا ارتفعت طبيعة الواحد، ارتفعت طبيعة الموجود، وإذا ارتفعت طبيعة الموجود لزم العدم “. (1).
للأشياء الموجودة في الطبيعة إذن فعل خاص بكل واحد منها وانفعال خاص كذلك، واذا تعطل الفعل أو الإنفعال فليس معنى ذلك أن هذا الشيء او ذلك خرج عن طبيعته، بل قد تكون هناك إضافة من الإضافات هي السبب في نفي الفعل، فالنار على سبيل المثال إذا لم تفعل فعلها في القطن فإن ذلك يرجع إلى أن هناك موجودا قد أضيف إلى الجسم الحساس إضافة تعوق تلك الإضافة الفاعلة للنار، ولكن النار على كل حال تظل هي هي، مادامت لم تفقد صفة الإحراق، وما دام اسمها وحدها باقيا لها . فكيف إذن نسلب عنها صفة الإحراق وهي ما تزال تسمى باسم ما؟.
بعد هذا التحليل الذي يستند إلى المحمولات الذاتية والحدود يميز ابن رشد أيضا بين نوعين من الفعل، ويكشف عن الخطأ الذي وقع فيه أبو حامد الذي يرى أن الفعل إنما يجب أن ينسب إلى الكائن العاقل المريد، في حين يرى ابو الوليد أن الجماد إذا نفي عنه الفعل فإنما ينفى عنه الفعل الذي يكون عن العقل والإرادة وليس الفعل المطلق، فالموجودات التي تفعل بالطبع لا تملك القدرة على فعل الضدين، أما القوى المقرونة بالنطق فلها ان تفعل او لا تفعل، هناك صنفان من الأشياء الفاعلة ، صنف لا يفعل الأشياء واحدا مثل النار التي تفعل الإحراق والثلج الذي يفعل البرودة، ويسمى هذا الصنف فاعلا بالطبع لدى الفلاسفة وهناك الصنف الثاني الذي يستطيع أن يفعل أن أن يكف عن الفعل، فهي مختارة تفعل عن رؤية وعن علم ، وعلى كل حال يظل فيلسوف قرطبة متمسكا بمبدأ العلية، هذا المبدأ الهام في كل الصناعات، وخاصة في صناعة المنطق ،هذه الصناعة التي تعترف او تضع أن هناك أسبابا ومسببات، وأن المعرفة بالمسببات لا تكون على التمام إلا بمعرفة أسبابها. وأن فصل الأسباب عن مسبباتها معناه رفع العقل الذي هو في نظر أبي الوليد ليس أكثر من إدراك الموجودات بأسبابها ،إن محاولة الغزالي إذن ضربة موجهة للعقل والمنطق والعلم، فرفع هذه الأشياء إبطال ورفع له، لأن العلم اليقيني هو معرفة الشيء على ما هو عليه، أي موافقة ما في الأذهان لما في الأعيان، فإذا لم يكن في الوجود إلا إمكان المتقابلين في حق القابل والفاعل فبس ها هنا علم ثابت ولو طرفة عين، إذا نفى الإنسان الأفعال الضرورية فغن صناعة المنطق تصبح لا حول لها ولا قوة أيضا، ذلك أنها تعتمد بالدرجة الأولى على الحدود، فإذا لم يكن هناك شيء معلوم اصلا علما حقيقيا لا يكون ها هنا برهان ولا حد أصلا ، لان البرهان يتألف أصلا من المحمولات الذاتية .
إن أشياء العالم الطبيعي تبعا لأسمائها أو حدودها ومحمولاتها الذاتية تلزم القائلين بالعادة والاقتران وحتى لفظ العادة الذي يضعونه بديلا لمفهوم السببية لفظ مموه لا يمت إلى لغة العلم بأي صلة ، وهكذا نجد أبا الوليد يتوجه بالنقد لهذا المفهوم إذ يقول : “… فإن سموا مثل هذا عادة ،فما أدري ما يريدون باسم العادة، هل يريدون أنها عادة الفاعل؟ أو عادة الموجودات؟ أو عادتنا نحن عند الحكم عن هذه الموجودات ؟ “. (1).
إن العادة كما يقرر ذلك أبا الوليد بن رشد ملكة عقلية مكتسبة تنتج عن تكرار الفعل، ولهذا من المستحيل أن تكون للخالق عادة ، وهنا يستشهد بالآيات التي تؤكد أن سنة الله جارية على وثيرة واحدة في الكون لا تتبدل ولا تتحول . ابو الوليد إذن في النص السابق يطرح احتمالات الغزالي لمعنى العادة ، وبعد أن نفى ذلك عن الله، ينتقل ليؤكد ان الموجودات الطبيعية ليست لها عادة أيضا، لأن العادة في حقيقة الأمر لا تنسب إلا لذي نفس، ولهذا إذا أردنا ان نتكلم عن العادة في مجال الطبيعة لا بد أن نستبدل بمفهوم العادة مفهوما آخر هو الطبيعة ، أما ثالثا وأخيرا، فإذا كان الغزالي يعني بذلك عادة الإنسان في الحكم على الموجودات، فغنها إذن فعل العقل الذي يقتضيه طبعه، فما العقل إلا تلك القدرة على الحكم وتجريد المفاهيم من الواقع العيني ، إن العقل هو إدراك الموجودات بأسبابها ،فإذا رفعت هذه الأسباب رفع العقل بدوره.
وبالجملة لكي نحافظ على بقاء العلم والعقل والبرهان لا بد من النداء والتمسك بمبدأ العلية والضرورة، أما إذا ذهبنا إلى القول بمجرد العادة والإمكان فقد أحلنا حتى الاستدلال على وجود الله، ذلك أن الدليل على كل فعل لا بد له من فاعل يسقط ومن هذه الثغرة يجد أصحاب الاتفاق مدخلا ليقرروا أن الكون هو نتاج الصدفة ، فإذا كان الغزالي قد اتهم الفلاسفة وألزمهم موقف الدهريين فإن ابن رشد يرى أيضا في موقف الغزالي طريقا إلى القول بالصدفة ، ومن تم الوقوع في الدهرية .
ابن رشد يرى أيضا أن هذا العالم عالم ضروري، وهذه الضرورة هي الدليل على حكمة الخالق في الكون، فينفي قول الغزالي والمتكلمين عامة أن صورة الإنسان يمكن أن تحل في التراب مباشرة، وفي غير حاجة إلى كل الوسائط المشاهدة حيث يرى أن ذلك لو كان ممكنا لكانت الحكمة أن يخلق الإنسان دون هذه الوسائط، ولكان الخالق بهذه الصفة هو أحسن الخالقين وأقدرهم . إن القول بظهور شيء من شيء آخر مغاير دون الوسائط والمراحل المشاهدة ينفي الحكمة الإلهية ، فالموجودات تدخل في علاقة دورية يلد فيها الشبيه شبيهه، ولهذا لا بد من الإقرار أن ما يشاهد في الطبيعة يقع طبقا للضرورة، وأن سنة الله جارية في الكون، وبهذه الحكمة في التنظيم نستطيع أن نستنتج وجود الباري عن طريق قياس الغائب على الشاهد ،بدل سلوك الطرق الأشعرية، ونقف في وجه الدهرية المنكرة. وهذا العمل أي استنتاج وجود الله يتفق مع الآية القائلة : ” سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق “. (1).
إن القول بالجواز يقترب من ذلك المذهب الذي ينفي الصانع ويعتبر العالم نتاجا للاتفاق، وإذا كان الغزالي يخشى القول بالأسباب ويتحاشاه حتى لا يدخل عليه القول أن هناك أسبابا فاعلة غير الله، فإن ذلك خطأ من طرفه، فالله حسب ابن رشد هو مخترع الأسباب التي تظهر في الطبيعة ، ولهذا يجب نفي الاتفاق والقول على العكس من ذلك بوجود الأسباب الضرورية ، ويؤكد هذه الفكرة تصور أبي الوليد للعمليات العقلية ، ذلك أن وظيفة العقل التي يقتضيها طبعه- كما سبقت الإشارة إلى ذلك- هي إدراء الأشياء الموجودة وترتيبها، هذا الترتيب والنظام لا يدرك إلا من خلال الأسباب، وأن هذا النظام الذي يتجلى في الكون ناتج عن عقل – الله- هو الذي جعل افعال القوى الطبيعية تجري طبقا لسنة محكمة منظمة . في كل الموجودات أفعال جارية على نظام العقل وترتيبه، وذلك لا يمكن أن يتم عن طريق الاتفاق بل عقل شبيه بالعقل الموجود في الإنسان، وهكذا يمكن القول أننا إذا كنا قد رأينا أن الغزالي يدافع عن القدرة والحرية الإلهية ولا يولي للحكمة اهمية ،فإن ابن رشد يركز تركيزا شديدا على معنى الحكمة التي تتضمن القدرة والحرية ى، ذلك أن العقل استطاع أن ينظم الوجود بقدرته وحريته التي تجعل من العالم عالما ضروريا خاضعا لقوانين طبيعية شاهدة على حكمة الصانع، والحكمة في نظر ابن رشد ليست أكثر من معرفة أسباب الشيء ،فلو لم تكن هناك أسباب ضرورية لم تكن هناك صناعة أصلا ولا حكمة تنسب إلى الصانع دون غيره وبناء على هذا يجب التسليم إذن بوجود الحكمة والضرورة المتوفرة في الواقع الخارجي ومن تم الارتفاع إلى الإيمان بوجود خالق حكيم هو شرط في وجود الموجودات، وعن طريق مبدأ التعدي فهو أيضا شرط في وجود الأسباب الضرورية للمسببات. وهكذا يربط أبو الوليد فكرة الحكمة وفكرة الضرورة في الأشياء من أجل الارتفاع عن الوقوع في المذاهب الدهرية التي تأدى إليها الغزالي بغير وعي عن طريق تأكيده على كون أفعال الموجودات تحتمل الاوجه المتقابلة .فالقول بالإمكان يعني في نظر ابن رشد أن يكون الفعل فعلا عابثا ومن تم يمكن نسبته إلى مجرد الصدفة والاتفاق بدل نسبته إلى فاعل حكيم، ويرى أيضا أن الغزالي عندما قام بإنكار أفعال الطبيعة إنما قد أنكر جنود الله تعالى المسخرة بإذنه في الكون لإيجاد الموجودات والمحافظة عليها، وهذه الأسباب قد أوجدها الله في ذوات تلك الموجودات وهي النفوس والقوى الطبيعية، وهكذا فإن الطبيعة في رأي أبي الوليد لا تفعل الباطل، ولكن ماذا يمكن القول فيما يشاهد من امور استثنائية شاذة؟ أن هذه الظواهر لم تفعل عبثا بل هناك قوانين خاصة تحكم وقوعها، وإن كان العقل البشري قاصر عن إدراكها والإحاطة بها ، وبعد هذا التحليل للنظرة الرشدية يمكن للمرء أن يستنتج من ذلك أن أبا الوليد يعتبر قول الغزالي – بأن الله اجرى العادة بهذه الأسباب التي ليس لها تأثير في المسببات- بعيدا كل البعد عن مقتضيات الحكمة الإلهية بل إنه انكار وإبطال لها فالحكمة تتطلب وجود هذه المسببات بأسبابها الضرورية لا غير .
وأخيرا يمكن أن نخلص إلى القول أن ابن رشد قد ميز في نقده لأبي حامد الغزالي بين ثلاثة انواع من العلاقات بين الاسباب والمسببات هي العلاقة من ناحية الضرورة كالتنفس والتغذي مثلا لدى الكائن الحي ، وعلاقة أخرى من جهة الأفضل كوجود آليتين للبصر لدى الإنسان، وهناك علاقة أخرى هي علاقة الصدفة والعادة وإذا كان ابن رشد يركز على أولى هذه العلاقات ويقبل العلاقة الثانية إلى حد ما فإنه انكر صراحة علاقة العادة والصدفة ودفعها عن الفلاسفة بعيدا لأنها تنتسب إلى ميدان آخر إذ لا يقول بها سوى الزنادقة .
الخاتمة
يمكن القول في هذه الخاتمة أن تفكير الغزالي يختلف عن التفكير الرشدي اختلافا كبيرا، من حيث المنطلقات والمسلمات، انهما نمطان مختلفان من انماط التفكير ، فلكل منهما طريقته الخاصة في النظر إلى الظواهر الطبيعية وفي تحديد طبيعتها وفي مقياس التحقق من صحة النتائج المتوصل إليها .
فأبو الوليد ينظر إلى الطبيعة وإلى كافة الظواهر في الوجود أنها ذات وجود واقعي يتحقق في الواقع وان لها قوانينها وأسبابها وخواصها المستقلة الواقعية القابلة للتحقق التجريبي والتطبيقي، أي أنها تبحث الواقع كما هو دون أية إضافة من خارجه، وهذه النظرة تقترب من النظرة العلمية التي بدأت تسود في المجالات المعرفية والعلمية منذ عصور النهضة الأوربية حيث تم الفصل بين عالمين عالم الصوت، وعالم الشيء وبدأ التفكير العلمي يفسر الكون بذاته.
أما أبو حامد فينظر إلى ظواهر الواقع الموضوعي بأنها نتيجة لظواهر أخرى ذات طبيعة مغايرة، تعلو على التحقق التجريبي، وتسمو على البرهان المنطقي المستمد من حقائق الواقع،وإنما يسلم بها تسليما لأنها تتجاوز حدود إدراك العقل البشري، هذا هو الفرق بين أبي حامد وأبي الوليد . فالغزالي يرى أن التأثير يأتي من الخارج أما ابن رشد فيرى ان هذا التأثير وضعته حكمة الله في الموجودات نفسها.
كان هدف الغزالي من محاولته نفي مبدأ العلية إثبات المسلمات الإيمانية مثل المعجزة وحرية الله وقدرته المطلقة ، وبعد إثبات هذه الأمور بأساليبه الخاصة أخذ يتراجع عن هذا القول ليقرر أن الله قد أخبرنا بأن المتقابلات الممكنة في الوجود لم يفعلها حتى تستمر الطبيعة مستقرة لا يعتريها التغير من حال إلى حال وحتى لا ينعدم النظام في الكون، ولقد قدم الغزالي عدة تنازلات في سياق جداله للفلاسفة حتى كاد يعترف بالمبدأ العلي. أما أبو الوليد فكانت نظرته واضحة وجداله صارما بحيث ظل متشبثا بالتركيز على ضرورة العالم وقيامه على قوانين مضبوطة ، وأن عجز العقل عن إدراكها أحيانا دون أن يؤدي به ذلك القول إلى نفي الخالق الحكيم أو الطعن في المعجزات الواردة في النصوص القرآنية ، معتمدا على التمييز بين الأقاويل ومراتبها في التصديق والإقناع حيث يضع قول الغزالي في المراتب القاصرة عن مرتبة البرهان الذي يمثل لديه القول العلمي. ونود ان نشير في ختام هذه الدراسة إلى أمر مهم تواضع عليه الدارسون وهو محاولة الربط بين فكرة العالم عند الغزالي وفكرة العادة عند الفيلسوف الإنجليزي دفديفهيوم والقول بالسبق لأحدهما عن الآخر ،هذه المحاولة التي قام بها عدد من الدارسين سواء منهم العرب أو المستشرقون. ولهذا نقول أن الغزالي كان يهدف بالأساس إلى هدم فكرة العلية أو العلاقة بين السبب والمسبب من اجل إثبات مسلمات علم الكلام لا أقل ولا اكثر ولم يكن ذلك عن طريق التفسير التجريبي أو العقلي ذلك أنه لم يلجأ إلى فكرة الاقتران العادي إلا ليصل بأفعال الأشياء وخصائصها إلى الله مباشرة فيقرر قدرته على خرق العادة ففتح باب الممكنات وأسقط ضرورة ما يشاهد في الطبيعة من ظواهر ليتلائم ذلك مع تفسير المعجزات وهكذا يمكن القول إذن انه نظر غلى هذه المسألة من وجهة نظر الدين .
المصادر
1- الإرشاد : أبو المعالي الجويني تحقيق وتعليق وفهرسة د. محمد يوسف موسى وعلي عبد المنعم عبد المجيد .مطبعة السعادة مصر 1950.
2- الشامل في أصول الدين : الجويني تحقيق جماعة من الكتاب مطبعة الإسكندرية مكتبة المعارف 1969.
3- التمهيد : أبو بكر الباقلاني تحقيق ريتشرد مكارتي بيروت المكتبة الشريفة 1957.
4- تهافت الفلاسفة : الغزالي تحقيق د. سليمان دنيا الطبعة الخامسة دار المعارف مصر 1971.
5- تهافت التهافت : أبو الوليد بن رشد تحقيق .سليمان دنيا الطبعة الثانية دار المعارف بمصر 1971.
6- فصل المقال : ابن رشد تحقيق محمد عمارة .طبعة بيروت 1971.
7- تفسير ما بعد الطبيعة ابن رشد تحقيق الاب موريس بويج مطبعة بيروت الكاثوليكية 1938.
المراجع
مناهج البحث عند مفكري الإسلام د. علي سامي النشار دار المعارف القاهرة بدون تاريخ.
مفهوم السببية عند الغزالي . ابو يعرب المرزوقي دار ابو سلامة للطباعة والنشر والتوزيع تونس الطبعة الاولى 1978.
العقل والوجود : د. يوسف كرم الطبعة الثانية دار المعارف بمصر بدون تاريخ.
محاضرات في الثقافة العربية : الأستاذ الوزاد محمد 1981-1982.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • BRAHIM BEN BAMMOU
    منذ أسبوعين

    شكراً جزيلا ، و عيدكم مبارك سعيد