مجتمع

موت في زمن “كورونا” بالمغرب .. مشاهد حية من الإنعاش إلى المقبرة (صور)

وفاة كورونا بالمغرب

عبد الغني بلوط – مراكش

ينهمك عمال “إنعاش وطني” بحماس فاتر في إنزال صندوقين من سيارة “نقل أموات المسلمين”، بينما يقف بضع أفراد مشدوهين أمام هول اللحظة قبل الدفن.

في ذلك اليوم الصيفي الحار من شهر غشت بمقبرة الرحمة بمدينة مراكش، يبدو المكان غير المكان، قبور حفرت على عجل بغير عمق على غير العادة، وبدون دعامات يأجور أو إسمنت.

وجوه تلفها كمامات لا تستطيع أن تخفي الحزن الذي ينط من العيون، يجهش أحدهم بالبكاء، لكن لا أحد يستطيع ضمه لتخفيف وطأة المصاب الجلل.

يقول رشيد، “حفار قبور” لا يريد أن يكشف عن هويته: “في كل يوم نستقبل وفيات أكثر من اليوم الذي مضى، عملنا هو أن نحفر أكبر قدر ممكن من القبور تحسبا لأي طارئ”.

يضيف رشيد لجريدة “العمق”: “بعد إدخال الصندوق في الحفرة، نسكب التراب دون أن نفكر في أي شيء آخر، صحيح أننا نملك قلوبا مرهفة، لكن هذا العمل الروتيني بلد كل إحساس فينا”.

“كوفيد”

لجأت السلطات المختصة إلى مقبرة الرحمة على طريق آسفي لدفن موتى “كوفيد19″، ومنهم مشكوك في إصابتهم وينتظر أن تظهر نتائجهم.

ومع تزايد الوفيات في مدينة مراكش والتي وصلت رقما قياسيا (9 وفيات يوم 18 غشت من أصل 33 على الصعيد الوطني)، أصبحت المقبرة عنوانا للحزن ومحج المكلومين من فقدان ذويهم بسبب الجائحة.

مع رفع الحجر الصحي لإنقاذ الاقتصاد من السكتة القلبية، تزايد عدد المصابين والمخالطين، لم يكن لهم بد غير التوجه إلى مستشفى ابن زهر المعروف باسم “المامونية”، والذي أصبح غير قادر على تلبية الحق في الولوج في الصحة والرعاية، بسبب نقص التجهيزات والموارد البشرية.

بات المرضى يفترشون الأرض، والأطر الصحية يحتجون على ظروف عملهم، الداخل إليها مفقود والخارج منه مولود كما يقول أحد الحقوقيين.

وفي خضم ذلك، يعيش أهالي من قضى عليه الوباء وأصدقاؤهم، لحظات عصيبة، وأهاليهم داخل قسم الإنعاش، وتجارب مختلفة خلال صلاة الجنازة والدفن.

خبر حتمي

كان الشاب محمد يمني النفس أن يتجاوز أبوه محنته، والذي وصل إلى مستشفى ابن زهر وهو يعاني من ضيق التنفس وأدخل قسم الإنعاش على عجل، بعدما رفضت مصحة خاصة إتمام استقباله وعلاجه لشكوك في إصابته بكوفيد19، واكتفت بعمل أشعة على الصدر.

طيلة ساعات من الليل كان يتصل محمد، كما يحكي لجريدة “العمق”، بممرض القسم يريد الاطمئنان على حالته، تصله أخبار تخفف قليلا الروع الذي تملك قبله، يهدأ حين يسمع أن منسوب الأكسجين ارتفع من 10 في المائة إلى 70 في المائة، كما أن دقات القلب منتظمة والحرارة مستقرة.

لكن ما أن يهدأ باله قليلا حتى يعود ذهنه مشوشا، بعدما يتذكر له صور المرضى الممدين على الأرض، وأخبار الوفيات نتيجة نقص في مادة الأكسجين، إلى أن أتاه الخبر الحتمي، وفاة والده.

نظرة أخيرة

لا يستطيع الشاب محمد أن يغسل أباه، ولا أن يضمن ذلك داخل المستشفى، بعد الإعلان عن الوفاة يؤخذ الميت في ملابسه ويبحث له عن صندوق يواريه.

في الطريق إلى المقبرة تغيب مظاهر الجنائز العادية، سيارة “نقل أموات المسلمين” بيضاء اللون زينت بحروف عربية خضراء تحمل اسم الشهادتين، تشق الطريق من مستشفى ابن زهر في مهمة عاجلة، لتعود مسرعة لمهمة جديدة.

من يختارون التكبير أو التهليل في الجنائز أو من يفضلونها صامتة لم يعد لديهم الوقت لكي يفكروا في أي شيء، “قلبت كورونا موازين كل شيء وحرمت الجميع حتى من الحق في تلقي العزاء ونصب الخيام لذلك”، يقول شاب أفقده الوباء والده وهو يخرج حزينا من المقبرة بعد إتمام مراسم الدفن.

وداع

تحت شمس منتصف النهار، ووسط القبور والأتربة، يصطف عشرة من الرجال بكماماتهم، تاركين فرجات تباعد بينهم لأكثر من متر ونصف. وعلى باب المقبرة تتراءى نساء يتبادلن حديثا هامسا وهن يلقين النظرة الأخيرة على الصندوق الخشبي قبل توديعه.

يبدأ “الإمام” في تلاوة القرآن الكريم، ويكبر ويعيد التكبير، بين يواصل عمال “الإنعاش الوطني” مهمتم، جادين في إتمامه لاستقبال الصندوقين بعد الصلاة، بينما تظهر شواهد قبور كتبت فيها أسماء وتواريخ، وأحدهما كتب عليه “مجهول الاسم”.

يقول رشيد حفار القبور، يصر البعض على صلاة الجنازة في المقبرة، تكريما للميت وحرصا على طقس ديني، بينما لا يفعل ذلك آخرون وقد لا يحضرون مراسيم الدفن.

يودع الشاب محمد المقبرة، وفي كل مرة يلتفت وراءه كأنه ترك في هذا المكان الموحش جزءا من كبده، بينما تلوح في الأفق سيارة بيضاء بنقوش خضراء لتبدأ الحكاية من جديد، لا يعرف أحد متى تنتهي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *