منوعات

بويخف يكتب: محاربة الإرهاب تقتضي الاستباق الأمني والفكري معا

وحده من لم ينس فاجعة 16 ماي الإرهابية والفواجع الأخرى التي تلتها يستطيع تقدير أهمية العمليات الاستباقية التي يقوم بها بنجاح منقطع النظير المكتب المركزي للأبحاث القضائية التابع للمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني. ووحده من لا يتجاهل مجازر الإرهاب يوميا عبر العالم، أو لا يتعامى عنها، من يستطيع الانشراح كلما سمع خبر تفكيك خلية إرهابية. ووحده من يعرف قيمة نعمة الأمن والاستقرار من يستطيع أن يرى في الحرب على الإرهاب بكل الوسائل ضمانة أساسية للسلام والسلم في المجتمعات وعبر العالم.

ورغم أن تفكيك كل خلية إرهابية يؤكد أن التهديد الإرهابي قائم ومستمر، فإن تلك العمليات الاستباقية تبعث قدرا كبيرا من الطمأنينة والأمان، وتمنح الكثير من الأمل في أن يعيش المغرب محصنا من كل تهديد إرهابي. وهو نفس الشعور الذي خلفه في النفوس تفكيك الخلية الإرهابية الأخيرة بالجديدة واعتقال عناصر إضافية ترتبط بها بداية هذا الأسبوع. ورغم أن تلك الخلية التي حُجز لديها أسلحة متنوعة كانت على أهبة تنفيذ عملية إرهابية ببلدنا العزيز، وكانت تنتظر ساعة الصفر بإشارة من المنظمة الإرهابية العالمية “داعش”، فإن تمكن الأمن المغربي من إجهاض مخططتها في المهد يعني أن نجاح الإرهاب في التسلل إلى عقول بعض البسطاء، ونجاحه في تشكيل خلية إرهابية، لا يعني نجاحه في اقتحام الخط الأحمر وتنفيذ مخططاته.

ومما يعنيه تفكيك خلية إرهابية هو أن ما كان يفصلنا عن ارتكاب الجريمة حيز من الزمن آخذ في الضيق، وقد يعد بالشهور كما قد يعد بالساعات والدقائق. ويفيد ذلك أن العمليات الاستباقية الأمنية تستمد قيمتها الاستراتيجية من كونها تستطيع التدخل في ذلك الحيز الحرج من الزمن الفاصل بين التخطيط والانتقال إلى التنفيذ. ومثل هذا التدخل الاستباقي هو الذي كان ناقصا في أحداث 16 ماي الإرهابية بالدار البيضاء، وفي فاجعة مقهى أركانة بمراكش، وفي كل المجازر التي ارتكبتها آلية الإرهاب في كل بقاع العالم. ولو تيسر مثل ذلك التدخل الاستباقي لحقنت دماء آلاف من الأبرياء، ولما روعت شعوب كثيرة عبر العالم.

لكن إذا كانت العمليات تعني أن أجهزة الأمن قادرة على استباق تنفيذ جرائم الإرهاب، وتفكيك خلاياها قبل أن تتحرك لارتكاب جرائمها، فإن نشوء تلك الخلايا والمجموعات الإرهابية وظهورها بين الفينة والأخرى يعني أن التهديد الإرهابي قائم وما زال مستمرا، واحتمال تمكنها من تنفيذ مخططاتها، لا قدر الله، وارد.

ومن المؤكد أن تلك العمليات الاستباقية بقدر ما تربح من الوقت الفاصل بين الإعداد والتنفيذ في العمليات الإرهابية بقدر ما تكون ناجعة وواقية. وهذا يعني أن جميع الجهود التي يمكن بذلها لإبطال العمل الإرهابي قبل انتقاله إلى التفكير والتخطيط لعملياته، جهود حيوية لا تقدر بثمن. ولا يخفى في هذا الإطار أن الوقت الحيوي في استباق جرائم الإرهاب يمكن ربحه بشكل فعال حين نستثمر أكثر في الوقاية الفكرية. ذلك أن المجتمعات لا تملك من ضمانات حقيقية ضد الإرهاب والتطرف إلا بقدر ما تملك من حصانة فكرية وأمنية معا. ومن الخطأ الفظيع الفصل بين هاتين الضمانتين، فكلاهما ضروري وحيوي في موضوع محاربة الإرهاب.

إنه إذا كان الاستباق الأمني لعمليات الإرهاب يمكن من ضرب مخططات الإرهابيين في مهدها وهي في طور التوجه نحو التنفيذ، فإن استباق الفكر الإرهابي له أهمية استراتيجية أكبر بكثير، ذلك أن الاستهداف الأمني يرصد بوادر تحرك وتبلور علاقات، وبوادر تشكل خلايا، بناء على رصد استخباراتي مستمر ودقيق، لكنه لا يستطيع رصد القابلية للتحول إلى الإرهاب التي يستثمر فيها الإرهاب العالمي من خلال تكنلوجيا الاتصال الحديثة. والاستباق الفكري من شأنه محاصرة الإرهاب من خلال معالجة تلك القابلية. بل إن جهود الاستباق الأمني، التي تنتهي بتفكيك الخلايا ووضع المجرمين رهن الاعتقال، مهددة بالهدر بحالات العود حين لا يخضع هؤلاء المعتقلون لتأطير فكري في السجون والمعتقلات، تعيد لهم تفكيرهم الإنساني السوي والمعتدل. مما يعني أن المقاربة الفكرية ضرورية كوقاية قبل وقوع الإرهاب، وكعلاج بعد وقوع معتقلين في ملف الإرهاب.
إن المعادلة التي ينبغي المراهنة عليها في محاربة الإرهاب هي أن يكون استباق الإرهاب فكري وأمني. فكلاهما مكمل للآخر،ذلك ان ما لم تقومه المعالجة الفكرية الوقائية في محاربة الغلو والتطرف، تحسمه المعالجة الأمنية عند تشكل التهديد الإرهابي، وما عجزت المقاربة الأمنية عن معالجته بعد اعتقال المجرمين من توجهات وقناعات متطرفة وقابلية للعود تتكفل به المقاربة الفكرية بين أسوار السجون.

والمغرب بإنجازات أمنه الاستثنائية قد راكم تجربة رائدة في الاستباق الأمني الفعال لجرائم الإرهاب، وعليه تعزيز هذا التوجه الاستباقي بالاستثمار بشكل فعال أيضا في الاستباق الفكري، وخاصة في السجون، وفي فضاءات التواصل الاجتماعي على الإنترنيت، وفي الإعلام وفي المدرسة والمسجد، ذلك أن الجهود التي تبدل حتى اليوم في هذا المجال، رغم أهميتها، فهي تفتقد إلى الاستهداف الدقيق، سواء على مستوى الخطاب والفئات المستهدفة أو على مستوى القضايا الفكرية المعالجة وذات الأولوية في محاربة التطرف والإرهاب.