منتدى العمق

المجرم الذاتي

تعتبر الظاهرة الإجرامية ظاهرة معقدة ومركبة، ودائما في تطور متجدد مع تطور الأجيال وكل جيل له مجرمين خاصين به، نتيجة البيئة الاجتماعية التي ما فتئت هي الأخرى في تطور مستدام، وهكذا نلاحظ في الآونة الأخيرة ظهور مجموعة من الظواهر الإجرامية من قبيل ظاهرة التشرميل التي ظهرت سنة 2014 في المغرب، وظاهرة خطوط الجسد التي باتت تجتاح الأحياء الشعبية بمختلف المدن المغربية، ويقومون بها شباب مراهقون تتراوح أعمارهم ما بين 14 و24 سنة، يلجؤون هؤلاء الشباب إلى الإعتداء على أنفسهم عمدا بآلات حادة كالسكاكين والشفرات الحادة(..)، لكن مازال الغموض يلف هذه الظاهرة الإجرامية في المغرب مع كامل الأسف.

بالعودة إلى جدور هذه الظاهرة نكتشف أن الندب كانت منذ الأزمان تعبيرا عن الحزن وألم الفقد؛ فتخمش النساء على خدودهن وتلطم وجوههن ويعمد الرجال إلى ضرب رؤوسهم وأجسادهم بالسلاسل، وعلاجا كتشريط الجسد خاصة على مستوى الرأس والجبهة لمعالجة ألم الرأس(الشقيقة) وغالبا ما تمارسه العجائز في شمال إفريقيا للتداوي والتطبيب، أو تشريط الأطفال خلال ولادتهم بسبب مرض يسمى في الأوساط الشعبية بالعالم القروي ب(زڭاڭ zagag) تمارسه امرأة تحترف تشريط الأطفال، أو موروثا ثقافيا كطقوس الـ”الفودو” يمرره شيوخ قبائل من إفريقيا جيلا بعد جيل، أو أثناء المواسم كموسم الشيخ الكامل الذي يقام بمدينة بمكناس بمناسبة ذكرى المولد النبوي على الطريقة العساوية أو الحمدوشية (الطيفات)، نجد أشخاص يضربون أجسادهم بالزجاج والسكاكين وإضرام النار في أجسادهم وكسر الأواني على رؤسهم والدماء تسيل من أجسادهم أمام أعينهم ويدخلون في حالة هستيريا.

ومع التطور المطرد في الحياة البشرية أصبح للندب (خدوش أو جرح) أشكال ودوافع أخرى كما سنرى لاحقا.

وهذه الظاهرة في حقيقة الأمر ما هي إلا شكل من أشكال الجرائم الجنائية لأنها تحدث نفس الآثار التي تخلفها الجريمة التي ترتكب في حق الغير.

إن التساؤل الذي يطرحه هذا الموضوع هو كيف يمكن تفسير ظاهرة الخطوط الجسدية، التي أصبحت تعرف تناميا كبيرا في و قت أصبحنا فقط نريد الخروج من الفعل الإجرامي بأقل الأضرار؟ هل يعتبر الشخص المعتدي على نفسه مجرما ذاتيا، علما أنه أصبح حسودا و حقودا ولا يكفيه الفعل الجرمي بالاعتداء على نفسه بإضافة علامات في الوجه أو في اليدين أو العنق أو الصدر(…) بل يتفاخر بهذه العلامات كأنه يتميز عن غيره من الخلق ويحب من يناديه مجاملة بالمسخوط(بالعامية انت واعر)، ومن هذا المنطلق سنحاول كشف الستار عن تعريف المجرم الذاتي (أولا)، ثم أسباب سلوكه الإجرامي (ثانيا)، وبعد ذلك سنخصص الحديث عن الآثار المترتبة على أفعاله في حق نفسه (ثالثا).

أولا: تعريف المجرم الذاتي

قبل الوقوف عند تعريف المجرم الذاتي (ب) يجب أن نقف عند مصطلح التخطيط الجسدي (أ).

أ: التخطيط الجسدي

يعتبر التخطيط الجسدي مصطلح مغربي جديد؛ ويقصد عند الأطباء بإيذاء النفس Auto-agression بآلة حادة من قبيل السكين أو شفرة الحلاقة أو أية آلة حادة أو كما يطلق عليه بإلانجليزية cutting عملية تشطيب أو “تشليط” الجسد؛ وتعني إحداث جروح بواسطة الآلات الحادة كما أشرنا سابقا، يقوم بها المراهقون والشباب والكهول في أماكن مختلفة ولدوافع متنوعة، من أهمها التعبير عن تأزم حالتهم النفسية التي تكون في حالة مضطربة تكشف الجوانب الشخصية الاضطرابية.

ب: تعريف المجرم الذاتي

انطلاقا من مفهوم الجريمة التي تحدث اضطرابا داخل المجتمع ومن تصنيفات المجرمين عند سيزار لمبروزو César Lombroso نجد الإجرام الذاتي يحتوي على كل تصنيفات المجرمين من خلال الأسباب المؤدية إلى الاعتداء على النفس واحتراف الإجرام ضد الغير، ولذلك نسمي هذا السلوك العدواني الذي يقوم به الشخص اتجاه نفسه بلغة علم الإجرام بالمجرم الذاتي Auto-criminel، لأن الشخص الذي يعتدي على نفسه يبدو للمجتمع أنه مجرم ويحدث اضطرابا له من أول نظرة ويتعامل معه على أساس أنه مجرم خطير، حتى عندما تستوقفه الشرطة تعتبره مجرما وعندما يقدم إلى النيابة العامة تعتبره مجرما أيضا، كما أنه عندما يحال على أنظار قضاة الحكم يعتبر كذلك مجرما، لأنه لم يرحم حتى نفسه ما بالكم أن يرحم غيره، وأن الفعل الذي اقترفه في حق سلامته الجسدية فهو فعل من أفعال الجناة.

وفي هذا المضمار سنحاول البحث عن السند القانوني لهذه الجريمة التي يقوم بها الشخص اتجاه نفسه، في القرآن الكريم (1) والسنة النبوية الشريفة(2) وفي بعض التشريعات المقارنة(3).

1) موقف القرآن الكريم من جريمة الاعتداء على النفس

بالرجوع إلى كتاب الله سبحانه وتعالى نجد أدلة كثيرة توصي الإنسان بالحفاظ على نفسه وتحرم إيذاء النفس، فمن ذلك قول الله تعالى: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ {الآية 195من سورة البقرة}، وقوله تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا { الآية 29 من سورة النساء}.

2) موقف السنة النبوية الشريفة من الاعتداء على النفس

بتفحصنا لبعض الأحاديث النبوية التي عالجت قتل النفس وإيذائها، نجد في الصحيحين؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده، يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن شرب سما، فقتل نفسه، فهو يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تردى من جبل، فقتل نفسه، فهو يتردى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا.(رواه مسلم والبخاري)

روى الإمام مالك في الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا ضرر، ولا ضرار”.

وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» متفق عليه.

وهكذا نلاحظ أن الشريعة الإسلامية السمحاء توصي الإنسان بالمحافظة على نفسه وسلامة جسده مما يؤذيه وتجرم ذلك كعقاب أخروي.

3) موقف القانون الوضعي من جريمة الاعتداء على النفس

من خلال تفحصنا لمجموعة القانون الجنائي وبعض التشريعات الوضعية، نجد في هذا الصدد مجموعة من التشريعات المقارنة التي اهتدت إلى تجريم بعض الاعتداءات على النفس، ولنا في ذلك جريمة محاولة الانتحار والمساعدة عليه كالتشريع الجزائري والهندي والسويسري والإنجليزي؛ والبعض من هذه التشريعات تعتبر ذلك جناية والبعض الآخر منها يعتبرها جنحة، خلافا للتشريع المغربي الذي لا يعاقب على الشروع في الانتحار بل اقتصر فقط على تجريم المساعدة عليه بموجب الفصل 407 من مجموعة القانون الجنائي ومحاولة الانتحار بموجب الفصل 114 من نفس القانون على اعتبار أن محاولة الانتحار هي جريمة كسائر الجرائم الأخرى وما يسري عليها يسري على المشاركة والمساهمة في تلك الجريمة. أما باقي الأفعال التي يرتكبها الشخص في حق نفسه ولو كانت ماسة بالحق في السلامة الجسدية تبقى خارج نطاق القانون الجنائي.

ولذلك نعتقد أنه حان الوقت لتدخل المشرع لتجريم تخطيط أو تشليط الجسد بالسكين أو بشفرة الحلاقة أو أية آلة حادة لأن هذا السلوك يشكل اضطرابا اجتماعيا.
إضافة إلى ذلك إن هذه الأفعال تمس أسمى شيء عند الإنسان وهو السلامة الجسدية والحق في الحياة، فإزهاق الروح بقتل الجسد كجلد ولحم سواء بالانتحار أو غيره من السوك الإجرامي وهو ما جرمته كل الشرائع السماوية والتشريعات الوضعية كسلوك اتجاه الغير.

ثانيا: أسباب الإجرام الذاتي

كل جرح سواء كان نفسيا أو جسديا يحكي قصة من قصص المجرمين الذاتيين المهمشين من الدولة والمجتمع والعائلة، وهكذا بعد قيامنا ببعض الاستجوابات مع أصدقاء لنا من هذا

النوع نكتشف أن هناك أسباب عدة ومتنوعة التي تؤدي إلى القيام بعمليات تخطيط الجسد أو تشليطه أو تشطيبه من أهمها:

1) القلق والإحساس بانعدام القيمة والخوف والفشل والاحساس بالذنب؛ كل ذلك من أجل تصعيد همومهم والتعبير عن حالة اليأس وانسداد الآفاق التي يعيشونها، وهذه كلها عوامل المجرمين المقهورين أو المجرمين المذنبين، والتي تؤدي بالإنسان إلى ارتكاب أفعال إجرامية في حق نفسه أو غيره.

2) بسبب المشاعر العاطفية المتقلبة، أو نتيجة فشل علاقة غرامية أو زواج المعشوقة أو العاشق فيقع الشخص تحت وابل من الضغط النفسي الذي يؤدي إلى تأثير حاد ذي طابع شاذ يتسم بالعنف والقسوة سرعان ما ينطفئ بعد ارتكاب جريمة في حق نفسه نتيجة الإحباط والندم بعد الاعتداء على نفسه وهذا قد يؤدي به إلى الانتحار.

3) إن الأشخاص الذين يعتدون على أنفسهم بالضرب وجرح الجسد بسبب صراعات إثبات الذات أمام الفتيات أو بسبب الموضة(التقليد)، وهذا السبب يكمن في أنهم يصورون أنفسهم وينشرون صورهم على مواقع التواصل الاجتماعي أو يلبسون ألبسة قصيرة لإظهار الخطوط قصد فزع الآخرين، والاستهتار واللامبالاة وانعدام المسؤولية لديهم؛ ويحاولون أن يكونوا أبطالا بدافع الأنانية والتعالي لكي يعرفون (بمساخيط الحي) من خلال ضرب وتشويه أجسادهم والتباهي بالرجولة والقوة المصطنعة أمام الفتيات وأبناء الحي، وهذه السلوكيات هي في الحقيقة سلوكيات المجرم السيكوباتي الذي يسقط في فخ الانفعال الشديد الذي لايستطيع كبح جماحه فيرتكب جريمته نتيجة ذلك.

4) نجد هناك العديد من الفتيات والفتيان الذين لجأوا إلى تخطيط أجسادهم في سن مبكرة جدا بعد أن شاهدوا المراهقين يفعلون ذلك بعد دخولهم إلى السجن أو مراكز تأهيل الأحداث (الإصلاحية) وأعادوها في مناسبات أخرى مع أقرانهم في الأحياء بعد مغادرتهم هذه المؤسسات العقابية الإصلاحية، وعند قيامهم بهذا الفعل الإجرامي في حق أنفسهم يشعرون بالألم الذي يعطيهم فسحة من الراحة النفسية المؤقتة، أو تناول الأدوية المخدرة التي تفقد أي إحساس بالألم.

5) من خلال حديثنا مع عدد من الأشخاص، الذين تتواجد على أجسادهم ندبات السكين أو شفرة الحلاقة، يعيشون في الغالب الأعم بدون وازع ديني أو مستوى ثقافي.

6) عدم القدرة على مواجهة الأزمات، وضعف التواصل الاجتماعي والأسري، وفقدان الأمل في المستقبل، والشعور الدائم بالأرق والقلق والتوتر، وعدم القدرة على التركيز، والكوابيس والشعور بالكآبة.

وهكذا، يمكن تصنيف هؤلاء الأشخاص الذين يعتدون على أنفسهم بالسكين أو بشفرة الحلاقة أو أية آلة حادة إلى صنفين:

الصنف الأول: أشخاص مصابون بأمراض نفسية يرون في جرح أجسادهم وسيلة فعالة لرد الفعل والتعبير عن شخصياتهم الفاشلة.

الصنف الثاني: أشخاص يرون في جرح أجسادهم تقليدا وتجربة لا أقل ولا أكثر تعبر عن الرجولة المفبركة.

ثالثا: الآثار المترتبة عن الإجرام الذاتي

إن ملاذ تخطيط الجسد أو تشطيبه من أجل ندبه تقليدا أو إحداث ألم عضوي لمداواة الألم النفسي، لمن عاش قصة عاطفية فاشلة أو لمن يرزح تحت ضغط البطالة والفقر، وأيضا لمن أرهقته سلطة والديه؛ ينتج عنه جريمة ذاتية Auto-crime في حق حياة الجاني الذاتي والمس بسلامته الجسدية.

وبعد ارتكابه هذه الأفعال الإجرامية في حق نفسه يصاب بخيبة أمل كبيرة بسبب ماضيه الذي أصبح عائقا أمام مساعيه للاندماج في المجتمع، خاصة عندما يتوب وينوب ويريد إصلاح نفسه ثم يلجأ إلى طرق أبواب التشغيل فيقابل بالرفض التام. فمن يجازف بتشغيل شخص مشوه الوجه بالسكين أو بشفرة حلاقة وبيدين مخرطتين بتلك الآلة من الأسفل إلى الأعلى؟ الطامة الكبرى حتى الأعمال الحرة كامتهان الصنعة التقليدية وبيع الخضروات في الأسواق (..) لم يستطيعوا النجاح فيها، لأن الناس يتحاشون التعامل مع شخص تظهر على جسده ندبات السكين أو شفرة الحلاقة بسبب الخوف أو الاشمئزاز أو اعتقادهم أن فكرة الجرم لازالت قائمة في أذهانهم، كأنه مجرم سيكوباتي الذي لا أحد يتوقع أو يتكهن متى سيقدم على تنفيذ جريمته، إضافة إلى ذلك حتى أبناؤهم عندما يسألونهم عن ندباتهم الخالدة يصابون بالخجل والإحباط وتأنيب الضمير.

وبعد ذلك يدخلون هؤلاء الأشخاص في دوامة الندم والإحباط ويريدون الانتقام من المجتمع الذي رفضهم ويلجؤون إلى الاعتداء على غيرهم من الناس والدخول إلى عالم الإجرام من بابه الواسع.

* باحث في سلك الدكتوراة بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية عين شق الدار البيضاء ومحامي متمرن بهياة الدار البيضاء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *