وجهة نظر

هل سقوط أحلام الربيع العربي، كان المقدمة لفاشية عالمية جديدة …؟!

كم كان حكيما، الفيلسوف الروماني، إيميل سيوران، حين خلص إلى “أن حُبا يخيب، هو محنة فلسفية، تملك من الثراء، ما يتيح لها، أن تخلق من حلاق، نظيرا لسقراط..”.. !!

وحين هبت رياح الربيع العربي في أولى أيامها الشبابية السلمية، توجس أصحاب المصالح من فقدان مصالحهم، وصار الرجوع إلى حكمة ابن عربي ، في كتابه، “الفتوحات المكية، ج3، ص 345″، حيث يقول: ” فإن المفتري صاحب حق خيالي، لا حق حسي، فإنه لا يفتري المفتري حتى يحضر في خياله الافتراء والمفترى عليه، ويقيمه في صورة ما افترى به عليه.”، لذاك كم نحن اليوم في حاجة أكبر لِـ كانط Kant، “في صرامته العقلانية”، “في تحريم الكذب حتى بالنسبة لمجال السياسة”…؟ !!

هو النقد الذاتي، هو التأمل، هو استخدام العقل، هو مُساءلة الفكر، هو استحضار السؤال، والتنبيه إلى أن الشك عن مدارك، وبمعارف، هو من يُوصل إلى تشخيص المُعوقات، والمعوقات حيت تحضر بحجج، وتبرز بيِّنات، إذ لابد من التعبير عنها، ومُساءلة مُسبباتها دون وجس ولا وهن… !!

لو كان الذين يعيشون في الوطن العربي، يُحسنون القراءة، ولا يكتفون بالأوهام الموروثة، لو كانوا يتأملون بمعرفة، ولا يرددون إلا الموروث بجهالة، لو كانوا يحتكمون إلى روح العقل، ولا يتثبتون بخُبل الأنانية.. !!

لو كان الهم والهم، والإهتمام هو الإنسان في الوطن العربي والعالم، عوض هم الإثنية والطائفية والإيديولوجا والحزب، وربما العشيرة، ولا ننسى المُفرطات المُعيبات من الأمراض السلطوية والتسلطية، الغريزية والإستغلالية، والنفسية والمادية الأنانية المفرطة المتنوعة.. !! وكان الهم هو الإنسان، كإنسان، وكانت الوسيلة هو الإهتمام، بالكتب والكلمات والمعارف الحقة، الاهتمام بثراء الأوطان بالكد والعمل والعلم والتعليم والصحة والآداب والفنون والموسيقى والفلسفة والأفكار… وجعل نسيج المحبة بين الجميع، بلا تكبيل وبلا حدود وبلا إقصاء وبلا حرمان، وبلا لافِتَات وبلا شعارات وبلا خطابات كاذبة، وبلا برامج مُخادعة… !!

يقول إيميل سيوران، “لا أقاوم العالم .. أقاوم قوة أكبر.. ! أقاوم تعبي من العالم.”، لنتأمل وقوف القضاء الأمريكي، ضد مراسيم رئيس الولايات المتحدة، الغير المتماثلة لروح الدستور الأمريكي الذي وضعه الأباء المؤسسون لأمريكا، وعلى رأسهم الحكيم، ابرهام لنكولن وسط عرمرم من زعماء الحروب والإبادة وقتها من القوميين “البيض”؟؟ هل انبعث بعضُ ذالك العرمرم، مثل السيد ستيفن بانون أقرب مستشاري الرئيس السيد ترامب، الذي يُقال عنه من مقربيه، “حُلمه بتقوية نُفود أمريكا عبر العالم، وإلصاق مشاكل أمريكا الداخلية بالمهاجرين….الخ”… وتصدق قراءات صاحب كتاب، صادر في أمريكا أيضا، عن القادة السياسيين، والكذب والبروباغندا، وقول الشيء وضده، في السياسة العمومية للبلدان وفي العلاقات الدولية، دون معرفة الحقيقة للجمهور، الكتاب عنوانه: “لماذا يكذب القادة؟ = ? why Leaders lie”، وهو لمؤلفه، جون جي ميرشيمر John J. Mearsheimer، أستاذ العلوم السياية بجامعة مشيغين الأمريكية.

لنتأمل انسحاب الرئيس الفرنسي الاشتراكي من سباق الرئاسة، ووقوفه مع الشاب “الأسود Théo”، الذي تعرض للعنف البيّن والصلف، من طرف ثلاثي رجال القوة العمومية، عكس مرشحة اليمين المتطرف الفرنسي للرئاسيات “Marine Le Pen”، أما مرشح اليمين السيد فيون الذي استقصت عليه صحيفة ” Le Canard Enchainé”، ما أسمته بالفضيحة الأخلاقية، موضوعها “تعويض أفراد من عائلته بدون وظائف حقيقية”، وزاد بالتمسك بالترشيح لكرسي الرئاسة..؟! ولنتأمل انتفاضة الشعب الروماني ضد القانون الذي كان ينحو عدم تجريم ومتابعة المُفسدين.. !!

ولنتأمل قبلا أيضا، حصار شعب العراق، للتو بعد خروجه من حرب ثماني سنوات ضروس، وغزوه بجحافل “علوج” -على حد تعبير الوزير “الصحاف” وقتها- أكبر القوى العالمية، وتشريد وتهجير أهاليه ظُلما وعدوانا، وتقسيمهم إثنيا وعقديا، وهدم ما تبقى من أديرتهم ومؤسساتهم التي كانت تُوحدهم رغما عن اختلافاتهم، بل زرعوا لهم جماعات التطرف والقتل والغصب بينهم، كما زرعوها قبلا، في فسيطين، ليدوم هدر الدم وهدم اللآمال وهدم البُنيان.. !!

لنُعاين هروب، تهجير –قل ما شئت- أكثر من اثنا عشر مليون سوري من بلادهم، عدا غير المحصيين من القتلى والغرقى والضائعين والتائهين… !! ولنتابع جوع اثنا عشر مليون يَمَني، ولا حصر للقتلى.. !! فهل حق هنا قول الشاعر العربي أبو نواس ” وما الناس إلا هالك ابن هالك // وذو نسب في الهالكين عريق ؟ “، أم نقبل ونُقر بما أورده الشاعر الجرماني، فريدريش شيلر ” العدو الذي يقع، يمكنه أن يعاود الوقوف، أما العدو الذي تم إرضاؤه فقد تمت هزيمته حقاً.. !! “، غير أن سيوران يقول ” ختمت أمي رسالتها الأخيرة لي قائلة : بغض النظر عما يقوم به الإنسان , فسيأتي اليوم الذي يندم فيه على ما قام به، عاجلاً أم آجلاً.. !!”.
لنسائل، قبل قرن، اتفاق سايكس بيكو الذي تآلف حوله كل من وزيري خارجية انجلترا وفرنسا ومعهم روسيا أنذاك لولا الثورة البولشفية في 1917 التي حرمت الروس مما ينص عليه الإتفاق.. !!

لنسائل قبل عقد من الآن، وثيقة بول بريمر، سفير الإحتلال في العراق وسيد النطقة الخضراء أنذاك، بعد الغزو، في أبريل سنة 2004، وهي كـ “عقد اجتماعي”، يؤسس للدمقراطية كعنوان، لكنه في التفاصيل يبني الحيطان، وينش الملح على ضفاف الجراح بين أبناء الشعب الواحد، عوض أن يبحث، كيف يُؤلف بين مختلف مكوناته، وتكون حقا ديمقراطية في العنوان وفي التفاصيل أيضا.. !!
لنتابع الآن الحديث عن الدستور الذي يُقال عن إعداده، من قبل خبراء روس، لسوريا في مفاوضات أستانة عاصمة كازاخستان… !!وكأن أقدار بلاد الوطني العربي، يُؤسس لها من خارج بلدانها، ومن عقولٍ، غير عقولها أم أن المُراد هو اغتصاب عقولها تارة بالعطالة داخليا وتارة أخرى بتركها تبحث عن منفذ للهجرة والإبتعاد إلى الخارج …. ؟ !!

ألا يتفق كل هذا مع قول سيوران أيضا: ” حين يُشبع الطغاة شراستهم، يتحولون إلى رجال طيبين، وكان يمكن أن تعود الأمور إلى نصابها لولا غيرة العبيد، ورغبتهم في إشباع شراستهم هم أيضاً .. إن طموح الخروف إلى أن يتقمص دور الذئب هو باعث أغلب الأحداث، كل من ليس له ناب يحلم به، ويريد أن يفترس هو أيضاً.”… !!

أهو المشكل، لازال لم يُتخلص منه، في لاوعي “العربي”، أيا كان موقعه ومستواه، حين مواجهته لشيء، يبدو حمّالا لأوجه، في الخلخلة، حيث حتمية الضرب بـ “المطرقة النتشية” تبدو لازمة، لحلحلة الجامد، السّاكن، المُنطوي على المُعوقات الموروثة بجهل والمفروضة عن غريب قوي، أهو “العقل هذا”، الذي لازال يرزح، حسب أفلاطون، تحت وطأة الوجداني والانفعالي والغريزي، ألم تتلاشى بعدُ، في العقل العربي “المُفكر”، الأوهام، ويعمد “عُمقا” إلى العقل والعلم والعدل والمساواة والإيمان، بأن الحرية شجاعة ومكسب، والخوف قيد وعبودية، تتوارث حيث الوهن الفكري، والسلبية في الوعي بالقدرات بالذات، كذات تتساوى في أننا إنسان، ولافرق بين الإنسان كإنسان في شيء… إلا فيما هو فكر وخيال وإبداع، بما يخدم الإنسان في إنسانتيه، ويؤمنها ويحافظ عليها أكثر.. !!

بلا شك، حين نكون جزءا من مجتمعات متخلفة، تعيش في الجهل والتخلف، لابد وأن يُصبح التوجس من يُسر آليات التواصل، كما قال امبيرطو إيكو، حيث يُصبح، هذيان السكارى والمجانين “أفكارا”، تتناقل عبر آليات التواصل الاجتماعي، وُيجند لها، ويا للأسف، أشخاص مثقفون وواعون، ينقلون هذا التخلف ويروجون له، ممكن عن وعي، للتمويه، أو عن غير وعي، أي عن عدم إدراك، وفي كلتا الحالتين، هو العمى الحقيقي المطلق للمجتمع، حيث رؤاه الحقيقية من رؤى “مثقفيه”، وتصبح مقولة سيوران هي الأكثر واقعية، أي أنّ ” الطريقة الوحيدة لمواجهة الخيبات المتوالية، هي أن يعشق المرء فكرة الخيبة نفسها، إذا أفلح المرء في ذلك لا يعود يفاجئه شيء، يسمو فوق كل ما يحدث، يُصبح الضحية التي لا تقهر”..!!!

إنه سؤال الفكر السوسيولوجي والسياسي والأدبي العربي اليوم، بعدما أُسْقِطَت أحلام الربيع العربي من علٍ..وأجهضت أحلام الشعوب في الحقوق والحرية، ومُهّد لعدم احترام الاختيارات الحرة التي تبني الوعي وتُؤسس للكرامة، وتجعل من صناديق الاقتراع الفيصل التام لحرية مرشحيها ومترشحيها، وشُكك في الإعداد الموضوعي والقراءة الوجيهة والمحايدة لكل “العقود الإجتماعية”، أيا كان “المُحْتَكم إليها”، و”المُحكِّم بها”، قويا أو ضعيفا، فقيرا أو ثريا، بعيدا عن فكرة “، وثُبّت في الوعي الجمعي، اللاعدالة، أي “أن المُنتصر القوي هو من يُملي، والمنهزم الذليل هو من يخضع”… !!

سؤال وجيه جدا اليوم، عن مقدمات عينية للفاشية العالمية، في غياب تام لمبادئ ـ “النّبل السياسي”، والعالم من حولنا يتجه، نحو “الشعبوية السياسية”، والانغلاق داخل الحدود”، ويُبعث “التعصب الهُوياتي”، ويُوئِدُ الإنفتاح، ويُببرر ما يسمى ب “صدام القوميات”، أو ما بدا جليا، بسحق الدول المدنية العربية قبلا، حيث هي كانت الأضعف فتوة في أعمدة مدنيتها، ربما كانت المُقدمة، لترتيب الأوضاع –باستغلال أموالها وأزاماتها، حول ما سيأتي من بعد، من مُخططات القوى المُهيمنة على خيرات وشعوب العالم، كأنه، في عهد أوباما، كان انسحابا بالتوكيل، لتعميق الهدم والجراح تكتيكيا، والتواري عن حلفاء أمريكا في البؤر المشتعلة، كان توهيما، وبعدها بروز القوميين الإنجليز”الذين تذمروا من الأجانب في بلدهم”، وخروج بريطانيا من الإتحاد الأوربي، ومعها صعود الأحزاب القومية في الدول الإمبريالية العالمية وعلى رأسها، أمريكا، وبروز الجمهوري “ترامب”، المنادي بـ “أمريكا أقوى وللأمركيين فقط”، ضدا على كل من كان يستهين بشعبويته، وبالرغم من عدم رضى المؤسسات الكبرى الأمريكية عن برنامجه.. !!

هل كل ما حدث خلال ارتجاجات ما سمي بـ “الربيع العربي”، قد جعل أقطاب الفكر السياسي العربي، ومراكز البحوث الفكرية”، و”انتليجنسيا أقطاب الحُكم”، تطرح فيما تطرحه، وتتناول فيما تتناوله، دراسة وتحليلا ونقاشا، بل وتستجمع كل المعطيات، غثها وسمينها، لتجعلها مخبرية، ثم لتغربلها، وتتناول الإقصاءات المتعدّدة، والمتواليات المبرمجة والطارئة، التي جعلت من الوطن العربي، وطن خراب بامتياز، ورقعة دمار عالمية باستمرار، وثروات باطنها لغير أهاليها على الداوم، والخيبات والخسارات لصيقة حتما بالإنسان المنتمي لها بكل اقتدار… !!

أليس هذا هو ما يجعلنا مرتبكين لعديدي السقوط العربي، ويجعلنا جاثمين متأملين، لما قاله الفيلسوف الروماني سيوران “الأوراق الأخيرة تسقط متراقصة، لا بد من جرعة كبيرة من فقدان الحس، كي نواجه الخريف”… !!