وجهة نظر

ومات معلمي الأول..

لم يكن يرى إلا ذاهبا إلى المسجد، أو قادما منه..كان إماما للمسجد العتيق بمدينة جرادة.. المسجد الذي كنا نسميه – أهل جرادة – ”الجامع الكبير“.. وإمام هذا المسجد الكبير، هو معلمنا الأول، صاحب القلب الكبير، الحاج سي محمد رحمه الله..

قبل أن أبلغ سن السادسة، أدخلت إلى ”المسيد“ الصغير بجانب لـ ”ديور المينة“، الحي الذي كان يضم منازل متواضعة يسكنها عمال منجم الفحم الحجري.. و“مسيد“ معلمنا الأول ، كان جسرنا إلى عالم الأبجدية، وإلى كتاب الله..

لا أذكر أنه نهر أحدا، أو ضرب أحدا.. ما تحتفظ به الذاكرة عن تلك الأيام الطيبة الجميلة قليل جدا..
لكن ما يحتفظ به القلب كثير ، وكثير جدا.. كانت أسعد أوقاتنا عندما نعلم أنه هو الموجود داخل ”المسيد“، وليس بعض أولاده الذين كانوا يعوضونه خلال غيابه..

بوجهه الملائكي البريء، وبأسلوبه اللطيف، سلب عقولنا الصغيرة فاستمعت لدروسه، مثلما سلب قلوبنا البريئة فاستمعت لنداء المحبة الذي كان لا يبخل به علينا متى لقينا.. وبفضل جهوده، وجمال أدبه، تعلمنا أشياء كثيرة في وقت قصير..

أذكر أن معلمتي الفاضلة في السنة الأولى ابتدائي ”باي زبيدة“، دهشت وهي تراني أخط الكلمات التي تطلبها مني بسرعة، ومن دون أخطاء..

ولا زلت أتذكر أول كلمة كتبتها على السبورة السوداء في ذلك القسم بمدرسة ابن سينا للبنين.. كِتَابُُ !
أدبه وحبه لم يكن حكرا علينا نحن تلاميذه، بل كان يغمر به أهل المدينة كلهم..

لم ير أحد، ولم يسمع، أن الفقيه سي محمد دخل في صراع، أو شتم أحدا، أو سبه.. لا أحد يستطيع أن يشهد أن الفقيه اعتدى على أحد.

قلت لكم إنه لم يكن يرى إلا ذاهبا إلى المسجد، قادما منه..

حتى إن كثيرين كانوا يعلمون أن وقت الصلاة المفروضة قد اقترب بمجرد رؤيتهم له وسط الشارع !

حتى خلال ليالي الصقيع والجليد الجرادي، لم يكن يترك الصلاة في المسجد.. وما أدراك ما ليالي الصقيع في جرادة، حيث تنزل درجة الحرارة إلى ما تحت الصفر بكثير.. في تلك الليالي يصبح الفراش الدافئ هو الجنة بعينها.. ويصبح الخروج من الفراش هو الجحيم بعينه..

بله الاستيقاظ ومغادرة الفراش وإسباغ الوضوء، والخروج من البيت !!

المياه في جرادة في ليالي الشتاء تلك كانت تتجمد داخل الأنابيب الحديدية، وكانت الأمهات يصببن المياه المغلية على أنابيب الحديد لتفك ”حصار“ المياه المتجمدة.. ”حمامة المسجد“، سي محمد، لم يكن ليتوقف عن الصلاة بالمسجد إلا لظرف قاهر.. بل وقاهر جدا..

وحتى الاعتداء الغاشم الذي تعرض له على يد أحد التافهين المجرمين أثناء ذهابه لصلاة الصبح ذات عام، لم يمنعه من بيت الله..
وكذلك الكسر الخطير الذي تعرض له..

أذكر ذات صباح أنه لقيني وأنا عائد من المدرسة خلال مرحلة الابتدائي بينما هو متوجه إلى المسجد طبعا..
لقيني، فقبلت يديه، وفرح بي وسألني عن دراستي، ثم ما لبث أن فتح محفظ نقوده، وأضاء وجههه الكريم وهو يقول لي باسما: هذا كل ما فيها.. إنه درهم، وهو من نصيبك !

مضت السنوات، وكبرنا وشغلتنا الحياة، ولكن الحب والتقدير لهذا الرجل لم يكن ينقص.. بل كان يزيد.. ولكم كانت سعادتي بالغة عندما رأيته في الصف الأول من مسجد الحي، وكنت أظن أن الكسر الخطير أقعده الفراش نهائيا.. وقبلها رأيته متوجها إلى مصلى المدينة بجلبابه الجديد الجميل ليؤدي صلاة العيد..

ألم أقل لكم إنه لم يكن يرى إلا ذاهبا إلى المسجد، أو قادما منه؟

قبل أسابيع قليلة، ارتقت روح ابنه البكر الذي لم يحمل فقط نفس اسم أبيه، بل حمل كثيرا من خصاله وأخلاقه..

أحسست وقتها بمدى الألم الذي يعتصر قلب معلمي الأول، والأنباء الواردة من بيت العزاء لم تخالف ظني..

فابنه، سي محمد، كان الذراع اليمنى لأبيه، وكان خادمه المطيع، وصديقه المقرب، والمثل الذي يجسد بر الابن بأبيه، في مرحلة الشباب، كما في مرحلة الشيخوخة..

وعندما مات الأول.. كان كثيرون يعلمون أن الثاني.. الأب.. لن يعمر طويلا !
والأعمار بيد الله..

ولم يطل الأمر.. فهذا الصباح انتشر الخبر الحزين، مات معلمي الأول، الحاج الفقيه سي محمد بقلول رحمه الله..

أجيال كثيرة عاشت مع هذا الرجل، وكلها تنعاه، ولا تذكره إلا بما رأت منه..

رحمك الله يا معلمي الأول، وغفر لك، وتقبلك في عليين مع النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين.. ونعم الرفقة تلك.. وتستحق أن تكون هناك.. نحسبك كذلك، ولا نزكيك على الله.. وجزاك الله خير ما جزى معلما عن تلميذه.. عفوا.. عن تلاميذه.. و“إنا لله وإنا إليه راجعون“

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *