وجهة نظر

القدس مقابل الحكم

” أرسل الملك الكامل رجاله، فنودي بالقدس بخروج المسلمين منها لتسليمها إلي الفرنج… فاستعظم المسلمون ذلك، و أكبروه، ووجدوا من الوهن و التألم مالا يمكن وصفه…فاشتد البكاء و عظم الصراخ و العويل، و حضر الأئمة و المؤذنون من القدس إلي مخيم السلطان الكامل، و أذنوا على بابه في غير وقت الأذان “. هكذا صور لنا المؤرخ تقي الدين المقريزي (ت 845ه ) حال العرب و المسلمين بعد تسليم السلطان الأيوبي محمد الكامل القدس للصليبيين بعد أقل من أربعين عاما على استرجاعها من طرف عمه صلاح الدين الأيوبي . فكيف حدث ذلك ولماذا ؟ هما سؤالان سنحاول الإجابة عنهما في هذه السطور .

عمد صلاح الدين الأيوبي قبل وفاته على تقسيم مملكته بين أبنائه وإخوته، واحتفظ لابنه الأكبر وهو الأفضل نور الدين علي بدمشق والساحل و بيت المقدس، أما الابن الثاني وهو العزيز عثمان فقد ولاه حاكما على مصر، في حين ولي الابن الثالث وهو الملك الظاهر غازي حلب وشمال بلاد الشام، أما أخوه العادل فقد حكم الكرك والأردن والجزيرة وديار بكر، وكلها كانت بالنسبة له اقطاعات ثانوية لا تتناسب مع مكانته. ويرجع بعض المؤرخين ذلك إلى خشية صلاح الدين من أطماع العادل وطموحه السياسي، وهو ما تأكد مع مرور الأيام، إذ لم يمر وقت طويل على رحيل صلاح الدين الأيوبي حتى بدأ العادل في العمل على إثارة المنازعات بين أبناء أخيه وتحريض طرف ضد الطرف الآخر حتى تمكن في النهاية من بسط سيطرته على كامل بلاد مصر والشام وأصبح هو السلطان الحاكم ، واستعان في ذلك بأبنائه الثلاثة، فأناب ابنه الكامل محمد حكم مصر، وجعل المعظم عيسى في دمشق، و أعطى الأشرف موسى حران والأوحد ميارفارقين،واحتفظ لنفسه بنوع من السيادة العليا .

نجح العادل في إعادة ترميم البيت الأيوبي بعد أن كادت أعمدته تتهاوى بسبب الحروب الداخلية بين أبناء صلاح الدين، بيد أنه كان عليه أن يحمل عبء مواجهة الصليبيين الذين استغلوا ضعف الدولة الأيوبية وعملوا على إرسال حملة صليبية جديدة، لكن هذه المرة ليس باتجاه بيت المقدس وإنما نحو أرض الكنانة، حيث أدركت الكنيسة منذ الحملات الصليبية الأولى أن الأيوبيين لم يستطيعوا تحرير بيت المقدس إلا بعد سيطرتهم على مصر، كما أن الاستيلاء عليها سيمكنهم من استغلال مواردها الاقتصادية، هذا فضلا عن أن عزلها عن الشام هو الضمان لبقاء الصليبيين وحماية إماراتهم في الشام.

تجددت الدعوة في الغرب بعد إخفاق الحملة الصليبية الرابعة في تحقيق الأهداف التي قامت من أجلها، وعقد البابا إينوسنت الثالث مؤتمرا دينيا في روما سنة 1215م دعا فيه إلى شن حملة صليبية جديدة على المشرق الإسلامي، واختير الملك حنا دي برين قائدا لها، وحدد أول يونيو عام 1218م موعدا لإبحار الحملة . وصلت الحملة دمياط في أواخر سنة 1218م وفرضت عليها حصارا دام ستة عشر شهرا انتهى باحتلالها ، لكن عجز الحملة على التوغل داخل الأراضي المصرية، فضلا عن شراسة المقاومة التي أظهرها الشعب المصري و أبناء العادل حال دون تحقيق أهدافها .

و على الرغم من التحالف والتضامن والصمود الذي ظهر بين أبناء العادل أثناء الحملة الصليبية الخامسة، إلا أنه سرعان ما انفرط عقده في نهاية عام 1223م نتيجة لأطماع المعظم عيسى الذي أراد أن يوسع مملكته على حساب أبناء عمه، وزاد من حدته استغاثة الأطراف المتنازعة بقوى خارجية، حيث استنجد المعظم عيسى بالسلطان جلال الدين سلطان الدولة الخوارزمية، واستنجد السلطان الكامل بالإمبراطور فردريك الثاني، إمبراطور الدولة الرومانية المقدسة مقابل أن يتنازل له عن بيت المقدس وجميع فتوحات صلاح الدين الأيوبي بالساحل الشامي .

وجد الإمبراطور المغضوب عليه من طرف الكنيسة في دعوة الكامل له فرصة مواتية للقيام بحملة صليبية سادسة بالرغم من معارضة الكنيسة لها، فخرج على رأس قوة عسكرية لا تتجاوز خمسمائة فارس متوجها إلى عكا وفي نيته الاستيلاء على بيت المقدس من الكامل، لكن سرعان ما أصيب بخيبة أمل عندما وطأت قدماه ساحل عكا، إذ وجد موقف الكامل قد تغير بوفاة أخيه المعظم عيسى وأنه لم يعد بحاجة إلى مساعدته مادام الوضع قد استقر في البيت الأيوبي، لكن خوف الكامل من تحالف الإمبراطور مع بقية الجموع الصليبية بالشام ضده عجل بتوقيع معاهدة يافا سنة 1229م بين السلطان الأيوبي الكامل محمد والإمبراطور الألماني فريديرك الثاني، حصل بمقتضاها هذا الأخير على ما جاء من أجله من غير أن يدخل معركة أو يخسر رجلا واحدا .

ارتاع العرب والمسلمون جميعا لتوقيع اتفاقية يافا ولتفريط الكامل بهذه السهولة في تلك المدينة المقدسة بعد أن عانى المسلمون في تحريرها، وانطلقت الصيحات في كل الأقطار العربية والإسلامية تندد بهذه الفعلة الشنعاء، وتعرض الكامل لتأنيب الفقهاء والعلماء. وفي هذا الصدد يصف المؤرخ الفلسطيني خليل عثمانة موقف المسلمين والمسيحيين بعد الاتفاقية قائلا : “أثار تسليم مدينة القدس للفرنجة موجة عارمة من السخط والأسى في العالم الإسلامي، وكانت ردة الفعل شديدة، خصوصاً عند أهل المدينة، ولعل من المفارقة أن نشير إلى ما أحدثه تسليم مدينة القدس وإعادتها إلى حظيرة المسيحية من استنكار واستياء يصل إلى درجة الغضب لدى الأوساط الفرنجية، الدينية منها والدنيوية في بلاد المشرق، فرأى بعضهم أن كرامة النصرانية كانت تقضي بأن تنتزع المدينة عنوة بحد السيف من أيدي المسلمين لا عن طريق التذلل التي توسل بها الإمبراطور إلى الملك الكامل، وكانوا يرون أن استيلاء الصليبيين على المدينة دون استيلائهم على مقدسات المسلمين أمر مرفوض لا تقبل به نفوس الفرنجة الأبية، وذهبت فئة صليبية أخرى إلى القول بأن الحصول على القدس من دون استعادة الكرك والشوبك والأردن لا قيمة له، ولو كان هذا مقبولاً لقبل الصليبيون ما عرضه عليهم المسلمون أيام حصار دمياط “. وحين أدرك الكامل أن الرأي العام كله ضد قراره برر ذلك بكونه لم يعط الصليبيين إلا الكنائس والبيوت المخربة وأن المسجد الأقصى بأيدي المسلمين .

تلك كانت هي الخطوط العامة لحدث تاريخي عنوانه الخيانة وبيع المقدسات من أجل البقاء في كرسي الحكم، علنا نستخلص منه بعض الدروس والعبر حتى لا يعيد التاريخ نفسه من جديد .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *