وجهة نظر

لجوء الأمير الخطابي إلى مصر ولعبة الشطرنج بين الحركة الوطنية وفرنسا

عبد الكريم الخطابي، والملك محمد الخامس

يوسفي الكتاني (*)

نشر مؤخرا موقع حركة التوحيد والإصلاح (2) مقالا بعنوان: في إطار إحياء أعلام المغرب “الدعوة إلى استقلال الفكر في الإسلام” كتاب علمي للعلامة محمد إبراهيم الكتاني (3). وهو تنظير يستمد مادته من التوجيهات القرآنية والمدرسة النبوية بغية التأصيل للاستقلال الفكري وإحياءه باعتباره جواب نظري على الكثير من إشكاليات الحاضر وتحديات المستقبل، ونموذج عملي تجسد فعليا في سلوك رواد الحركة الوطنية المغربية وإليه يرجع كبير الفضل في النجاح المدهش الذي سجلته على الاحتلال.

وبهذه المناسبة شعرت بوجوب تقديم بعض الوقائع من الحركة الوطنية، تلقيتها مباشرة من والدي – صاحب كتاب استقلال الفكر – من شأنها أن تبين بعض خصوصيات هذه الفترة المهمة من تاريخ المغرب، وقد لاحظت مرارا عدم وضوحها عند المغاربة، شبابا وشيوخا.

في العشرينيات من القرن الماضي، كانت وضعية المنطقة ليست بالهينة: المغرب تحت الحماية والجزائر مستعمَرة منذ حوالي قرن ونصف. وموازين القوى الحربية أضحت لصالح الاستعمار، خصوصا بعدما فضل المجاهد الأمير محمد بن عبد الكبير الخطابي الاستسلام والحفاظ على أرواح الأبرياء.

فنشأت الحركة الوطنية بعد نفي الأمير الخطابي متأثرة به ومستفيدة من تجربته ومبدعة منهجا جديدا بناء على فكر مستقل تربى عليه قادتها في جامع القرويين على يد ثلة من المجددين نذكر من بينهم الشيخين بلعربي العلوي وأبو شعيب الدكالي الذَين تأثرا بالثورة الفكرية التي نشأت في الشرق في القرن التاسع عشر.

وأصبح من الضروري آنذاك التفكير في منهج مختلف عن أساليب المقاومة المسلحة التي برزت في البلاد الإسلامية عامة وفي مختلف جهات المغرب خاصة، دون الوصول إلى زعزعة استقرار المستعمر.

شرع قادة الحركة الوطنية في عمل تدريجي لتنفيذ منهج شمولي يهيٍئ كل الظروف اللازمة لترسيخ النضال الفعال والمؤثر على سياسة المستعمر، مما يضم توعية الشعب وإشراكه في مختلف المراحل من خلال الخلايا السرية، وخصوصا التمدرس الحديث للشباب بحيث كان يستحيل استدراك الفوارق المعرفية مع المحتل دون قفزة نوعية ممتازة لمكون الشباب -ذكورا وإناثا- فأُنشأت المدارس الحرة لتركيز القيم في الابتدائي وآمن محمد الخامس رحمه الله بأهميتها فشجعها بل أصبح رائدها.
أما تدريس الفتيات فكان في أول الأمر ممنوعا من طرف إدارة المستعمر، فتعلم الفوج الأول سريا قبل أن تتراجع الإدارة على المنع.

التحقت أولى الفتيات حينئذ مباشرة بالتعليم الثانوي وأذكر من بينهن الدكتورة زهور الأزرق التي أتمت تعليمها بالسربون حسب ما جاء في المطوية التي هيأتها اللجنة التنظيمية – من حزب الاستقلال – لحفل تأبين المرحومة زهور الأزرق.

فتخرجت من بينهن العالمات، وأخرى تأثرن في تعليمهن الثانوي الفرنسي ثم الجامعي بالفكر الأوروبي الليبرالي أو اليساري. فأصبحت المرأة المغربية مبكرا أستاذة ومحامية وإلخ…

وشاعت فكرة تمدرس الفتيات وأصبحت طبيعية بعد أن كانت غير عادية بل مرفوضة حتى من طرف المجتمع المغربي، كما جاء في كتاب “أحلام نساء” بالفرنسية لفاطمة المرنيسي (4)، على أن أكابر عائلة المرنيسي اجتمعوا حينها للحسم في السماح أم لا للطفلة فاطمة بالالتحاق بمدرسة مولاي إبراهيم الكتاني.

ثم في أواخر الثمانينيات زارت الأستاذة الجامعية المرنيسي أستاذها محمد إبراهيم الكتاني وطلبت منه –بفكر المتخصصة في نضال النساء، رحمها الله– ما السبب في حرص قادة الحركة الوطنية، وكلهم ذكور خريجي القرويين، على تكوين الفتيات؟ فأجابها على أنه الوعي باستحالة النهوض بالمجتمع، ونساءه –مربيات الأجيال– أميات.

ثم هاهن الأمهات حاليا – وقد عشن جيل الصحوة – كثير منهن تتكلفن بدعم تعليم أبنائهن بل حتى أبناء جيرانهن.

نسق قادة الحركة الوطنية مع جمعية علماء الجزائر ففتحت هنالك المدارس الحديثة في الثلاثينيات مما كان له بدون شك تأثير على حوادث مسار تحرير الجزائر مع جيل متخرجي هذه المدارس، بلغ أشده في الستينيات بعد أكثر من قرن ونصف من المحاولات الجهادية المنحصرة على المعارك المسلحة ضد الاستعمار، والتي لم تحقق هدفها المنشود.

وكانت الحركة الوطنية تنسق العمل باستمرار – ومنذ بدايتها – مع جلالة الملك محمد الخامس وكان بينهما تبادل كامل للثقة.

وفي استجواب بجريدة العلم (5) أشار مؤلف كتاب استقلال الفكر إلى تركيزه على هذه الحقيقة مع رفقائه في جمعية علماء الجزائر حيث كان مبعوثا من حزب الاستقلال للتنسيق معها حول النقط الأساسية كالتدريس الحديث للأطفال والتفاعل مع الانخراط الفعلي الخالص لجلالة محمد الخامس في الكفاح ضد الاستعمار.

وفي هذا السياق إليك أخي القارئ مثال حي للعبة الشطرنج التي تميزُ أسلوب الحركة الوطنية: قد بلغ إلى قادة الحركة نبأ ترحيل محمد بن عبد الكريم الخطابي إلى فرنسا وأن الباخرة التي تنقله ستقف في طريقها بمصر في ميناء السويس ثم بور سعيد – كما جاء في مقال مفيد وغني بموقع دليل الريف(6) مبني على مراجع موثقة من النبذة الذاتية للكاتب والصحفي الفلسطيني محمد علي الطاهر- فبادر إلى لقائه ثلة من رجال الحركة الوطنية لإقناعه بضرورة قبول اللجوء السياسي في مصر الشقيقة. ومما جاء في المقال أن عملية التهريب كان يتزعمها الملك فاروق رحمه الله شخصيا، لكن إقناع الأمير بقبول فكرة اللجوء السياسي كان من اللازم أن ينبني على دواعي وقيم عليا كالمصلحة العامة لبلاده. وقد لخص والدي حديث الوطنيين مع الأمير على الباخرة بما مفاده: أيها الأمير نحن من يجاهد الآن في ساحة الكفاح ونعمل بتنسيق تام مع محمد الخامس بل إن خطتنا بأكملها مبنية على هذا التوافق التام معه. فإذا ما أنت وصلت إلى فرنسا ستستغلك رئاستها للضغط على جلالته وتهديده باستبداله بك إذا رفض الاستجابة لمطالبها وربما ستفشل خطة الحركة الوطنية بأكملها، فاستجاب رحمه الله تقديرا للحركة الوطنية ولجلالة الملك محمد الخامس. كما أن مقال محمد علي الطاهر يُذَكر بأن هذا الأسلوب الماكر سبق لفرنسا أن استعملته لإبعاد السلطان المغربي من الحرب التي شنتها في القرن التاسع عشر على الأمير عبد القادر بالجزائر، وصدق رسول الله ص حيث قال “الحرب خدعة”.

ثم تكَون جيش التحرير بالمغرب وبقي تنسيق قادة الحركة الوطنية مع محمد الخامس جاريا، وجاء نفيه رحمه الله مما أدى إلى ثورة الملك والشعب وإلى واستقلال البلاد.

ومما قال لي والدي رحمه الله – معلقا على هذه الأحداث – “لما أخذت فرنسا محمد الخامس إلى المنفى شعرنا بخطئِها وبقرب انتصارنا. إنا كنا نلعب الشطرنج مع فرنسا”. وبعد الاستقلال كانت رقعة الشطرنج دائما تصاحب الشاي بعد وجبة الغداء في منزلنا.

ومما جاء في الكتاب “وبسبب هذا الاستقلال في التفكير الذي يتسم به قادة الحركة وموجهوها، وبسبب فقدان هذه العقلية المستقلة؛ عجز من عجزوا من مقلدة القديم أو الحديث، أو الشرق أو الغرب، عن فهم الحركة المغربية، ومسايرتها، والتفاعل معها. كما أن هذا الاستقلال الفكري عنصر أساسي من عناصر شخصية محمد الخامس البارزة والتي إليها يرجع سر نجاحه وتوفيقه في أعماله وحياته، وتغلبه على كثير من المشاكل والصعاب”.

هذا الأسلوب في الكفاح كان فريدا من نوعه لكنه لم يستوعبه العلماء المقلدين بل منهم من تعامل مع المستعمر ضد محمد الخامس وفي الكتاب مقطع خاص حول التعريف بالخيانة وبحكمها وجزائها الشرعي. ومن تابعي المقلدين فكريا من يهاجم الحركة الوطنية إلى الآن ويجرؤون على الطعن في أسلوب النضال آنذاك، ناكرين مفعوله على المغرب وعلى الأمة الإسلامية، عِوض تعريفه لشباب المغرب العربي قاطبة ليعتزوا به وليقتدوا بقادته.

هذا الأسلوب في الكفاح كان فريدا من نوعه لكنه لم يستوعبه كذلك شباب الاستقلال المتأثر بأفكار الغرب اليسارية والثورية مما أدى إلى الاضطرابات السياسية في الستينيات، بينما كان يلجئ قادتها آنذاك إلى فرنسا، فتقرب الملك الحسن الثاني من خبراء ومرشدين فرنسيين – وهو مثل ما تنبأ به الصحابة الكرام أبي مسعود، وحذيفة بن اليمان في قضية شرب الخمر المذكورة في الكتاب.

إن أسلوب الحركة الوطنية منبثق من نظام استقلال الفكر الثابت في أصول الدين الإسلامي وهو ما يؤصل له كتاب “الدعوة إلى استقلال الفكر في الإسلام” الذي يؤكد بإلحاح أن الاستقلال الفكري هو الطابع الأصيل في المجتمع الإسلامي، وأن التقليد هو الانحراف والخروج عن الصراط المستقيم، وأنه ليس أدل على ذلك من القرآن الكريم ومن الوقائع التاريخية العملية التي تضمنتها كتب السنة النبوية.

ومما جاء في الكتاب: “…لكن بقي التفكير الديني في المجتمع الإسلامي في جمود طويل حتى جاءت الثورة الفكرية العنيفة التي أحدثها الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله فنسف بها أسس التقليد والتعصب والجمود، وأعاد الفكر الإسلامي إلى حظيرة القرآن الكريم، بعد أن أعرض المسلمون عنه القرون الطوال، مما هيأ للفكر الإسلامي المعاصر أن يربط حاضره بماضيه المجيد، ويساير التطور الحديث في دائرة روح الإسلام وأسسه الخالدة، في غير جمود ولا جحود”. حتى قال الباحث الجزائري الأستاذ مالك بن النبي في رسالته التي ترجمت للعربية باسم: “مستقبل الإسلام”: “إن العالم الإسلامي في الوقت الحاضر، في كل ما حققه وما يسعى لتحقيقه، من صنع الشيخ محمد عبده ومدرسته”.

وسنحلل في مقال لاحق بإذن الله نظام استقلال الفكر في الإسلام ومكوناته وآثاره على الفرد وعلى المجتمع.

وأخيرا يحق للقارئ أن يسأل عن لعبة الشطرنج في السياسة المعاصرة. هل التيارات المناهضة التي كانت في الساحات الأفغانية والمصرية وأخيرا السورية – مثلا- أتقنت لعبة الشطرنج في مواجهتها للقوى الإمبريالية المهيمنة على المنطقة بأكملها؟

أما زالت لعبة الشطرنج مع فرنسا جارية حتى الآن في المغرب العربي؟ أم تغير أسلوب اللعب؟

والأهم هو كيف ستصبح قواعد اللعب الدولية بعد جائحة كورونا، طالبين اللطف من العلي القدير.

المراجع:
هكذا لقبهما الأكاديمي المرحوم عبد الكريم غلاب في كتابه الماهدون الخالدون – مطبعة النجاح 1991
:(1)

إحياء أعلام المغرب.. “الدعوة إلى استقلال الفكر في الإسلام” كتاب علمي للعلامة محمد إبراهيم الكتاني


(2) :
الدعوة إلى استقلال الفكر في الإسلام من الكتاب وسيرة الرسول العلمية وصحابته الكرام. مطبعة شمس برانت – الرباط – 2018
(3) :
Rêves de femmes, Fatima Mernissi, Albin Michel 1998
(4) :
جريدة العلم بتاريخ 25 أبريل 1983
:(5)
https://dalil-rif.com/permalink/6905.html
:(6)

*يوسفي الكتاني – أستاذ بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة، شعبة الرياضيات كلية العلوم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *