وجهة نظر

في التوريث الاستراتيجي للقضية الوطنية

أصبحت القضية الوطنية، قضية انتماء ومصير، وبالتالي فهي عنوان الانتماء للوطن والمواطنة الحقة ويأتي التنظيف الاستراتيجي لنقطة العبور الكراكارت، تتويجا لمسارات المغرب في تسوية هذا الملف عن طريق الخيار الاستراتيجي الذي طرحه المغرب ، وهو حكم ذاتي تحت السيادة المغربية .

ومن اهم مؤشرات النجاح للديبلوماسية المغربية هو هذا التحول النوعي الذي عرفته الديبلوماسية المغربية وانفتاحها على المجتمع المدني والفاعلين سواء داخل المغرب او خارجه، فالتحول السياسي الذي عرفه المغرب نحو الديمقراطية عامل أساسي وقوي لتغيير الارادات والعقليات سواء ممن كان يروج لأطروحة الانفصال او حتى من تبث خطأه وراجع مواقفه السياسية من انساق تؤثت المشهد السياسي المغربي في ظل التجاذبات القديمة بين مؤسسات الدولة.

اذن هذا التحول الذي عرفه المغرب لا بد ان نستثمره في ترافعنا ودفاعنا على السيادة المغربية التي لا تقبل التجزئة ،ولذلك نحن بحاجة الى وضع استراتيجية واضحة المعالم للدفاع عن المغرب وتوضيح زيف وبطلان ادعاءات بعض المغرر بهم من أبناء المغرب بالداخل او بالخارج ،ولذلك يبدأ التوريث الاستراتيجي للقضية الوطنية العادلة من ثلاث مداخل أساسية ،وهي الانسان والتراب والوقت ،وحينما اتحدث عن الانسان كمحور استراتيجي فإننا نحتاج الى انجاز مشروع مجتمعي وطني لإعادة الاعتبار لكل ما هو له علاقة بالمغرب ،أي ان الانسان المغربي بتاريخه وجذوره وتراثه وافكاره ،التي تحتاج الى الدراسة والتحليل وهذه كلها بحاجة الى مؤسسات علمية تنفتح على الانسان المغربي في التعريف والمحاكاة والتمثلات والعلاقات الإنسانية .

الانسان والانتماء

أخطأت الايديولوجية الشوفينية في تبنيها لخيارات الانفصال والتحرر من التبعية، حينما راهنت على التفوق العسكري ونسيت ان الانسان هو من يصنع النصر ومن يصنع الهزيمة ،فغياب المعرفة والتكوين والتنشئة تجعل هذا الانسان الموجود سواء بالداخل كمواطن حر يمتثل لنظم وقوانين سارية عليه أو في مخيمات وجيتوات تحت القيد العسكري ،كما يوجد بعض الاخوة المحتجزين بتندوف ،او في مناطق متنازع عليها كسبتة ومليلية ،او باقي الجزر المتوسطية ،فالمغرب في دفاعه على السيادة الوطنية لانقول اخطأ في الاستراتيجية الدفاعية ولكن قد يكون غلب جانبا على جانب ،ولذلك نحن بحاجة الى جميع مدخلات بناء مورثات الانسان القادر على الدفاع على ارضه بكل تفاني وايمان .

مسالة الانتماء هي مرتبطة بعامل أساسي يتعلق بالمعرفة بالأنساب والأصول والمناطق، وهذا المدخل الأساسي يعطي قوة وحجة وبينة لمعرفة أحوال الناس والتعرف على هوياتهم وثقافاتهم.

فبناء الانسان كعمل لا تستطيع الدولة وحدها ان تقوم به بل هي في حاجة الى مؤسسات أخرى تساهم بدورها في هاته العملية مثل الاسرة والمدرسة، فالمجتمع المدني الحاضر بثقل أساسي في عملية التنشئة الاجتماعية وفي بناء مورثات الهوية الحضارية، يحتاج الى عامل التحفيز وفسح المجال للدفاع عن الانتماء بطريقته الخاصة وبوسائله المدنية والتي هي بدورها عامل حاسم في معادلة الدفاع عن الأرض والوطن.

قد تقوم مؤسسة علمية بصياغة وثيقة تاريخية او تحقيق في مخطوط تاريخي موجود في ركام خيمة صحراوية او في زاوية لا يعلم عنها أحد، وتحقيق هذا المخطوط وإخراج الاحكام والوقائع التاريخية يدل على وجود أثر حضاري في تلك المنطقة ، ولذلك فالتراث الإنساني هو اهم ما يمكن ان يورث للناشئة التي تتشوق الى الحرية والتقدم والنماء والتكامل فيما بينها .

فالأجيال التي ستكون لها الكلمة من بعدنا لن تؤمن بالتجزيئ أو الخصوصية الانكسارية المبنية على تجزيئ المجزء في ذهنية المتلقي ، ولكن تؤمن بمشترك الانسان وتمثله للحضارة المغاربية التي ماهي الا في العمق هوية المتلقي الغائبة عنه في وعي او لا وعي .

ارتباط المغرب منذ الهبة الأولى لحركات التجديد الديني فيه من قلب الصحراء ، والتي هي مكان السكون والصفاء الروحي وقرب الى الفطرة ولذلك جل رواد وزعماء الإصلاح الذين اسسوا دولا حكمت المغرب كانوا من صحراء المغرب سواء انتماء عرقيا او جغرافيا على اعتبار ان مفهوم الصحراء المجالي يعتبر ذاك المكان الخالي أو الهادئ والواسع .

ولذلك فمؤسس الدولة العلوية جاء من صحراء المغرب من تافيلالت والتي هي قلب الصحراء الروحي والتي امتدت الى أرجاء المغرب، هذا الانتماء العريق نحن بحاجة لإعادة المصالحة مع تراثنا وقراءته قراءة متأنية نفهم اننا مع جذور تاريخية أصيلة وانتماء لحضارة مغربية تأسست منذ قرون.

كما ان مفهوم الدولة الحديثة تأسس مع المرابطين الذين اسسوا دولة قوية بالمغرب والاندلس وزاد الموحدين من تحصين هاته الدولة وتنمية مؤسساتها الحضارية والوظيفية، وليبرز اشعاعها الإسلامي في العالم الإسلامي، شانها شأن السعديين والعلويين .

وقد يسأل البعض لماذا التعريج على هاته الدول التي تعاقبت على المغرب، لأننا بحاجة لنفهم طبيعة المغرب التاريخية وقوته الاستراتيجية في المنطقة، لأن المورثات الحضارية التي تضمن استمرارية الدولة وتجددها مازالت قائمة وفي ثبات، وتحتاج الى التوريث الاستراتيجي الذي ما هو الا وسيلة ضمان وآمان لهاته الأسس التي بنيت عليها الدولة المغربية .

التراب لا يتجزأ

يجب ان نعلم الأجيال اللاحقة ان التراب مادة أساسية من المواد التي تكونت منها الحضارة الإنسانية ،ورغم التقسيم الاستعماري للشعوب في تنقلها وتفريق ذوي القربى امعانا في الذلة والمهانة وتابيد الاستعمار في الأرض وفي التراب ،فان الأصل ان مكون المادي للتراب لا يتجزأ لأن الذرات التي يتكون منها تبقى تتحرك بتحرك الأرض حول نفسها وحول باقي الاجرام التي تدور في فلكها ،ولذلك فما نحتاج اليه هو تلك الروح السارية في كل مغربي من شماله الى جنوبه والتي تتغدى بمورثات الانتماء والهوية واللغة والدين ،ولذلك هذا التنوع والتعدد السمة الغالبة على المغرب تجعل منه قوة حضارية تحافظ على مكونات تربتها التي لا تتجزأ ،ولذك حس المقاومة لا يجب ان ينطفئ من مخيلتنا وهذا ما ارادت سلطات الحماية ان تقضي عليه حينما أبعدت رموز المقاومة على المغرب وضيقت الخناق عليهم ،فنحن بحاجة الى بناء الرمزية التي سلبت منا في لحظة غفلة او ضغط واكراه من طرف المستعمر ،ولذلك هذا الحس المقاوم هو الذي يمنع خروج بعض المرتزقة او من سولت لهم انفسهم أن يعملوا عملاء للاستعمار او كمبارس استعماري في زمن الوحدة والاستقلال .

فتجزئي المجزء الذي ماهو الا نتاج عصارة استعمار مضى وانقضى تارك وراءه مآسي وآلام لشعوب تربطها علاقات الدم والانتماء والحضارة ،وهذه السمة هي الغالبة في وطننا العربي الذي عاش قهر الظلم والاستعمار طوال عقود من الزمن ،ومازال الاستعمار يراهن على التقسيم الترابي للمناطق وحراسة هذا التقسيم ليبقى السمة الغالبة في جميع ربوع الوطن العربي ،رغم ان الشعوب العابرة للقارات والتي تتضامن فيما بينها ويربطها مشترك الوحدة والضمير والاستقلال وحلم التكامل الوحدوي بقومية او دينية او أي هوية أخرى ،ولذلك فالتراب الذي راهنت عليه الحماية الاستعمارية في ان تحميه لكي لا يتطور نحو التكامل واستعادة مورثاته الحضارية ،اصبح بحاجة الى إعادة تهيئته وإدخال مضادات حيوية لانعاش تربيته الخصبة بماء حي وطيب وبروح صافية تنبع من يقين القضية التي نؤمن بها ،وهذا ما يميز الشعوب التواقة حقا نحو الاستقلال ونحو طي سنوات الضياع والتقسيم والعار التي مزقت اشلاءنا في العراء .

الوقت وتوريث القضية

ازيد من اربع عقود من الزمن الذي دافعنا فيه على الاستمرار في إبقاء ترابنا المغربي سالما من كل تجزيئ ، رغم ان الأيدولوجية التي كانت مساندة لدعاة الانفصال أصبحت بائدة وهي الان تعيش حالة من تطوير وتغيير مرجعياتها لتلاءم تطور العصر ،بما يضمن بقاء دولها في الاستمرارية والتطور ،فروسيا الان أصبحت ليبرالية اكثر منها اشتراكية ،وأصبحت تسعى الى تكثل اقتصادي يضمن لها قوة ونفوذ في هذا العالم الذي يتحد من اجل البقاء ،وهذا التحول الزمني في العلاقات بين الدول فيما بينها ،هوالذي يعطي لهاته الدول استمرارية وتغييرا ونماء وتطورا .

الوقت يداهمنا ونحن عطلنا تحت رغبة راعي الانفصال وهنا اقصد العسكر الجزائري ،تكامل اقتصادي للاتحاد المغرب العربي ،فهذا المشروع هو الطريق الصحيح الذي يحتاج الى التفعيل لخلق قوة اقتصادية بالمنطقة ،والقطع الزمني مع مورثات الريع الاستعماري الذي يضمن لفئة نافذة نفوذ وموارد مالية سوداء تدخل من قيمة ما يقدم لضحايا اللجوء والحرب والتشرذم الذي تعاني منه المنطقة ،فالوقت الذي كان الأصل ان ننفق الأموال على تنمية المنطقة سواء المغربية المطلة على الاطلنتي وتنميتها لتصبح قوة اقتصادية تعبر العمق الافريقي ،ضيعت تلك الأموال في جهد غير ذي جدوى بسبب تعنت العقليات المستبدة والمنتفعة من بقاء بقايا الاستعمار في المنطقة .

اصبح الخيار الديمقراطي الذي ماهو الا مسألة وقت بالأساس هو الحاسم في ما يسمى بمسألة الانفصال الهوياتي للصحراء المغربية وتقسيمها على *كومبارس* الاستعمار، البائد من المنطقة ، فالديمقراطية تجعل الشعوب حاضرة في الصراع ،وتصبح بقوة في تدخل تحاكي تدخل الدولة الاستراتيجي للحسم في القضية ،وهذا التحول الذي عرفته القضية الوطنية، أنها أصبحت قضية شعب ودولة ،وهذا التحول الاستراتيجي راجع بالأساس الى قيمة التوريث الاستراتيجي في إعادة الاعتبار للهوية والانتماء للتراب والانسان والتاريخ الذي هو القوة الحضارية لاستمرارية الدفاع الاستراتيجي على السيادة الوطنية من كل تجزئي او تهديد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *