وجهة نظر

“العمدة في إعداد العمدة” وخطاب التطرف .. أي علاقة؟

يدور اليوم نقاش حول واحد من أهم الكتب التي خلفها عبد القادر بن عبد العزيزـ واسمه الحقيقي سيد إمام الشريف، أعني كتاب “العمدة في إعداد العدة” ومدى مساهمته أودوره في نشر “التطرف” والتبشير فيه في أوساط الشباب.

وقبل أن نقف عند هذا الكتاب، ينبغي أن نتوقف عند هذا الرجل بالذات، حيث لعب دورا خطيرا في التقعيد والتأصيل للأعمال “الجهادية” والعنيفة، التي يوقعها “الجهاديون” وإضفاء الكساء الإسلامي والسلفي عليها، وقد كان الرجل، كما يقولون عنه، راسخ القدم في العلم الشرعي إلى درجة أن واحدا كهاني السباعي، قال إنه لم ير عالما وأصوليا ومؤرخا تضاهي قامته قامة هذا الرجل.

ومما يؤكد هذه المكانة، أنه قلما تجد شيخا من شيوخ هذا التيار لا يستدل به ولا يستشهد، وقلما تجد كتابا ألفه أحدهم لا يحيل عليه ولا ينقل عنه، وما ذاك إلا للسلطة التي يمارسها على متلقيه وقارئيه، وربما تأتى له ذلك، من خلال ما لمسه أتباعه ومعجبوه من أنه تمكن من الرد على كثير من الطوائف “البدعية” ودحض شبهات الشيوخ المصنفين عندهم “كمرجئة” ومجادلين عن “الطواغيت”، وبين أن مشكلة هؤلاء تمكن في تصورهم المغلوط للدين، وفهمهم القاصر للإيمان.

صحيح أن أبا قتادة الفلسطيني قد تصدى له وحمل عليه وهاجمه، بأسلوب يخلو من أخلاق العلم وآدابه، حيث اعتبر في “طليعة رده” عليه أنه “أصابه سعار التكفير” وأن هذا السعار مبعثه سوء النية وخبث الطوية وأنه يعترض على أهل العلم الموثوقين بطريقة غير مهذبة، أو كما قال، وأنه “متعالم حاقد”، وصحيح أيضا أن كل هذه الاتهامات لها ما يعززها ويسندها، حيث ورد ما يؤكد ذلك بدءً مما كتبه في مقدمة الجامع إلى سجالاته مع الظواهري. ولكن كل هذا لا ينقص من قدره، فقد جرت العادة أن الذين يفرضون ذواتهم على الناس وينتزعون اعترافهم بهم كأسماء وازنة، فإن هؤلاء الأخيرين ينقسمون بشأنهم، بين مؤيد لهم وناقم عليهم.

إن القول أن هذا الكتاب، يتحمل المسؤولية في نشر ثقافة “التطرف” قول يفتقر إلى الدقة، ويفتقر إلى الموضوعية، آية ذلك أن هذا الكتاب بالذات لم يكتبه صاحبه من أجل التحريض على ارتكاب الأعمال الإرهابية، ولم يكتبه للدعوة إلى العنف بالأصالة، كما هو الشأن بالنسبة للكتب التحريضية الأخرى. لقد كتب الرجل هذا الكتاب كما يوحي بذلك عنوانه “العمدة في إعداد العدة”، لمرحلة ما قبل “الجهاد”، أي للإعداد، كفريضة تتعين على الأمة حين تعجز عن أداء الجهاد، وبالضبط كما قال “أبو مصعب السوري” لترتيب العلاقة بين أمراء المعسكرات ومن هم تحتهم وتحت سلطتهم، وضبطها بقواعد الشرع وتوجيهاته، وبيان حقوق وواجبات كل من الأمراء والجنود.

وإذا كان الكتاب يتضمن الحديث عن الجهاد والرباط وفضلهما في الإسلام، فإن ذلك إنما أورده الكاتب من باب الدعوة إلى إخلاص النية وتجديدها، والقواعد التي أوردها في الكتاب والمتعلقة بالعلاقة المشار إليها بين الأمراء والجند المتدربين في المعسكرات، قواعد شرعية لا غبار عليها، وهي تصلح في كل المعسكرات وليست خاصة بتلك التي يؤسسها “الجهاديون”. وإلا ما العيب وما المشكل في الدعوة إلى أن يتقي الأمراء الله فيمن هم تحتهم وأن ينصحوا لهم وأن يحرصوا على ما صالحهم؟ وما العيب في الدعوة إلى أن يطيع الجنود أمراءهم بالمعروف، ومادامت الطاعة في غير معصية الله”. أقصد أين التطرف هنا؟

يضاف هنا أن تلك القواعد التي أوردها وساقها في كتابه، ليست من بنات أفكاره وليست من مبتدعاته، أي لم يُسبق إليها، وإنما هي مما هو مبثوث في بطون الكتب الفقهية التراثية، وكل من يهتم بالفقه والتراث الفقهي الإسلامي يقف عليها وأكثر، والذين يزعمون أنهم يقومون بنوع من تصفية الحساب مع دعوات “التطرف” و”الكراهية”، أو كما يحلوا لهم أن يقولوا، يتوجب عليهم أن يعلنوا موقفهم النهائي والحاسم من التراث الفقهي الإسلامي جله، وإلا فإن موقفهم سيظل غامضا وملتبسا، إنهم يحترمون الأسماء التي يعود إليها الرجل، وينقل منها ويستمد منها الشرعية لأفكاره و”مذهبه”، ويتقاسمون معه احترام تلك الأسماء والاعتراف بمرجعيتها، ومع ذلك يهجمون عليه وينكرون عليه ما يقول.

إن الإنكار عليه، هنا، يتطلب، بالضرورة، الإنكار على السلف المؤسس، وإن إدانة هذا الكتاب وما على شاكلته إدانة لكتب الجيل المؤسس نفسه. وهذا ما لم يجرؤا عليه إلى الآن، وذلك لافتقارهم إلى الشجاعة والجرأة.

لنعرف قيمة الكتاب، ومدى تأثيره في الشباب ودفعه نحو حافة التطرف، ينبغي أن ندرسه في سياقه الزمني، فلو قالوا أن هذا الكتاب كان له نوع من التأثير قبل عقد أو ما يقرب من عقدين، ربما كان لهم بعض من الحق وبعض من الصواب، خصوصا وأن الكتاب تضمن طائفة من الأحكام المتعلقة بالجهاد وحكم “الطائفة الممتنعة”.

إقرأ أيضا: “الكتاب الأخضر” .. أخطر سلاح في محجوزات الخلية الإرهابية بتطوان

أما اليوم فأعتقد أن الكتاب وصاحبه فقدا بريقهما: أما صاحب الكتاب، فقد خسر بريقه وقيمته وسط التيار، يوم قطع صلته بالتنظيم، وكرس هذه الخسارة، يوم انخرط فيما سمي “بالمراجعات” وأصدر “وثيقة ترشيد العمل الجهادي” الذي طالب فيه بإيقاف هذا العمل وانصراف ممارسيه إلى غيره من الأعمال الصالحة، التي لهم فيها متسع ومندوحة عما هم فيه من العنت والحرج، وذلك لأن هذا العمل “الجهادي” لم يفض إلى نتائج طيبة، ولم يحقق ما كان مرجوا منه، وإنما جاءت نتائجه عكس ما هو مراد ومطلوب، بل أدى إلى نتائج كارثية ومؤلمة، جعلت اعتباره أمرا محرما أمرا لا يرقى إليه الشك. وهي الوثيقة التي كان لها ما بعدها، إذ جرّت إلى رد عنيف من قبل أيمن الظواهري في كتابه “التبرئة” ورد عنيف مضاد من قبله، أي سيد إمام، ضد هذا الأخير في كتابه “التعرية”.

وإذا كان سيد إمام قد قطع صلته بتنظيمه مبكرا، وكرس هذه القطيعة بما خطت يداه في وثيقته، فإن الكتاب نفسه أصبح متجاوزا لاعتبارات، أهمها أن صاحبه، نفسه، انقلب عليه وتجاوزه بما دعا إليه من وقف تلك الأعمال والانصراف إلى غيرها، وأنه تضمن عددا من الإرشادات والقواعد والفتاوى التي تم تجاهلها من قبل القاعدة، عنوان الجهاد الأبرز في وقته، من أبرزها، أن الرجل في كتابه هذا “العمدة في إعداد العدة” يدعو إلى مقاتلة العدو الأقرب وعدم تجاوزه إلى الأبعد، عملا بالآية الكريمة التي ما فتئ يذكرها، ويعتبر عدم الالتزام بذلك مخالفة صريحة للأمر الإلهي، في حين أن “جماعة القاعدة” عولمت الجهاد وانتقلت بمشروعها إلى العدو الأبعد، وأعلنت الحرب عليه في مخالفة صريحة لما يذهب إليه ويفتي به سيد إمام، وهو الموضوع بالذات، ظل سيد إمام متمسكا به، ناقما على القاعدة بسببه، ومتهما إياها بمخالفة الشرع الحكيم، وذلك في أكثر من مناسبة.

ثم إن الممارسات الميدانية التي تبلغنا أخبارها من العراق والشام، تؤكد أن القواعد الشرعية والأحكام الفقهية التي أكد عليها الرجل في كتابه “العمدة” هذا، لا حظ لها من الواقع ولا نصيب، فإذا كان الرجل يؤكد على أن الأمير يجب اختياره من أفضل الناس وخيرتهم، وليس ما تعارف الناس عليه من القرابة والمحسوبية وما شابه، فإن ما عليه القوم في الواقع يؤكد عكس ذلك تماما، حيث أن ترقية العناصر في السلم التنظيمي والقيادي وتوليتهم في المناصب المسؤولة والمهمة، لا تتم عبر الشروط الشرعية المرعية، وإنما تتم عبر طرق وأساليب لا يقرها الشرع ولا يرضى بها.

ثم إن جماعة “الدولة” الآن، وهي التي تعتبر نفسها الوريثة الشرعية الوحيدة لقاعدة الجهاد كما أسسها ابن لادن، ولابن لادن نفسه، واستطاعت أن “تزيح” القاعدة من على المشهد، وتحل محلها إلى درجة أن المنتسبين إلى الى التيار الجهادي، في الجملة، ليسوا إلا “دواعش” سواء كانوا واعين بذلك أم لا. أقول إن جماعة “الدولة” الآن، أسست لنفسها، ولمن يدين بمنهجها، أدبيات خاصة أنست الأتباع الأدبيات السابقة، وكرّست أسماء جديدة أنست الرموز الذين كانوا قبل. حتى إذا قلنا أن جماعة “الدولة” قد نسخت ما قبلها وألغته وأنها لم تبق إلا من كان منهجه موافقا لمنهجها لم نبالغ.

أستطيع أن أقول أن هذا الكتاب لم يكن مؤثرا كما يزعم بعض “الباحثين” ولا هو اليوم مؤثر، أو ذو قيمة وأن “الجهاديين” الجدد اليوم لا يهتمون به ولا يحتفلون به، كما كان الحال في السابق.
وإذا كانت جماعة الدولة قد استطاعت أن تنسي الناس تراث القاعدة وأعمالها بما صنعته وبما كرسته من رموز وأسماء وأدبيات، فإن هذا الجيل لا يتأثر بالقراءة والمطالعة، وإنما يتأثر بالأفلام التي تجيد جماعة الدولة صناعتها.

إن هذا الجيل تتم صناعته بماكينة الأفلام التي تتفنن جماعة الدولة في إخراجها وتبدع، وتتم صناعته أيضا بالخطب الحماسية التي تصدر عن قادة الدولة وأمرائها، وليس بالكتب التي لا يلتفت إليها إلا قليل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *