وجهة نظر

أزمة كورونا تفرز أولويات النموذج التنموي

ما يزال تدبير أزمة جائحة كورونا يسائلنا بشكل جوهري، كيف يمكن للدولة المغربية تحويل مسار هذه الأزمة التي أفرزتها الجائحة إلى فرص للنهوض واعتماد أولويات نموذج تنموي متقدم؟

الأزمات لحظات محفزة

لقد شكلت أغلب الأزمات التي صادفتها المجتمعات البشرية في محطات تاريخية مختلفة لحظات مفصلية حاسمة بين فترتين في مسارها الحضاري بفعل عوامل التعبئة الاستثنائية التي تستدعيها مواجهة تداعيات هذه الأزمات، كما تدلنا نماذج من التاريخ البشري عن تحول الدول بفضل تدابيرها العقلانية إلى سياقات النهضة الحضارية في ظل الجوائح والأزمات، وبالتالي تكريس تفوق العنصر البشري عليها وإثبات سيادته على العالم انطلاقا من دوره المركزي ككائن يؤسس للحضارة الإنسانية، ويسمو بإعمال مكتسباته وقدراته العقلية في تخطي العقبات المتوالية، وتحديد المسار الذكي لتطويع هذه الأزمات والجوائح واستغلال إفرازاتها لتحويلها إلى فرص مواتية للنهوض الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي.

الطاعون الأسود يفرز النموذج الأنكلوساكسوني

في سياق النماذج التاريخية وتفاعلها مع الجوائح الفتاكة التي عرفتها المجتمعات البشرية، يمكننا استحضار انبثاق النموذج الأنكلوساكسوني عقب جائحة الطاعون الأسود الذي عرفته لندن بين 1665-1666، والذي قضى على أكثر من ربع سكانها، وكيف أن إنجلترا خرجت من أزمتها كدولة قوية على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، سياسيا تم توقيع “وثيقة الحقوق” التي سمحت بتأسيس الأحزاب السياسية وتوسيع صلاحيات البرلمان على مستوى المشاركة في القرار ومراقبة التدبير العموميين، واقتصاديا انتقلت إنجلترا من المركانتيليا التجارية إلى المركانتيليا الصناعية، وظهور مفهوم الاقتصاد الكلاسيكي مع آدم سميت في نظريته “ميزان تجاري مربح” التي وثقها في كتابه “ثروة الأمم”، والذي أسس لمفهوم الرأسمالية من خلال تعزيز المبادرة الفردية، والمنافسة، وحرية التجارة، كل هذه التراكمات عقب الطاعون الأسود أفرزت نموذج أنكلوسكسوني ألهم العالم لعقود في بناء أنظمة سياسية واقتصادية واجتماعية جد متقدمة (كندا، استراليا، الولايات المتحدة الأمريكية…).

تعثرات في مواجهة الجائحة

وفي الحالة المغربية وعلى الرغم من بعض الثغرات التي عرفتها مواجهة جائحة كورونا، والتي يمكن إجمالها اختصرا في ثلاثة عناوين، أولها هيمنة الأمن العمومي في تحقيق النظام العام من خلال تطبيق مرسوم حالة الطوارئ الصحية على حساب السكينة والصحة العموميتين، ثانيها طول فترة الحجر الصحي غير المبررة والإغلاق التام والصارم ، والتي كانت لها تكلفة اقتصادية باهظة (0,1% من الناتج العام عن كل يوم حجر أي ما يقدر ب 500 مليون درهم حسب مذكرة وزارة المالية) كما أدت إلى تعطيل البنيات الإنتاجية (المقاولات والشركات) وتدهور القطاع الخدماتي والنشاط غير المهيكل (الذي يشغل أكثر من مليوني أسرة) مما تسبب في ارتفاع نسب البطالة وفقدان الشغل واتساع رقعة الفقر (أكثر من 5 مليون أسرة) وانخفاض في القدرة الشرائية وتآكل ادخار الطبقة المتوسطة، ثالث العناوين غياب المؤسسات المنتخبة وعلى رأسها الجماعات الترابية (مجالس الجهات والعمالات والأقاليم والمدن والقرى والغرف المهنية) عن المشاركة في تدابير مواجهة الجائحة وعدم إدماجها في مخططات الإقلاع الاقتصادي والتعبئة الاجتماعية.

مرتكزات الدولة تحفيز للنموذج التنموي

إلا أن المرتكزات التي راكمها المغرب (نقاط قوة) باعتباره دولة-أمة تتجاوز حجم الثغرات، تجعلنا نتطلع إلى مرحلة تنموية ستجعل من المغرب القوة الإقليمية الرائدة الملهمة للكثير من الدول العربية والإفريقية، وبخصوص المرتكزات فهي متعددة وسأسوق منها أربعة كبرى: أولها قوة الدولة المغربية ونظامها السياسي الضامن للاستقرار، ثم وحدة الهوية الوطنية وتماسكها وارتكازها على مرجعيات تاريخية ووطنية وروافد ثقافية متعددة (دباجة الدستور)، ثالث المرتكزات تتجلى في عمق التجربة المؤسساتية التي راكمها المغرب عبر ست عقود، رابع المرتكزات هي وفرة الخبرة والكفاءات المغربية في جميع الميادين، وقيادة بعض الخبراء المغاربة للعديد من المشاريع العالمية الرائدة في ظل الجائحة (إشراف المغربي منصف السلاوي وبتكليف من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على برنامج اللقاح ضد فيروس كورونا).

ثلاث أولويات كبرى ستحول مسار الأزمة

هذه المرتكزات من شأنها أن تؤطر التعبئة الجماعية لكل الطاقات الخلاقة من أجل تحويل مسار هذه الأزمة إلى استئناف النهضة الشاملة وتحديد أهداف المرحلة القادمة (2022-2052) بناء على تخطيط استراتيجي ينطلق من فرضيات مستقبلية ويستلهم من النماذج الدولية الرائدة وينطلق بشكل واضح من الأولويات المطروحة على الدولة والمشاكل التي عمقتها أزمة كوفيد-19، وفي هذا الصدد يمكن القول إن أزمة كورونا أبانت عن ثلاثة أولويات شكلت فجوات في السياسات العمومية التي اعتمدتها مختلف برامج الحكومات المتعاقبة (1998-2019)، على رأسها الصحة العمومية كأولوية ضامنة لتحقيق المفهوم المتقدم للنظام العام، أولوية البحث العلمي في عالم منغمس في الرقمنة والذكاء الاصطناعي، وثالث الأولويات الحكامة في دمج البنيات الاقتصادية العمومية وتنسيق التدخل المؤسساتي.

الصحة العمومية أساس النظام العام

بخصوص أولوية الصحة العمومية كمرتكز رئيسي لتحقيق النظام العام إلى جانب الأمن العمومي والسكينة العمومية الذي يعد أحد أبرز الاختصاصات الأصلية لمؤسسات الدولة بناء على الفصل 31 من الدستور والتي لا يمكن بأي حال من الأحوال القفز عليه أو تفويضه للقطاع الخاص على غرار التعليم أو وضعه في المستوى الثاني للتخطيط الاستراتيجي، ولعل ضعف البنية التحتية الصحية ونحن نواجه خطر انتشار فبروس كورونا (200 سرير للإنعاش حسب تصريح رئيس الحكومة) هو ما برر اللجوء إلى تبني حجر صحي صارم وطويل لكنه في المقابل أدى إلى توقيف الدورة الاقتصادية وأفرز مؤشرات أزمة اجتماعية غير مسبوقة، وقد تم استدراك جزء من المشكل من خلال ما وفره صندوق مواجهة كورونا من مصادر لتمويل شراء بعض المعدات الطبية اللازمة في الحد الأدنى لمواجهة الجائحة، وبالرغم من تخصيص 5500 منصب مالي لقطاع الصحة في قانون المالية 65.20 لسنة 2021 الذي صوت عليه البرلمان في 8 دجنبر 2020، إلا أن ميزانية القطاع لم تعرف زيادة معتبرة، قد تجد مبرراتها هذه السنة في التعبئة المسبقة للموارد المالية من صندوق مواجهة كورونا خلال فترة الجائحة والتي وصلت إلى ملياري درهم، غير أن هذا الدعم لن يكون متوفرا في السنوات القادمة.

البحث العلمي دعامة للسيادة الوطنية

بخصوص البحث العلمي كأولوية يفرضها إيقاع العالم الذي ينغمس في الرقمنة والذكاء الاصطناعي في كل مناحي الحياة المهنية والاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية (التصويت الإلكتروني)، في هذه الأولوية يمكننا استلهام النموذج الألماني بعد الحرب العالمية الثانية، وكيف استطاعت ألمانيا إعادة ريادتها الأوروبية وتموقعها في الترتيب العالمي من خلال أولوية حاسمة تمثلت في البحث العلمي، من أجل ذلك خصصت الدولة جميع الديون الخارجية للاستثمار فقط في التعليم والبحث العلمي، مما وفر لها بعد أقل من 20 سنة أكثر من 30 ألف باحث و60 ألف براءة اختراع و110 ألف شركة إبداعية. وفي إطار مواجهة الجائحة على المستوى الوطني رأينا كيف منحتنا كورونا فرصة التعرف على إبداعات الشباب المغربي في صنع نماذج لأجهزة التنفس ووسائل كشف الوباء، كما أن اعتماد صيغة اشتغال كل القطاعات العامة والخاصة بدون استثناء عن بعد تحقيقا لضرورة التباعد الاجتماعي شكل لحظة فارقة في اعتماد أسلوب جد متطور ولا يقل مردودية عن الصيغة الحضورية، كل هذه إشارات تدل على تحول في أنماط العمل والإنتاج والاقتصاد وارتباطها بالذكاء الاصطناعي، والتي من شأنها أن تفرض على المغرب الاهتمام بالبحث العلمي للتمكن من الاندماج في هذه التحولات وتحقيق الأمن السيبرالي والمعلوماتي. ولن يتأتى ذلك وميزانية البحث العلمي في بلادنا لا تتجاوز مع الأسف في العشرية الأخيرة 0,8% من الناتج الداخلي الخام، وهو الأمر الذي يجعلنا في خانة الميزانيات الضعيفة جدا التي لا تصل نسبتها إلى 1% على المستوى العالمي، مما ينعكس على احتلال المغرب لمراتب متدنية في مؤشر الابتكار العالمي، كانت آخرها في 2019 المرتبة 74 من أصل 129 دولة، وهي مرتبة متدنية مقارنة مع دول أوروبية وعربية. فهل يمكننا تصور ولوج المغرب إلى مرحلة تنموية باعتماد نموذج متقدم بدون بنيات قوية للبحث العلمي ورؤية واضحة لولوج مناحي الحياة العامة اقتصاديا واجتماعيا ومؤسساتيا لعالم الرقمنة والذكاء الاصطناعي؟ عناصر الجواب عن هذا السؤال تلخصه إشارتين بارزتين أولهما حجم الخبراء المغاربة المنتشرين داخل أرض الوطن وخارجه والذين ينتظرون تعبئتهم في إطار رؤية خلاقة تستهدف النهوض بالبحث العلمي لدعم الموقع الإقليمي والدولي للمغرب، وثانيها هي إمكانية تعبئة ملايير الدراهم وباقي الموارد التي يمكننا توفيرها بشكل مباشر من خلال تخفيض ميزانية التسيير الخاصة بالمعدات والآليات ومقرات العمل المستنزفة للميزانية العامة للدولة، حينما يتم الاستغناء عن نسبة مهمة منها في ظل الحكامة الرقمية والتعلم الذاتي عن بعد.

الحكامة الاقتصادية والمؤسساتية

أما بخصوص أولوية الحكامة الاقتصادية والمؤسساتية المتمثلة في دمج البنيات الاقتصادية العمومية وتنسيق التدخل المؤسساتي، فيمكن الانطلاق من النموذج الياباني في هذا الخصوص بعد كارثتي ناكازاكي وهيروشيما في 1945، حيث عملت السلطات اليابانية للخروج من الأزمة على دمج الشركات والمقاولات الاقتصادية في قطبين كبيرين هما “كريستو” و”شانتو”، حيث اهتمت المجموعة الأولى بمجال الأعمال بينما الثانية شكلت اتحاد الصناعات القوية (الإلكترونية)، كما يمكننا الاستلهام بالمبادرات الملكية التي شكلت فرص حقيقية لتحقيق التنمية على كل المستويات، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في 2008، الرأسمال اللامادي في 2014، وبرنامج التكوين المهني في إدماج الشباب في غشت 2019، والبرنامج المندمج لدعم وتمويل المقاولات في أكتوبر 2019، وتعميم التغطية الاجتماعية وخطة إنعاش الاقتصاد والتشغيل في 2020 وصندوق محمد السادس للاستثمار وبرنامج إصلاح المؤسسات العمومية، غير أن جل هذه المبادرات لم تجد ما يكفي من الحكامة الاقتصادية والمؤسساتية الكفيلة بتفعيلها أو مواكبة مؤشراتها الدالة على تحقيق أهدافها، مما تسبب في ضياع الفرص التنموية التي أتاحتها المبادرات الملكية على المستويات الاقتصادية و الاجتماعية والبشرية، لذا يصير من اللازم كأولوية إعادة النظر في حجم وعدد المؤسسات العمومية ذات الأهداف الاستثمارية المتقاربة ودراسة إمكانية دمجها في أقطاب كبرى متعددة التخصصات تدعم مؤشرات الاقتصاد الوطني وتفتح فرص للتشغيل وتعيد رسم مسار النموذج التنموي وفق الأولويات الوطنية، كما تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن تنسيق التدخل المؤسساتي لمختلف البرامج القطاعية والتعبئة الاجتماعية صار يستوجب بشكل استعجالي انخراط كل المؤسسات في إطار الجهوية المتقدمة عبر إشراك جميع المؤسسات المجالية، وهو الوضع الذي ينسجم مع المستجدات الهامة التي تعرفها قضيتنا الوطنية، والتي من المنتظر الانطلاق في الشطر الثاني لتأهيل المنطقة ضمن ما سيوفره النموذج التنموي، حيث سيجعل هذه الأقاليم الجنوبية في صلب الرؤية الوطنية وكقبلة سياحية عالمية.

* باحث في العلوم السياسية والقانون الدستوري (سلك الدكتوراة بكلية الحقوق أكدال الرباط)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *