وجهة نظر

بريق من المشهد الخطي المغربي المعاصر

يمكن تصنيف المشهد الخطي المغربي الآني بأنه في مرحلة الصفوة الفنية، وذلك تبعا للتطور الذي يعرفه المجال الحضاري وتنوع التقنيات والتنوع الثقافي والمعرفي والفني وما يترتب عن ذلك من إغناء للمادة الخطية، وهو ما عجل بظهور عدد هائل من الخطاطين المغاربة وتنويع اهتماماتهم وأعمالهم وأماكن اشتغالهم؛ فنجد خطاطي الديوان الملكي، والخطاطين الخواص، والخطاطين العوام وخطاطين من المشايخ وخطاطين شباب وخطاطين هواة وخطاطين طلبة، وبعض الخطاطين الذين تخصصوا في الحروفية وفي الزخرفة والتنميق، والبعض الذي تخصص في تقهير الورق، والبعض الذي تخصص في صنع الأمدة والأحبار الجيدة والدواة والكرسف، والأقلام المغربية المتنوعة، وخاصة منها القصب الذي يعتبر المفضل لدى الخطاطين لأنه يسعف للكتابة به على أي مادة كانت.. كل يسهم بإبداعاته الرائقة وتقنياته المتطورة في الرفع من شأن الخط المغربي. فمنهم من يكتب المصاحف الشريفة، ومنهم من يكتب الحليات. ومنهم من يخط اللوحات الخطية ومنهم من يتفنن في الأعمال الحروفية. ولم يقتصر الأمر على العنصر الذكوري فحسب، بل برزت في الساحة الخطية المغربية الآنية خطاطات مجيدات ومقيدات بالضبط، ومتفننات ومتقنات للخط المغربي بمظهر حضاري يرفع شأن العنصر النسوي في هذا المجال. فهناك لوحات خطية وحروفية زاخرة لخطاطات مغربيات معاصرات.

وبالنظر إلى عامل التشجيع والتحفيز الذي يوليه صاحب الجلالة أمير المؤمنين محمد السادس نصره الله للرقي بالمنظومة الخطية بالمملكة المغربية من خلال جائزة محمد السادس في فن الخط المغربي؛ ورعايته الكريمة للخطاطين، فقد تجلت روح التجديد في الخط المغربي في العهد المعاصر بشكل ملفت، حيث عرف تطورا سريعا جدا، ووثيرة قوية في النمو. وقد أسهمت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية من خلال السيد وزير الأوقاف العلامة الدكتور أحمد التوفيق في إعطاء دينامية خاصة للخط المغربي والخطاطين المغاربة، مما انعكس إيجابا على مجال الخط والحروفية والزخرفة.

وإن للتأثيرات الحضارية وما يرافقها من تطور في شتى المجالات الحيوية انعكاس كبير على الخط العربي عموما والمغربي خاصة. ولعل الإحداثات العلمية والمعرفية والحضارية التي تشهدها المملكة المغربية حاليا قد أسهمت بشكل بارز في إعطاء دفعة قوية للخط المغربي في مختلف تجلياته، خاصة مع ظهور مرافق خطية تقليدية تعنى بالخط العربي وآلياته الجمالية وبالزخرفة كما هو الشأن بالنسبة لمدرسة الصهريج بمدينة فاس، وأكاديمية الفنون التقليدية بالدار البيضاء، وكذلك إحداث جائزة محمد السادس في فن الخط المغربي، الأمر الذي أعطى دينامية لمجال الخط وحفز الخطاطين، لكي يمدوا القطاعات العلمية والمعرفية المتصلة بالخط المغربي بمزيد من الإنتاجات مما أثر على المنتوج الخطي المغربي لكي ينمو ويزداد، وتزداد معه أعداد الأعمال الخطية المغربية المتخصصة.

ومما لا شك فيه أن الخط المغربي حافظ للملة والهوية والوطنية، والمملكة المغربية تنعم بعدد هائل من الخطاطين الأكفاء الذين ينيرون الساحة الخطية والحروفية بروائع إنتاجاتهم التي تتنوع بين الخط المشرقي بأنواعه المتعددة وبين الخط المغربي بأنواعه المختلفة المائزة، ويقوم هؤلاء الخطاطين في كل ربوع المملكة بمجهودات كبيرة لخدمة الخط المغربي من خلال أعمال خطية، ومن خلال مجموعة من الأنشطة الحروفية الهادفة منها ما يتم التنسيق خلاله مع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية التي تدعم هذا المجال، ومنها ما يتم تنسيقه مع وزارة الثقافة المغربية ومنه ما يتم في إطار شراكات مع المجالس الجماعية والمقاطعات وغيرها. وتلعب الجمعيات المغربية في مختلف المدن المغربية دورا محوريا في تجويد الخط المغربي وتطويره وتلميع صورته في الداخل والخارج.

وبذلك فقد استغل الخطاطون الأكفاء وقتهم في الفترة المعاصرة في الإبداع والابتكار والتجديد. حيث توسعت قاعدة الخط العربي عموما والخط المغربي خصوصا، وهو ما يخدم بشكل جلي مصلحة الخط المغربي، وجعل العديد من الخطاطين والحروفيين المغاربة يمارسون إبداعاتهم وينتجون أعمالا فنية مؤطرة تأطيرا دقيقا.

وفي سياق آخر، فقد عمل بعض الخطاطين المغاربة – كل من موقعه – على تطوير الأساليب الخطية والحروفية المغربية من خلال التوظيف المحكم للخط المغربي بطرق فنية جديدة لتجليل الخط المغربي وإنتاجه في لوحات فنية اتخذت مناحي جمالية متنوعة حسب توجه كل خطاط، وحسب طريقة الاستعمال، وحسب نوع الخط، وحسب الاختلاف في الاجتهادات. لكن الأهداف ظلت موحدة، مما شكل لبنة إضافية متميزة في المشهد الخطي والحروفي المغربي، وشكل أيضا مجال سبق في عدد من التقنيات التي وظفها بعض الخطاطين المغاربة المعاصرين في أعمالهم الخطية والحروفية. وذلك ناتج عن فطريتهم في التفاعل مع المادة الخطية عموما، ما أسهم في تحقيق خطية الخط المغربي في الفترة الآنية. وأسهم كذلك في تشكيل مساحة إبداعية غزيرة بالإنتاجات قوامها تكثيف مجال الخط المغربي بمجموعة من الجماليات وتوظيف عدد من الخصائص الفنية والتقنيات العالية، ونقل نبض الخطاط والحروفي إلى المشاهد، خاصة وأن عددا كبيرا من رواد الخط بالمملكة المغربية قد جعلوا من التركيب الخطي المغربي بعدا بلاغيا يفتح مضامين اللوحات على البصر، لأن تجاربهم قد أسهمت بشكل كبير في لفت النظر إلى المجال الإبداعي المدجج بتقنيات مغايرة للمألوف في الخط المغربي، مما جعل القراء في الغرب يُغيّرون طريقة تفاعلهم مع الخط المغربي، وأسهمت أيضا في تقوية العلاقة بالخط المغربي في نطاق الرؤية البصرية وعملية الاستيعاب بكل ما تحمله الخطابات البصرية وما تحتويه من أشكال خطية، وما تتوفر عليه من دينامية، ومن خطاب فني مغربي يؤكد تجليات الخطاب البصري المفعم بالتعابير الجمالية والأفكار الفنية المختلفة التي تضفي معنى جماليا على الخط المغربي وعلى الحروفية المغربية في عمومها.
إن أهمية الوعي في المنظومة الخطية المغربية قد جعل الخطاطين المغاربة في الوقت الحالي مدركين لجملة من الحقائق التي تخص الخط المغربي؛ منها التفاعل مع المادة التراثية المغربية الأصيلة في لوحاتهم، ومنها صياغة وضعية الحروف المغربية بالشكل الأمثل، وكيفيات تشكلها، ومنها المحافظة على خصوصيات الخط المغربي ومميزاته، ومنها الحفاظ على أسلوب الكتابة بالخط المغربي في اللوحات الحروفية، ومنها تكثيف العمل مع عمق المادة الخطية، وفق تنظيرات فنية وجمالية..

مما كان له أثر بالغ الأهمية على هؤلاء المبدعين وعلى مختلف عمليات تدبير الفضاء الخطي والحروفي، وجعلهم ينفتحون على الجانب العلمي للتعمق أكثر في صلب المادة الحروفية المغربية وفي خصوصيات الخط المغربي برصيده الثقافي والسياسي والاجتماعي والتاريخي، وفي رصيده الجمالي والفني، مما جعلهم يقدمون في كل حين لوحات خطية وحروفية ذات جماليات فاتنة.

إن مجمل الخطاطين المغاربة الأفذاذ قد جعلوا صورة الخط المغربي في لوحاتهم حاليا تمثيلا لمواضيع مباشرة في التشكيل البصري، وجعلوها علامة خاصة، تتحكم في التكوين الخطي المغربي، ومادة للتشكيل تعمل وفق الفكر الذي يبرز في مواضيع معينة لبناء علامات أيقونية بصرية، تبين صور الحروف في أشكال مختلفة من الأعمال الخطية على مختلف المواد المعاصرة وبمختلف التقنيات المتطورة في الوقت الراهن. خاصة لما وجدوا في الحرف أداة للمطاوعة والتشكل. وقد عرفت الفترة المعاصرة استيعابا أكبر للنقد الفني المصاحب للتجارب الخطية المغربية فانعطفت أعمال الخطاطين بتنوعها الجمالي نحو الجودة العالية، حيث راهنوا على تطوير مختلف الجماليات عبر التفنن الشكلي للحروف. فأضحت لوحاتهم الحروفية فنونا لعملية تعكس الواقع الفني الجمالي المغربي، وهي ترتبط أساسا بالتراث الحضاري والقيم الاجتماعية والأخلاقية والبلاغية، وقد نوعوا في صور الحروف وشكلوها في قوالب جمالية مختلفة تحمل رؤية فنية وبلاغية، بعمق مرئي على مستوى الرسم، وهي صور عميقة الدلالات. وبأشكال تعبيرية تتمازج فيها الصور التمثيلية للحروف بتشكيل جمالي وأحجام ومقاسات كبيرة ومتوسطة، مضبوطة الاتزان في مختلف عمليات التركيب لبسط الكتلة الجمالية، حيث يلعب الاتزان دورا مركزيا في توجيه الكتل القابلة للإدراك البصري، والشكل التشكيلي الذي يمزج بين التشكيل والحرف في نطاق تركيبي عبر تجسيدات خطية وعلامات تحيل على المواضيع المتناولة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *