منوعات

القباج يكتب: ماذا لو فشل بنكيران في تشكيل الحكومة؟

يبدو أن بعض المتابعين للشأن العام المتحمسين لنجاح أوراش الإصلاحات السياسية؛ ابتلعوا الطعم الذي وضعه خصوم تلك الإصلاحات، ووقعوا في فخ مقاومي عملية الانتقال الديمقراطي ..؛ حيث بدأ أولئك المتحمسون يشيعون خطاب التيئيس الذي يراد منه بث روح الهزيمة في نفوس المؤمنين بأهمية المشاركة في حركة الإصلاح ..

والدفع نحو اليأس هو جزء من مخطط أعداء الإصلاح من السياسيين والإعلاميين والمثقفين ورجال السلطة الذين يظهرون احترام الديمقراطية ويبطنون مقاومتها بمختلف أساليب المكر والحيل!

وأول ضحايا هذا المكر هم أولئك المتابعون والمعلقون الذين يضعون رجلا مع المصلحين وأخرى في خندق أعداء الإصلاح؛ فإن حقق الأولون مكاسب قالوا لهم: ألم نكن معكم؟؟

وإذا فشلوا أو تعثروا وصفوهم بالسذج اللاهثين وراء سراب الديمقراطية، والذين لم يفهموا أن الأمر كله مجرد عروس من العهن تلعب بأطرافها أصابع المستبد في مسرح كوميدي مألوف ..!

وأحيانا يتورط في هذا الموقف إسلاميون يترددون بين رأي المقاطعين ورأي الداعين إلى المشاركة في الإصلاح السياسي؛ وبعض هؤلاء الإسلاميين إنما هم من الذين يَرَوْن بأن الديمقراطية كلها شر ولا يمكن الانتقاء والتمييز فيها بين إيجابياتها وسلبياتها؛ بل هي شر محض لا يؤخذ منه إلا بقدر ما يشرع للمضطر أكله من لحم الخنزير ..

فهؤلاء قد يتحمسون لأطروحة المشاركة، وقد يتابعون فصولها بشوق، بل قد يتمنون بصدق أن تنجح التجربة وأن تتحقق مكاسب إصلاحية؛ لكن إذا شعروا بأن الرياح تجري بغير ما يشتهيه الملاح؛ قفزوا من السفينة التي يتوقعون غرقها إلى قارب يتابعون منه الأحداث ويرددون من على متنه مقولات: “سراب الديمقراطية” و”استحالة الإصلاح السياسي” ..

فإن غرقت السفينة قالوا: “مع الأسف كنّا نقول لإخواننا: الديمقراطية مجرد سراب لا تغتروا بها لكنهم لم يستمعوا لنا”!

وإن نجت السفينة وأوشكت على الوصول إلى بر الأمان؛ رجعوا إليها وقالوا: “كنّا نراقب احتياجات السفينة عن بعد”!!

ودفعا ومدافعة ﻵثار هذا الخطاب الذي يبذر اليأس ويلعب أصحابه على الحبلين؛ أود أن أؤكد بأن “تشكيل الحكومة” و”المشاركة في الحكم” و”الانتصار على الفاسدين المستأثرين بالسلطة” … هذا كله ليس غاية في حد ذاته وإنما هي وسائل لغاية مهمة؛ ألا وهي توسيع دائرة الإصلاح السياسي وتضييق مساحات الفساد والاستبداد؛ بالقدر الممكن؛ جريا على قاعدة الشريعة الجامعة المانعة: “إيجاد المصالح وتكثيرها وإعدام المفاسد وتخفيفها” ..

وفي تحقق هذه الغاية خير الوطن والمواطنين بكل توجهاتهم، وليس مكسبا خاصا بالإسلاميين ..

ومشاركة الإسلاميين في تحقيق تلك الغاية؛ هو في حد ذاته نجاح؛ وهم مأجورون بقدر سلامة مقصد الواحد منهم؛ وقد أدى ما عليه سواء شارك في الحكم والتدبير أو لم يشارك ..

وإذا كان مجال الدعوة إلى الله تعالى لا يتوقف أداء الواجب فيه على تحقق النتائج والغايات بشكل كامل وفوري، ولا على كثرة عدد المستجيبين؛ فيثاب النبي الذي لا يستجيب له إلا الرجل والرجلين والنبي الذي لا يستجيب له أحد؛ فباقي مجالات الإصلاح -ومنها المجال السياسي-؛ من باب أولى؛ وهو أحرى بقول المصلح: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]

إن كشف ألاعيب وحيل خصوم الإصلاح السياسي هو جزء هام في مشروع ذلك الإصلاح؛ وهو ما يقوم به حزب العدالة والتنمية اليوم حين يتمسك بحقه الدستوري والقانوني، ويرفض أن يمرغ إرادة الناخبين في أوحال الفساد وأوساخ الاستبداد؛ ويقاوم في سبيل ذلك بكل ما يتاح له في ظل خياره الاستراتيجي: “الإصلاح في ظل الاستقرار وتحقيق الإنجازات مع المحافظة على المكتسبات”.

وهذا الموقف وتلك المقاومة الكاشفة؛ هما في حد ذاتهما إنجاز يحفظ للأستاذ عبد الإله بن كيران وإخوانه؛ سواء نجح في تشكيل الحكومة أو عجز؛ كيف لا وقد أبرز حقيقة المشهد السياسي بشكل أضحى معه واضحا للعين المجردة بعد أن كان لا ترى حقائقه إلا بمجهر نخبوي يسهل معه الكذب على المواطنين والتلاعب بعقولهم وتصوراتهم؟!

وهذا الإنجاز يجعلنا بمنأى عن التحليلات والاستنتاجات التي تحصر احتمالات مآل مشاركة الإسلاميين في دائرة يخيم عليها اليأس ويحيط بها التشاؤم؛ كقول القائل بأن حزب العدالة والتنمية لم يبق أمامه سوى خيارين:

1 بيع إرادة الناخبين في سوق الاستبداد الفاسد

2 أو النزول إلى الشارع بشعار: “سلميتنا أقوى من الرصاص”!

إن حركة الإصلاح أكبر بكثير من أن تختزل في “تشكيل حكومة” أو “تولي ولاية ثانية أو ثالثة”؛ ولكنها رباط مستمر على ثغور مقاومة الشر والفساد؛ رباطا لا يعرف اليأس ولا الملل، وهي وجود دائم وإيجابي في كل موقع يتمكن من خلاله الإنسان أن يخدم وطنه بأي خدمة تتاح له في ضوء التوجيه النبوي الكريم: “خير الناس أنفعهم للناس“، وقوله صلى الله عليه وسلم: “لا يحقرن أحدكم من المعروف شيئا“.

وهذا التصور يصعب استيعابه من الإسلاميين الذين لا يَرَوْن مشروعية العمل السياسي إلا إذا كان وسيلة لفرض قناعاتهم على باقي مكونات دولتهم ومجتمعهم؛ ولذلك يبقون رهائن لفكرة أن السلطة أداة لفرض الرأي؛ وهو التصور الذي كان سائدا في المراحل الأولى للعمل السياسي الإسلامي؛ ثم أثبتت التجربة خطأه وأكدت بأن المشاركة السياسية إنما هي تعاون ومدافعة:

1 تعاون مع الجميع على المشترك الإيجابي

2 ومدافعة لمن يريد أن يجعل السلطة أداة لفرض إيديولوجيته ومصادرة حق الإسلاميين في تأطير الرأي العام؛

سواء كان هذا التأطير من خلال العمل السياسي أو من خلال الدعوة والتبليغ ..

{ولولا دفع الله الناس بعضهم لبعض لفسدت الأرض}

وكما أن الإسلامي يدافع العلماني ويزاحمه كي يمنعه من استغلال السلطة لفرض آراءه وتصوراته؛ كذلك هو ينبغي أن لا يعتبر السلطة وسيلة لفرض الرأي مهما كان الرأي عنده حقا وصوابا؛ وهذا ما وصلت إليه مراجعات أبرز الحركات الإسلامية المشاركة في مجال التدبير السياسي؛ وهو مقتضى القواعد الشرعية التي تؤطر مشروعية العمل السياسي المعاصر ..

الخلاصة: أن غاية العمل السياسي الإسلامي -كما أتصورها- هي: المشاركة تعاونا وتدافعا بنية الإصلاح؛ ولا بد في ذلك من النضال والمصابرة تطلبا للأفضل وابتغاء للأكمل؛

فأي قدر تحقق من تلك الغاية فهو مطلوب شرعا ومحبذ في ميزان الحكمة والبصيرة، ولا يليق بالإسلامي أن يبتلع طعم خصمه؛ فيردد مقولات التيئيس من جدوى المشاركة السياسية بسبب عراقيل (البلوكاج) وحيل المتحايلين على الديمقراطية المتلاعبين بإرادة الناخبين ..

أما بخصوص واقعنا الحالي؛ فأرجو أن يوفق الأستاذ بن كيران في مهمة تشكيل حكومته الثانية، ولو فشل في ذلك -لا سمح الله-؛ فإنه يبقى في نظري ناجحا ما دام وفيا لمبادئه ووطنه، متمسكا بثوابت الدستور، محترما لإرادة الناخبين.

والفاشل إنما هو المتربص الماكر الذي يحضر عند الطمع، ويغيب عند الفزع؛ وهو المخادع الجبان الذي يبيع مصلحة الوطن بعرض من الدنيا قليل ..

وختاما أقول:

لا يثبت على طريق الإصلاح إلا من طرد -مستعينا بالله- شبح اليأس من حياته وردد لسان حاله مع ابن التعاويذي قوله:

‏لئن سئم الْعُذَّالُ طول شكايتي … وملَّ حديثي زائري ومُجالِسي

‏‏وعاد طبيبي مِنْ سَقَاميَ آيِسًا … ‏فما أنا من رُوحِ الحياةِ بآيِسِ