وجهة نظر

أنا والعربية والعالم الحلقة الثالثة: أول أسفاري..

وأخيرا بدأت بعض أحلامي تتحقق، وكنت أحلق في السماء وأنا مازلت أمشي على الأرض خيالا بعوالمَ طالما حلمت بأن أعيشها حقيقةً.. وكان أول أسفاري بحثا عن العلم ومعانقة أهله والدخول في متاهاته علّني أجد الطريق، طريقا إلى فهم العربية وسبر أغوارها أكثر، ومن ثمة طريقا إلى فهم كتاب الله الذي كانت بعض آياته تحيرني تفكرا، وتثير في ذهني تفسيرات وأفكارا تدفعني إلى البحث عن النور، وما كنت أستريح إلى ما كنت أنتهي إليه من تفسيرات العلماء لهذه الآيات، ليس من باب أن تلك التفسيرات كانت غير سلمية، ولكن لتجدد الفهم وآليات اشتغال هذه اللغة العجيبة.. لا أنكر أيضا أنّ رغبتي في السفر كانت جامحة أيضا لاكتشاف العالم والثقافات لأنني بطبعي أعشق السفر والسياحة..

وكان أول سفري نحو الشرق، وكأن ربّي يعود بي إلى منابع العربية الأولى وأماكن المناظرات الفكرية والدواوين الشعرية في أسواقها أيام قريش.. فعرفت يقينا أن ربّي يريد بي خيرا ويدلني على الطريق إلى هذه اللغة..
وحان موعد السفر..

رتبّت زوجتي حقيبتي بعناية، ووضعت فيها ما يحقق حاجتي من الثياب وزيادة خوفا على من البرد. فقلت لها إن الجوّ في هذه المناطق حار طول السنة، لكن خوفها عليّ جعلها تملأ الحقيبة، ودست لي فيها بعضا من الحلويات المغربية التي أعدتها بنفسها خصيصا لهذا السفر لأنها تعرف أني أكره أن أسافر بما يزيد عن حاجتي من المتاع.. كما أنني أريد أن أتذوق أطعمة البلد الذي أزوره، فكيف أحمل طعاما مغربيا وأنا الذي يحب استكشاف العوالم بكل تفاصيله؟.. تسللت زوجتي ليلا، وفتحت الحقيبة سرا، ووضعت بعض الحلويات، وما استشكفت ذلك إلا عند وصولي إلى الفندق في دولة قطر.. طبعا ما كان لي إلا أن تبسمت من حيلتها، ووجدت ورقة صغيرة كتبت عليها ”هذه حلويات أعددتها لك بنفسي تأكلها إذا لم يعجبك الأكل هناك”.
وأذكر كيف تملكني خوف غريب عندما هممت بالسفر من بني ملال إلى مطار الدار البيضاء.. وكنت أنظر إلى زوجتي وابني الصغير نظرة مودع.. كان مازال في مهده يرفع يديه نحوي متبسما بعيون براقة أنْ يا أبتِ احضني وقبلني ولا تتركني، فحضنته بشوق وكأني ذاهب إلى معركة لن أعود منها إلى جثة هامدة. كادت دموعي ترهقني وتغلبني فتصبّرت..

وصعدت الطائرة..
جلست في مقعد دلتني عليه مضيفة غير عربية جميلة القوام وهي تتحدث معي بلسان إنجليزي واتسمامة جميلة لا تفارق ثغرها الأجمل،
فقالت لي: مقعدك سيدي بجانب النافذة، هنا..
وساعدتني على وضع حقيبتي في مكانها، ثم تمنت لي سفرا سعيدا والابتسامة الجميلة لا تفارقها وذهبت لتساعد مسافرا آخر..

لا أنكر يا سادة أنّ ابتسامتها هذه أزالت بعض الرهبة من صدري، رهبة الطيران لأول مرة..
ذكرت الله، وتلوت دعاء السفر، واسغفرت ربي، ودعوته أن يجعل سفري هذا موفقا، وقلت في سرّي: اللهم إنك تعلم أني لست مسافرا من أجل المال أو متاع الدنيا، وإنما أنا مسافر من أجل العربية ومن أجل العلم، فإن مت في سفري هذا فكاتنبي من الشهداء وإن أرسلتَ روحي فيه وبعده فاكتب لي التوفيق والسداد ولا تحرمني أجره..

وحلقت بنا الطائرة تخترق الأجواء صعودا والصمت يلف المكان ولا نسمع إلا هدير محركاتها الأربعة.. كان يجلس بجانبي رجل وقور بين الخمسين والستين ويمسك بين يديه قرآنا يتلو ما تيسر منه غير مبال بما يجري في الطائرة وبمن حوله.. ما عرفت جنيسته بداية ولا من يكون.. لأنه ظل على حاله يقرأ القرآن دون توقف إلى أن حان وقت الطعام، فوضع المصحف الشريف جانبا، وحينها كلمني وتبادلنا أطراف الحديث، فعرفت أن الرجل من أثرياء قطر، وكان يعمل جنرالا في الجيش القطري، ثم تقاعد وأسس شركة كبيرة خاصة بأمور الطيران والطائرات.. فحدثني عن ثقته الكيبيرة في أهل المغرب وكرمهم وكفاءتهم العلمية والمهنية لأن لديه بعض المغاربة يعملون في شركته في قطر وما رأى منهم إلا التفاني والعمل الجاد والدقة فيه..
ثم قادني الفضول لأسأله:

دكتور محمد.. كنتَ تجلس من قبل في مكان في هذه الطائرة قبل أن تأتي إلى جانبي؟ لأن المقعد بجانبي كان فارغا إلى أن حلقت بنا الطائرة..
ضحك قليلا، ثم قال:

– شوف دكتور محمد.. أنا مقعدي كان في درجة الأعمال لكني زهدت فيه وأحببت أن أجلس في مكان مع الناس.. هيه.. ولو حدث شيء للطائرة لا قدر الله يعني الذين هم في درجة الأعمال سنجون؟؟ (وأعقبها بضحكة)، ثم هناك في درجة الأعمال لا أحد يكلم الثاني وأنا أحب أن أتعرف على الناس..
– فقلت له: بارك الله فيكم دكتور.. هذا من تواضعكم والله.
فصار الرجل – على قدره ومقامه الاجتماعي يكلمني عن حياته الخاصة وعن أبنائه وعن شركاته وكأنه يعرفني من مدة، حتى إنه تنبه إلى هذا وقال لي:
– عادة أتكلم مع الناس دون أن أحدثهم عن أموري الخاصة لكني أشعر وكأني أعرفك من زمان، وأحببتك في الله، خاصة أنك من أهل المغرب الذين نحبهم كثيرا ونقدرهم..

وجدت في الرجل صحبة جميلة صادقة وكنت أجيبه عن أسئلته جميعا.. فزاد إعجابه بي وتقديره لي عندما عرف أني ذاهب إلى بلده من أجل مؤتمر عن اللغة العربية، فصار الرجل يخدمني بنفسه، وأنا أستحيي من صنيعه بي.. فيقول لي بكل عشق: أنت دكتور ومسافر إلى بلدي من أجل اللغة العربية فلا أكرمك؟.. والله إنه لشرف لي أن أخدمك بعيوني.. فامرني بما تريد..

زاد استحيائي منه من تقديره لي.. وعرفت أن في هذه الأمة خير لا ينقطع إلى يوم الدين.. فما شعرت خلال الرحلة بطولها ولا بتعبها.. وبمجرد أن ينهي الرجل تلاوة جزء من القرآن يعود فيحدثني ويدردش معي، ثم يعود إلى مناجاة ربه من جديد..
حمدت الله أن جعل أول أسفاري بصبحة رجل رباني ناصح قارئ للقرآن مقدر للعلم وأهله.. فكان هذا بشارة خير لي..

كان الوقت فجرا حين وصولنا إلى مطار الدوحة الدولي.. كان المنظر من الأعلى جميلا للعاصمة، أبراج ومنشآت وجمال.. فأحببت الدوحة وأحببت أهلها قبل أن تطأ قدماي أرضها..
تفاجأت بالرجل – حين دخولنا المطار يمسكني من يدي ويقول لي:
– تعال معي..
قلت له: علي أن أسلك هذا الاتجاه.. المرشدون في المطار ينادون على غير القطريين أن يسلكوا اتجاها مغايرا للقطريين..
فرد علي: والله لن أتركك تمر من الزحام والانتظار وأنت ضيفنا وجئت من أجل العلم.. تعال معي ولا يهمك شيئ..

لم استطع الرد، ليس حبا في اختصار الطريق في المطار وتقليل مدة الانتظار خلال تنفيذ الاجراءات الإدارية فيه، ولكن خجلا من كرم الرجل وإصراره على خدمتي بما يريحني ويقلل من تعبي..
في بوابة العبور الخاصة بالقطريين عرفت أن الرجل مشهور ومعروف لديهم، لأن الموظفة التي كانت عرفته في الحين وختمت جوازه بسرعة.. ثم قال لها:هذا ضيف عزيز من المغرب وهو قادم لمؤتمر هنا.. وما طاد يكمل كلامه حتى قالت بنبرتها الخليجية الجميلة:
– أهلا وسهلا دكتور.. نورت قطر..
ناولتها الجواز تحققت منه وختمته وأعادته إلي.. فخرجت من المطار في أقل من عشر دقائق..