وجهة نظر

أنا والعربية والعالم الحلقة الثانية: أمتعتي قبل السفر..

أذكر أول سفر لي بأدق تفاصيله كما يتذكر الطفل أول أيامه في المدرسة، وكما تتذكر العروس ليلة زفافها.. كنت نشيطا للغاية أكثر من أي وقت مضى.. وهنا اسمحوا لي أنْ أبيّن جزئية مهمة عن حياتي تفسر لم أحب السفر بل أعشقه؟ ولم أحب أن أجدد نمط حياتي وأسلوبي فيها.. أنا نشيط بطبعي، ربما لأن فصيلة دمي هي O+، وأصحاب هذه الفصيلة، كما يقول أهل الاختصاص، يملون الملل قبل أن يملوا الروتين القاتل والعمل الذي يؤدى بنفس الوثيرة، ويحبّون التنقل والحركة المستمرة.. كل هذا جعلني أتشبت بأي خيط يجعلني أركب الطائرة وأشعر بما يحكيه الناس عنها وعن حالة الدوار التي تنتابهم خلال عملية الإقلاع والهبوط.. كنت أرغب في أن أكتشف هل المضيفات جميلات حقا كما عودتنا شاشات التلفزيون والأفلام؟ أم إن هذا مجرد وهم الإشهار.

كان خيالي يسبح بي في تفاصيل كثيرة، لا لشيء إلا لأنني أحب أن أعيش الحدث خيالا قبل أن أعيشه واقعا.. ولأني أحب أيضا أن أستمتع بأي شيء، لأني أومن أن المتعة لا يمكن أن تأتيك إلا من دواخلك وأعماق نفسك وقدرتك على خلق عوالمك الخاصة.. حتى العالم الحقيقي نستطيع أن نجعله كما نريد عندما نعيشه في خيالنا ونتصوره.. فيأتي التصور منطبقا للواقع..

كنت أتصور حالة الذهول التي قد تنتابني لو أن حادثا حدث للطائرة.. ماذا عساي أن أفعل؟

الحمد لله، لم يسيطر علي الشعور بالخوف مطلقا لأني أومن أن أجلي إذا جاء فلن يتأخر..
أتذكر أيضا كيف كنت أعود لصندوق رسائلي لأعيد قراءة الرسالة التي جاءتني من جامعة قطر تفيد بقبول بحثي للمشاركة في مؤتمر عالمي يعقد بالدوحة عن اللغة العربية ولهجاتها.. وعلي أن أرسل بعض الوثائق لتأكيد المشاركة والتحضير للسفر والحصول على الفيزا.

هذا كان أول عهد لي بالعربية والعالم.. وهكذا ستأخذني فتاتي القرشية نحو أول بلد عربي مشرقي.. لقد كان المؤتمر كبيرا حقا ومهما للغاية ويحضره كبار اللغويين واللسانيين من الشرق والغرب.. ولأكون صريحا معكم، لم أكن أتوقع أن يقبل بحثي نظرا لطبيعة المشاركة وحكم المشاركات وعددها.. لذلك عندما يسر الله هذا الأمر، وجدت نفسي في حيرة كبيرة وقلق دائم.. سبب هذا القلق أني كنت أخشى من الفشل وأن تكون مشاركتي مملة لا جديد فيها. كما أني كنت دائما أرى أن المهمة جسيمة لأنها تتعلق بلغة اتهمت ومازالت بالعقم والجمود. فكيف يمكن أن أسهم في تغيير “قناعة” خاطئة؟..

بعد هذا كنت حريصا على تتبع صندوق رسائلي بشكل دقيق والرد على رسائل المنظمين مخافة أن تضيع علي الفرصة..

وأقف هنا معكم لأخبركم شيئا مريرا.. لما عرف بعض زملائي في العمل أني سأشارك في هذا المؤتمر كان أن وجدت منهم الرفض بدعوى أنّ مثل هذه الملتقيات لن تفيدني بشيء وأنه علي ألا أشارك.. وهكذا ستبدأ بعض المشاكل التي لم أنتبه إليها، ولم أتوقع أن تحصل بالمرة. من ذلك أيضا أنْ اكتشفت أنه علي إعداد ترسانة من الوثائق الإدارية إذا ما أردت أن أحصل على دعم الجامعة للسفر.. لأتبين بعدها لماذا يرفض بعض الأساتذة السفر تجنبا ل”وجع الدماغ”.. ثم عرفت أيضا أنه علي أن أتكفل بكل المصاريف وأني لن أحصل على سنتيم واحد من الجامعة إلا بعد عودتي وتقديم وثائق إدارية أخرى، ثم أنتظر شهورا قبل أن يتم تعويضي.

مع هذا كله، كل شيء فيّ كان يزيدني إصرارا على الذهاب ويزداد حماسي للأمر يوما بعد يوم، إلى أن قصدت وكالة خاصة لحجز تذكرة السفر من الدار البيضاء إلى الدوحة.. اكتشفت أن ثمن التذكرة 11000 درهم، وهو مبلغ فوق المبلغ الإجمالي الذي يمكن للجامعة أن تعوضني به (9000 درهم) فقط عن كل تكاليف السفر والإقامة وغيرها من التبعات الأخرى.. ليتأكد لي مرة أخرى لماذا لا يرغب أغلب الباحثين في مثل هذه المشاركات..

ومع هذا يا سادة.. كنت أزداد إصرارا على السفر، خاصة أن المؤتمر مهم للغاية، لذلك اقترضت المبلغ من بعض المحبين والمقربين، وحرمت زوجتي المسكينة من مصروفها الشهري ومما قد لا نكون بحاجة ماسة إليه خلال أسابيع علني أتمكن من معانقة السماء أول مرة، وأتجاوز الغيوم، وأربط حزام السلامة كلما حدث مطب جوي..