وجهة نظر

المسألة النسائية بالمغرب بين الهوية والكونية

عرفت المسألة النسائية بالمغرب تطورا كبيرا على مستوى مسارات العمل القاعدي  والانتاج الفكري / الترافعي والتأثير في القرار العمومي ،واتخذت أشكالا مختلفة لمناصرة قضايا النساء المغربيات لأزيد من سبعة عقود من الزمن ، عبر اتجاهات مختلفة حسب الأولوية المرجعية للهوية أو الكونية،و استطاعت في إطار التوافقية وتجاوز منطق الصدام والصراع، تدبير محطات مهمة لإقرار الحقوق الاجتماعية و  المدنية والسياسية والاقتصادية والثقافية والبيئية للنساء ، توجت بإقرار الوثيقة الدستورية لسنة 2011 مبدأ المساواة وحظر كل أشكال التمييز بين الجنسين، والسعي لتحقيق المناصفة باعتبارها آلية لبلوغ الادماج المجتمعي للنساء في كل مناحي الحياة العامة.

فكيف استطاعت الحركة النسائية المغربية أن تنضج تصورها حول المسألة النسائية عبر تراكم نضالي تعاملت خلاله ببراغماتية عالية و تدريجية ،حسب سلم الأولويات المرحلية،  إلى أن أصبحت من أكبر الحركات الاجتماعية تأثيرا في  التشريع و السياسات العمومية ؟ وماهي استراتيجيات الحشد والتأييد التي نهجتها من أجل تحقيق مطالبها؟

وهل قطبية الهوية والكونية في التصورات المرجعية  ساهمت في نضج مسارها النضالي وتعزيز الالتقائية بين المكونات الأساسية لهذه الحركة،  أم على عكس من ذلك أدت إلى تراجعات عمقت الهوة  المجتمعية؟

للإجابة عن هذه التساؤلات الجوهرية لابد من إعمال المقاربة التاريخية أولا، والعودة إلى الارهاصات الأولية لنشأة الحركة النسائية المغربية، والتي جاءت في سياق وطني مقاوم للاستعمار ومتأثرا بالفكر النهضوي الاصلاحي المشرقي –  من رواده محمد عبده،جمال الدين الأفغاني  ورشيد طه – وساهم في بلورته بنسخته المغربية،  كل من الفقيه الحجوي  وعلال الفاسي ومحمد بلحسن الوزاني على سبيل الحصر.

لقد جاءت أولى ارهاصات الحركة النسائية من رحم الحركة الوطنية ” أخوات الصفا “نموذجا،  الجناح النسوي لحزب الشورى والاستقلال وركزت خلال عقدين من الزمن على تعليم الفتاة ،كما دافعت الفعاليات النسوية بحزب الاستقلال على حق المرأة في العمل العام وكانت من أهم مطالبها للملك محمد الخامس رحمه الله الحق في تعليم الفتاة،  وتخليص المرجعية الدينية من اجتهاد الفكر الذكوري والدفاع عن حق النساء في الكرامة.

إلا أن التراجعات العامة التي شهدها المغرب بعد الاستقلال على إثر الاضطرابات السياسة والاجتماعية إبان ستينيات وسبعينيات القرن الماضي،   أدت بالدولة نحو الحد من الحريات العامة،  ووقف  العمل بالديمقراطية و إعلان حالة  الاستثناء ،فما كان أمام النخبة من النساء سوى التوجه نحو العمل الخيري والاجتماعي في إطار جمعيات رسمية تدعم سياسة الدولة في الأمور الاجتماعية والتخطيط العائلي .

ومع تنامي المد اليساري داخل الجامعات وولوج الفتيات للتعليم العالي ، بدأت تتشكل النواة الأولى للحركة النسائية التقدمية بالمغرب داخل الأحزاب اليسارية ، ولم تتجزأ مطالبها بداية عن المطالبة بالديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية،  على اعتبار أن قضايا المرأة لايمكن أن تطرح بمعزل عن صلب الاشكال العام ، الذي تعيشه البلاد آن ذاك أن وهو تقييد مناخ الحريات العامة .

ثم ما فتئت تتجه نحو الاستقلالية عن الفاعل الحزبي وتشكيل تنظيماتها الجمعوية مع بداية الانفراج السياسي بالمغرب منتصف الثمانينات والاصطفاف حول البعد الحقوقي للمسألة النسائية، حيث صادف ذلك العشريات الذهبية لحقوق المرأة على المستوى الدولي 1975 / 1995 ، كان من أبرز منجزاتها مصادقة المنتظم الدولي على العمل باتفاقية القضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة سنة 1979 ، وانعقاد مؤتمر كوبنهاجن 1980 ، ومؤتمري القاهرة و بيكين  في بداية التسعينيات .

في هذه الفترة تحديدا عرف المغرب تحولات بنيوية مهمة على مستوى البنية الديمغرافية، حيث بلغ عدد السكان حوالي 30 مليون نسمة ،وأدى توالي سنوات الجفاف إلى  تصاعد في وثيرة الهجرة القروية و زحف المدن ،وولوج النساء لسوق الشغل وانخفاض معدل الأطفال لدى الأسر من 6 إلى  3 أطفال ، وبموازاة مع هذه  التطورات ظهرت نخبة نسائية ذات تكوين علمي وسياسي هام ،وإلمام بكل التحولات التي عرفتها قضية المرأة، فعملت على الدفع بمطالبها على أجندة صناع القرار للضغط بكل الوسائل الممكنة، لتعديل جملة من التشريعات خاصة مدونة الأحوال الشخصية.

فتشكلت في نفس الآن حركة نسائية وطنية مثقفة ولها رصيد  من العمل الجماهيري  والسياسي مدافعة  عن حقوق النساء من منطلق الهوية، وعملت على احداث تنظيمات مناصرة لقضايا النساء  وفق مرجعية الخصوصية التي تستدعي مرتكزات فكرية تدافع عن المساواة بين الجنسين على أساس التكاملية في العلاقات،   وترسيخ مركزية الأسرة داخل المجتمع ،والانفتاح على المشترك الإنساني وإخراج نموذج نسائي معتز بأصالته في ظل ما فرضته الحداثة من سياقات .

فكيف يمكن تقييم عقدين من الزمن من نضالات الحركة النسائية المغربية في ظل مسارين مختلفين لكنهما بالتأكيد لم يبقيا متوازيين؟

إن الإجابة عن السؤال المحوري سيكون انطلاقا من إعمال المقاربة النسقية،  والتي ساهمت في نضج عمل الجبهتين معا تجلى في التحول من الصدام والمواجهة  إلى التوافقية حول العديد من القضايا الخلافية لاسيما التشريع الخاص بالأسرة،  بالمصادقة على مدونتها الجديدة  سنة 2003 والشروع في  العمل بمقتضياتها سنة 2004 ، ثم الالتقائية حول أولويات التغيير لصالح حقوق النساء ، حيث عمل التراكم النضالي والتعددية في التنظيمات إلى توحيد المطالب لتعزيز المشاركة النسائية في تدبير الشأن العام،   واعتماد مبدأ التمييز الايجابي لولوج مؤسسات القرار، وتحسين صورة المرأة في الإعلام، ومناهضة كل أشكال العنف ضد النساء .

وتعززت مطالب الجبهتين معا من خلال ما جاءت به الوثيقة الدستورية لسنة 2011 ،حيث أقرت بالهوية الإسلامية كثابت من ثوابت البلاد وبالتالي قدسية المرجعية ، وفي الآن نفسه سمو الاتفاقيات الدولية واقرار العمل بالمرجعية الكونية وملائمة التشريعات الوطنية مع مقتضياتها  ،بحيث  نصت على المساواة بين الجنسين والغاء كل أشكال التمييز ضد المرأة في الفصل 19 من الدستور  تحديدا، وفي المقابل  أقرت  بمركزية الأسرة ومحوريتها كوحدة مجتمعية في الفصل 32 من الدستور ، وعملت على تعزيز الحكامة المؤسساتية الوطنية   بدسترة كل من هيئة المناصفة ومحاربة كل أشكال التمييز المنصوص عليها في الفصلين 164 من الدستور استجابة لمنطوق الفصل 19 منه  ،والذي صدر بموجبه القانون 79.14 المحدث للهيئة،   والتنصيص في الفصل 169 على احداث المجلس الاستشاري للأسرة والطفولة والذي صدر بموجبه القانون 78.14 المحدث للهيئة المذكورة آنفا، كما عملا الاتجاهين معا على الدفاع عن تعزيز مقاربة النوع في السياسات العمومية،  كان من أهم مخرجاتها تنزيل خطة حكومية للمساواة واقرار ميزانية النوع وتعزيز موقع النساء في مناصب المسؤولية وتدبير الشأن العام.

وانطلاقا من هذه المعطيات يمكن أن نسرد بعض أوجه الاختلاف في مناولة  المسألة النسائية بين الاتجاهين معا لا من حيث الآليات أو التوجهات المستقبلية :

  • توجه الحركة النسائية الحداثية إلى حشد المناصرة  بالمنتديات الدولية، لاسيما عبر التقارير الموازية للاستعراض الدوري الشامل ،لاستصدار توصيات تعزز من مسار المساواةبين الجنسين نحو مزيد من الحداثة والذوبان في الكونية .
  • تعبئة موارد خارجية لتمويل مختلف أشكال الدعم والمساندة لتوجهاتها النضالية الجديدة .
  • تملك آليات المرافعة والضغط لاسيما عبر تعبئة نخب فكرية وإعلامية مساندة لأطاريحها التقدمية.

في حين تميزت الحركة النسائية ذات البعد الهوياتي بعمل القرب والارتباط بشرائح مجتمعية واسعة ،استطاعت تعبئة رأي عام شعبي مساند لتوجهاتها .

– عدم ارتباط عملها بالشق النخبوي فقط والعمل على التصدي للإشكالات الجديدة للمجتمع من فقر وهشاشة وترسيخ قيم التضامن و العمل على ادماج الاهتمام بالأسرة في السياسات العمومية  .

– الاهتمام بقضايا الشباب بالتركيز على ترسيخ البعد القيمي في اعداد شباب متشبع بخصوصيته الثقافية.

– التوجه نحو مناصرة قضاياها في المنتديات الاقليمية والدولية ترسيخا للبعد الحضاري في الدفاع عن الحقوق الثقافية للشعوب والأمم ، مما جعلها تستقطب نخبا نسائية جديدة .

ومع أن الجبهتين معا استطاعتا إلى حد كبير ايجاد دوائر التقاء مشتركة خلال العقدين الماضيين، إلا أن تطور المنظومة الحقوقية الكونية في حد ذاته ، بما يعزز النزعة الفردانية بسمو الفرد على الجماعة، واتساع هامش الحريات بشكل يكاد ينزع نحو تطرف هذه النزعة ، يجعل نقط الاختلاف تطفو من جديد بين الفريقين ولا أدل على ذاك النقاش الموجود حاليا حول مايسمى ” بالحريات الفردية” .

ولأن دستور 2011 أعطى أهمية كبرى للمرجعيتين بترسيخ لتلازمية الهوية والكونية في التشريعات الوطنية، فإن بوادر الصدام تطفو بين الفنية والأخرى بين الاتجاهين لاسيما ما يتعلق بتعديل مدونة الأسرة ومنظومة القانون الجنائي.

غير أن جائحة كرونا وتداعياتها المستقبلية ستركز في النقاش العمومي الوطني أو الدولي على الحقوق الاقتصادية والصحية لاسيما أن رهان تحقيق أهداف التنمية المستدامة لأفق 2030 يبقى رهانا أساسيا وملحا.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *