وجهة نظر

على هامش الاستقالات: انتصرنا للوطن

عشنا في الأيام الأخيرة على وقع استقالتين متتاليتين؛ ترتبطان بالإعتذار عن منصبين مهمين، أحدهما من داخل الحكومة، ويتعلق الأمر باستقالة “وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان والعلاقة مع البرلمان” عن مهامه حيث اعتذر بعدم قدرته على تولي المهام المنوطة به وعلل بوضعه وحالته الصحية. وهذا الأمر وإن كانت له رجَّته التنظيمية، ووقعه على المجلس الحكومي، فإنه يمكن تأويله على شكل حادث طارئ، فرضته تغيرات الأحوال الإنسانية التي تتأرجح بلا شك بين المرضوالفقد، وبهذا يكون التراجع عن الاستقالة أيا كان سببه؛ هو إنهاء لباب الحديث عن الموضوع.

أما الثاني؛ فهو من داخل تنظيم حزب العدالة والتنمية، ويتعلق الأمر بالاستقالة من رئاسة المجلس الوطني التي كان يدبرها إدريس اليزمي. وقد كانت الأشد وطئا، والأكثر وقعا بالصدمة على أعضاء المجلس الوطني وعموم المنتمين إلى للحزب، بل وعلى كافة المواطنين. والسبب وهو زخم الحمولة العتابية الواردة في الاستقالة،وارتفاع منسوب الشحنة التذمرية التي وردت في مضامينها.

قد يمكن اعتبار أن هذه المستجدات غير مسبوقة على مسرح الأحداث، وأنها نزلت في هذه الظرفية بالذات، لتخلق جدالا واسعا، يجعل من حزب العدالة والتنمية موضوعا للنقاش الخاص والعام، وتكون بذلك قد فتحت الباب أماممنسوب كبير من التحديات والتفاعلات والتي لا تخفى على أي متتبع.

فهل هذا الذي وقع في حزب العدالة والتنمية يشكل مجرد إشكالات داخلية تقع في كل الأحزاب كما وقعت في حزب العدالة والتنمية؟ أم أنه بداية مسار مختلف لحزب مختلف؛ له علاقة بنكوص عن المبادئ وبطرح قواعد المرجعية ورموزها السابقة؟ أم أنه وكما يقال -من أجندة أخرى-؛ مشاهد سياسية مفبركة،نسجتهاالنخب السياسية لتحريك الرأي العام، ولإثارة القرائح، ولجذب الانتباه حتى يستعيد الحزب بريقه، خصوصا الحملات الشرسة التي تواجهه ومع اقتراب موعد الاستحقاقات الانتخابية؟

والحقيقة أن هذا الوضع الذي نعيشه سواء من داخل الحزب أو من خارجه، هو وضع مركب ومعقد إلى درجة كبيرة، بحيث-وربما لأول مرة-نجد فيه استقالات وقضايا ساخنة من داخل المطبخ؛ تُناقَشُ وتُعرض أمام الرأي العام وبشكل مباشر. وحتى وإن كانت التأويلات تسير في إطار الترويج لصحوة أو ثورة تيار “تذمري” أو “تمردي” داخل الحزب -إن صح التعبير-، فإن هناك دعوات متعقلة من داخله أيضا؛ تدعو للتوقف والمراجعة في بعض آراء ومواقف الحزب، ولكن بطريقة أكثر عمقا وسلاسة، وهذا يؤكد أن جعجعة استقالة رئيس المجلس الوطني لم تكن سوى ردة فعل عادية وسارية، وهو ما يقع عادة داخل الأحزاب الكبرى في دول كبرى تعتبر مدارسا للديموقراطية ولممارسة حرية الرأي.

بكل صدق؛ وبدون تهور في القول، وحسب ما خبرته من الممارسة السياسية داخل الحزب، فقد سعت القيادات السياسية في حزب العدالة والتنمية دائما إلى ترسيخ الوعي بالحقوق والواجبات، وعملت داخليا على التركيز على مبدأي: الرأي حر والقرار ملزم، وهو مما تضمنته الأسس والمبادئ التي رسم الحزب عبرها خارطة مساره السياسي والنضالي منذ عقدين من الزمن.

وأمام هذا الذي يقع الآن؛ فهو في رأيي نتيجة طبيعية لارتفاع منسوب الحرية الداخلية وزيادة ملحوظة في الوعي بالحقوق.وحتى وإن أفرز الاستقالات والتراجعات وموجات النقد والمراجعة، فهو يبقى دليل أجواء صحية؛ تعيشها الهيئات الحزبية بما فيها القيادات. وبما أن الوضع اليوم مختلف، فالتأويلات بدأت تأخذ منحيات مختلفة؛ في نظري هي مجحفة وغير عادلة، ولا تستند إلا على العاطفة، وأغلبها يُغَيَّب منطق التحليل العميق والرؤية المتفحصة.

لقد توهم الكثيرون أن الاستقالة الأخيرة بمضامينها لا تعبر عن قرار فردي فقط، وأنهاجمعت في طياتها ما سكت عن البوح به الأغلبية الساحقة من مناضلي ومتعاطفي الحزب. وقد تمت المبالغة في التأويل والتهويل؛ حتى جعلوا من استقالة الوزير المصطفى الرميد دليلا على تذمره هو أيضا على الأوضاع. وهذا ما يناقض منطق الاستقالة نفسها، إذ تحدثت عن آراء شخص واحد، وبينت منطقه في رؤية الأحداث حسب تصوره للأصح والأمثل. وهو ما يمكن أن يعارضه فيه الكثيرون حتى وإن كانوا من داخل أو من خارج مائدة القيادة الحزبية.

إن فتيل الاستقالة قد ألهب الأجواء المعارِضة لتوجهات الحزب، وأثار عند الرأي العام من جديد بعض المواقف الصعبة والمحرجة؛ وأيقظ لدى الغالبية هموم قضية التطبيع ودور حزب العدالة والتنمية في الحدث، وكل هذا الكلام قد يَرُدُّهُ التوقف؛ من أجل عملية تمعن معقلن على أعتاب كل هذه الأحداث. فالتاريخ بلا شك يدَوِّن، ومواقع الحزب ومسؤولياته في رئاسة الحكومة، قد فرضت عليه أن يسير في خيارات ومصالح الوطن، وأن يكون مصطفا ومتمترسا وراء قرارات الملك، فالحل لم يكن أبدا في الممانعة،لأنها ليست حقا دستوريا، ولا كان للحزب الخيرة في اتخاذ قرار آخر؛ غير الاصطفاف وراء جلالته، من أجل وحدة البلاد أولا، ومن أجل مصالح خبرها الملك وضمنها؛وعرف قدرها وما لها من وقع على المغاربة جميعهمخصوصا؛ قضية تعاطفهم ومساندتهم للقضية الفلسطينية.

كل هذه الأحداث وضعت حزب العدالة والتنمية في الحرج، وأيقظت جملة من الزوابع الانتقادية من داخل التنظيم قبل خارجه، واتهم الحزب بتبنيه لِ لغة التبرير أكثر من أي لغة أخرى،وأنه لم يتوفق في تدبير الأزمةبالشكل المطلوب، كما تم الترويج لوجود صحوة المعارضة من داخل الحزب، وأنه توجد انفلاتات وخلافات كبرى بين النخب المسيرة على المستوى العالي، وأن تيار المعارضة أجبره هؤلاء على الانزواء والتواري بعيدا عن الضجات الإعلامية التي لم يفتأ يتعرض لها الحزب من مقربيه أكثر من منافسيه ومعارضيه وأعدائه.

إنني أتفهم كل هذه الظروف والأحداث، وأعتقد أنها فرضت انتظارية رهيبة، ألزمت قادة الحزب ومسيريه بالبث في كل تلك القرارات، بنوع من التريث بسبب الاستقالات المفاجئة. وهذا ما يؤكدأن مواقفهم كانت تابثة، فلم يكن تمرد بعض المناضلين وخروجهم باللوم والنقد العلني، ولا حتى وقع استقالة رئيس المجلس الوطني، التي ألهبت الأوضاع، أن يزعزع من قناعات قيادات الحزب، ولا أن يجعلهم غافلين عن مراعاة المصالح الكبرى للوطن، وعن واجبهم في الانخراط من أجل مساراته الاصلاحية، والتي -حسب رأيهم- تسمو عن المصالح الحزبية وتتجاوز الاعتبارات الانتخابوية ومنطق التهافت نحو الكراسي والمناصب الحكومية.

هكذا؛ وفي تصوري الخاص؛ نجح قادة الحزب المديرين في كل ما سلف من القرارات في تدبير المرحلة. وهكذا قامت تلك النخبة بدورها، واستطاعت تجاوز كل هذه العقبات الحرجة. فقد سعت دائما وبكل قوة للتوفيقبين قراراتها وبين مسؤوليات الحزب في إسناد الدولة ودعمها في كل التوجهات السياسية المحلية والدولية. وما كان أن يكون لها دور أسمى في اعتقادي أفضل من هذا الذي مارسته وبكل جرأة على أرض الواقع. فهل كان على القيادة أن تتنبأ وتنتظرمثل هذه المواقف والقرارات، فالأوضاع كانت مستفزةلغالب مناضلي حزبها والمتعاطفين معها؟

إن حزب العدالة والتنمية كان واعيا بطبيعة النسق السياسي الذي يشتغل فيه وكان يعلم أدوار كل الفاعلين فيه، كما كان يعرف ردود الأفعال ومداها وما يمكن أن تصل إليه. وهذا يعني أن الاستقالات أو التراجعات من بعض المناضلين كان أمرا واردا، فما راكمه الحزب من تجارب وخبرات سياسية، لن يمنع عنه الرؤية الواضحة للواقع. فقد خبر إشكالات وإكراهات عدة، وأصبح لديه من الوعي السياسي ما يستوعب به كافة المواقف بردود أفعالها، وبالتالي؛ فهذه القرارات ليست بالجديدة، ولا كانت غائبة في حقيقتها على قادة الحزب، بل إن هذا الأمر يعرفه كل من خبر الممارسة السياسية داخل الحزب وكل من اختلى في الهيئات التنظيمية.

والأكيد أن هذا الحزب لن يخبو بريقه، ولن يضعف ولن تحدث فيه انشقاقات، لأنهأقوى مما يظن الكثيرون، فأقصى ما يمكن أن تصل فيه الحالات الخلافية الداخلية؛ لن تزيد عن وضع الاستقالة من هذا المنصب أو ذاك.

إن قصر الرؤية للعديد من المواقف، تجعل الكثيرين ينتجون ردود أفعال مبهمة،ثم إن إنتاج الحديث المرسل على عواهنه أمر محزن حقا، لكنه لن يكون إضافة بانية، بل حمولة متلاشية تتسرب أوصالها بعد حين.

إنني أعتقد وبكل صدق أن المواقف الحالية لا تحتاج منا للاحتجاج وترديد الشعارات، أكثر مما تحتاجمنا جميعا قادة ومناضلين: إنتاج مواقف رزينة، تساهم في تثبيت منطق التريث عن الأحكام الجاهزةوالتي لها آثارها السياسية بلا شك. فصحيح أن مجريات الأحداث الأخيرة قد وضعت الحزب في تناقضات متتالية وأن ما يتهيأ من تراجع عن بعض مبادئه ومواقفه السياسية، لكن؛ كل ذلك كان له ثمنه الخاص، فخر الدفاع عن القضايا الوطنية الكبرى. فإذا لم تقتنع فإنني أسائلك بكل صدق؟ ما هو دور الحزب بالله عليكم؛ وماهي مهمته وما جدوى مهامه الإصلاحية إذا لم يتحمل مسؤوليته السياسية في مثل هذه الأوضاع الحرجة وخلال هذه الفترات الداكنة؟

خلاصة القول؛ لا يأتي النجاح دوما من دون تضحية، وإنني أرى، وبما نتجرعه جميعا حاليا من آلام في قضية التطبيع وغيرها، قد نجحنا في الاختبار لأننا انتصرنا للوطن، ولن تهز بضع استقالات أو ردود أفعال من تباثنا، ويا جبل ما يهزك ريح.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • Oumaima
    منذ 3 سنوات

    صحيح أستاذتي ، ولكن يظهر جليا من خلال تصريحات إدريس الأزمي أن حزب العدالة والتنمية صار من عداد المتفرجين على واقع الوطن يوما بعد الاخر وبمعنى آخر فحزب العدالة والتنمية خلد الى نوم عميق وأصبح يلاحق الواقع ليس لان الواقع أعقد وأسرع ولكن لان الحزب ركن إلى الراحة وخلد إلى الانتظارية. فمن الطبيعي أن تتبعثر اركانه وتختلف عناصره السياسية هذا وإن قلنا أن تلك العناصر تستنكر نوم الحزب إن هداها الرحمان وأحست ولو بقليل من المسؤولية ، وذلك ما أكده القيادي في البيجيدي انه "لا بد للحزب ان ينهض وان يراجع نفسه ومقاربته هذا ان لم يكن قد فاته القطار "