وجهة نظر

“بعيدا عن القدس” قريبا منها

“بعيدا عن القدس” قصة حب تحكي عن مأساة فلسطين. كتبت بهندسة عالية وبدون أن يعني ذلك غياب لمسة الخيال الذي ينفلت بالتعريف من أي هندسة أو تنظيم. رائعة “بعيدا عن القدس”   Loin de Jerusalem  (دار النشر Liana levi)   للكاتب والسياسي الفلسطيني إبراهيم الصوص أجمل رواية قرأتها مؤخرا سواء على مستوى القصة أو الحبكة أو السيناريو الذي يستحق أن يتحول إلى مشروع فيلم واعد. لا أعرف إن كانت قد نقلت إلى السينما أو ترجمت إلى العربية، لكن الأكيد هو أن قول البعض إن عصر الرواية في تراجع، تكذبه هذه التحفة التي كشفت لي على الأقل فنانا في عالم الحكي عن مأساة فلسطين ينضاف إلى إميل حبيبي وإلياس خوري… يحكي ابراهيم الصوص بتحكم وبإتقان غريب ببساطته للغة الفرنسية، وهو أمر محدود وسط النخبة المثقفة الفلسطينية التي تغلب عليها الإنجليزية. صاحب الرواية كان سياسيا معروفا ولد في القدس وكان يمثل منظمة التحرير الفلسطينية في باريس ثم في منظمة اليونسكو. كما شارك في مفاوضات أوسلو. ويبدو أنه اختفى بعد ذلك عن الأنظار وعن الساحة السياسية حسب بعض المصادر.

العديد من أحداث الرواية تحيل على حياته الشخصية لكنها ليست سيرة ذاتية. وقد كتبها ابراهيم الصوص في 1987. تدور أحداثها حول قصة شبه حب مستحيلة ربطت قبل قيام دولة إسرائيل في 1948 بين الشاب نبيل الفلسطيني المسلم، وجارته الشابة غابرييلا اليهودية التي جاءت من ألمانيا لتسكن في القدس في سياق موجة هجرة اليهود التي عرفتها فلسطين آنذاك. تبدأ الرواية بمشهد متقن يقطع الأنفاس للحصار الذي تعرض له بيت نبيل وزوجته غابرييلا وعائلته الفلسطينية الصغيرة على يد عصابات يهودية كانت تريد إخلاء المنزل واحتلاله لتهجير أصحابه مثلما قامت بتهجير مآت الآلاف من الفلسطينيين الذين أصبحوا منذ ذلك اليوم يعيشون في الشتات.

يتثاقل إيقاع الرواية نوعا ما في البداية نتيجة طغيان الوصف وقلة الشخصيات وانحصار الأحداث داخل منزل نبيل المحاصر. لكن ما يلبث الإيقاع أن يتسارع ويتشابك من خلال حبكة مشوقة تنبني أساسا على توثيق تاريخ مأساة الفلسطينيين وصراعهم مع الإستطيان الإسرائيلي. حيث ينتقل الحكي بين الماضي والحاضر بواسطة “الفلاش الباك” مستعرضا بدايات علاقة الحب النادرة بين البطلين والتي بدأت بخروجهما من المنزل بدون إذن، وهما مراهقان، للقيام بجولة مؤسسة لعلاقتهما في المدينة القديمة. فيقدم لنا الكاتب واحدة من أجمل المشاهد التي يصف فيها بروعة دروب وتاريخ المدينة القديمة ومساجدها وكنائسها وحتى حائط المبكى. فينقلنا عبر أبواب القدس الشهيرة مثل باب العمود، وباب الخليل… وذلك قبل أن يعود البطلان إلى منزليهما لكن عائلتيهما ستسامحهما على ذلك الهروب المراهق والخطير نظرا لأجواء الصراع الذي بدأ يحتدم آنذاك حول هذه الأراضي المقدسة.

فكرة التسامح أساسية وهي تهيمن على الرواية بالطول وبالعرض سواء من خلال التسامح بين المسلم واليهودي وقبول العائلتين الجارتين العيش بمودة وتضامن وربط علاقة مصاهرة، أو من خلال تبني الحوار السلمي لحل مشكل الاستيطان في بداياته. لكن هذا التسامح سيصطدم بالواقع العنيد المعقد فلسطينيا ودوليا، وبتحول الأوضاع مع انطلاق الحروب المفتوحة بين العرب والإسرائيليين. إلى أي حد ستصمد علاقة الحب هاته؟ وما مصير العائلتين المتسامحتين أمام عواصف التاريخ؟ وما هو أفضل خيار لمعالجة الصراع ككل: السلاح أم الحوار لحل الصراع؟ يتعلق الأمر هنا بأسئلة جوهرية تجيب عنها الرواية وسؤال حل الصراع بشكل عادل مازال مطروحا. مما يجعل البعد والقرب من القدس مطروحا أيضا إلى يومنا هذا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *