أدب وفنون

الأدب المسموع في ظل الجائحة .. قبلة جديدة لعشاق الروايات

عبد اللطيف أبي القاسم (و.م.ع)

في زمن تفرض فيه الصورة الفاتنة نفسها وتأخذ بألباب الناس، ما زال الصوت حاضرا بقوة يغري عشاقه ويستقطب مزيدا منهم يشهد على ذلك صمود المذياع أمام الفيديو، والذيوع المتنامي للبودكاست في عصر الأفلام، لتنضاف لهما الكتب الصوتية التي تتيح للناس فرصة السباحة في عوالم المعرفة عبر وسيط الأذن.

وشهد الإقبال على الكتب الصوتية في العالم العربي خلال السنوات الأخيرة تطورا لافتا بالنظر إلى ارتفاع عدد المنصات الإلكترونية التي تعنى بهذا النوع من الصناعات وتقدم لروادها أطباقا منوعة من الأعمال في مختلف المجالات وعلى رأسها الأدب الذي تعد الرواية أبرز أجناسه.

وفي المغرب، يجد الكثير من الشباب من عشاق الرواية ضالتهم في الأدب المسموع لتلبية شغفهم بهذا الجنس الأدبي الرفيع في ظل وتيرة الحياة السريعة والنزوح الجماعي نحو وسائل التواصل الاجتماعي، وصعوبة اقتناص وقت مستقطع للمطالعة المنتظمة طيلة الأسبوع.

يقول الشاب عبد الله (28 سنة)، إنه دأب على الإقبال على الإنصات للروايات المسموعة مذ كان طالبا في الجامعة قبل بضع سنوات، باعتباره أن ذلك يتيح له استغلال الوقت الذي كان يقضيه في وسائل النقل في إتمام عدد من هذه الأعمال الأدبية في وقت قياسي.

ويوضح عبد الله في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، أنه تعرف عبر الأدب المسموع على سلسلة من كلاسيكيات الأدب الأمريكي والبريطاني، وتمكن بفضله من تطوير قدرته على تملك لغة شيكسبير، وتحسين أدائه في الجامعة يوم كان طالبا في شعبة الدراسات الإنجليزية (2015)، مشيرا إلى أن الميزة هي أن هذه الأعمال متوفرة مجانا على شبكة الانترنت، ويمكن تحميلها على الأجهزة الإلكترونية دون صعوبة.

وفي عهد جائحة كوفيد-19، زاد الإقبال على الأدب المسموع إذ وجد فيه متلقوه والمبادرون إلى ترويجه طريقة سلسة لتقريب الكتب من الناس، باعتبارها تتيح لهم إمكانية ولوج عوالم الأدب بنقرة واحدة على جهاز الهاتف أو الحاسوب.

وفي هذا الصدد، كانت المكتبة الوطنية للمملكة لجأت إلى المبادرة ذاتها منذ بدايات الجائحة حين اقترحت على رواد موقعها الإلكتروني، خلال فترة الحجر الصحي التي شهدها المغرب السنة الماضية، طائفة من الكتب الصوتية، تتضمن مجموعة مختارة من أعمال مؤلفين كبار أثرت الأدب العربي والعالمي على حد سواء بمن فيهم الجاحظ (البخلاء)، وابن المقفع (كليلة ودمنة)، وابن خلدون (المقدمة)، وطه حسين (الأيام)، ونجيب محفوظ (خان الخليلي).

المكتبة الوطنية للمملكة التي أغلقت أبوابها إبان فترة الحجر الصحي تلك، أتاحت أيضا لرواد موقعها أعمالا لمؤلفين فرنسيين أو مترجمة إلى الفرنسية، بما في ذلك كتاب “البؤساء” لفيكتور هيغو، و”هاملت” لويليام شكسبير، ورواية “الخيميائي” لباولو كويلو، وكتاب “سيكولوجية الجماهير” لغوستاف لوبون، وغيرها.

كما شملت مبادرة المكتبة الوطنية الأطفال حين قدمت قائمة منتقاة من الروابط التي تحتوي على كتب صوتية وكتب في صيغة إلكترونية موجهة لتطوير الإبداع والخيال لدى هذه الفئة.

على أن توافر الكتب الصوتية بصيغ مجانية على شبكة الانترنيت لا يعني بالضرورة أن الإنصات لها لا تعترضه بعض العوائق التي تجعل التجربة تنطوي على رفع تحدي الاستيعاب، لاسيما حين يتعلق الأمر بكتب فكرية وأكاديمية رغم ندرة هذه الأخيرة.

ولهذا السبب، يقول معاذ، الطالب الجامعي بكلية الآداب بالرباط، إنه يفضل الإنصات إلى الروايات الأدبية أكثر من غيرها، لاسيما عندما يكون على متن التراموي الذي ينقله من نقطة بداية السير بحي كريمة بسلا، إلى غاية نقطة نهاية السير بمدينة العرفان بالرباط حيث يتابع دراسته.

ويضيف معاذ في تصريح مماثل “45 دقيقة هي المدة التي يستغرقها الترامواي ما بين نقطة الانطلاق والوصول. أستغل هذه المدة ما أمكن في الاستماع إلى الروايات المتاحة على النت، وأقوم بتحميلها على هاتفي. وقد استمعت لأكثر من 15 رواية لحد الآن”. ويقول: “لا أعتقد أنني كنت سأجد الوقت لقراءة هذا العدد من الروايات لو اقتصرت على قراءتها في نسخها الورقية”.

وتتراوح مدة التسجيل الصوتي للروايات في المجمل بين أربع ساعات وست ساعات وقد تزيد وقد تنقص قليلا حسب طول الرواية. وبعملية حسابية بسيطة يمكن للمستمع أن ينهي على الأقل رواية في الأسبوع الواحد بمعدل استماع ساعة في اليوم، وهو رقم مهم في ظل العزوف عن القراءة الذائع حاليا.

وتتعدد حسنات الكتب الصوتية التي يمكن في حال الالتزام بالإنصات لها دون التعرض للتشويش أو السهو إنهاؤها في مدة معقولة. أولها كونها متاحة بوفرة وبشكل مجاني في أغلب الأحيان، كما أن الإنصات إليها يمكن أن يتم بشكل متواصل بوتيرة واحدة لا يضيع معها وقت المستمع، علاوة على إمكانية الإنصات إليها في كل مكان تقريبا، على السرير في غرفة مطفأة الأنوار، أو في جلسة بالمقهى، أو على متن وسائل النقل، أو حتى خلال ممارسة رياضة المشي.

على أن هواية الاستماع للروايات خلال فترة الجائحة لم تخل من طرائف. وفي هذا الصدد تستحضر إحدى هاويات قراءة الروايات في تعليق لها على منشور بمجموعة تعنى بالكتاب على (فيسبوك)، طريفة مع رواية (أميركا) للكاتب اللبناني ربيع جابر، التي تحكي قصص العرب المهاجرين إلى الولايات المتحدة في بدايات القرن العشرين.

وتقول إنها كانت تستمع للرواية على منصة (كتاب صوتي) للكتب الصوتية، قبل أن يمضي بها السماع صفحات عديدة لتجد نفسها أمام مقطع يصف الحياة اليومية في أمريكا خلال فترة اجتياح الانفلونزا الاسبانية للعالم سنة 1918، والتي تشبه إلى حد التطابق ما عاشه المغاربة والعالم خلال فترة الحجر الصحي بسبب جائحة كوفيد-19.

وتسرد ما جاء في المقطع من أن “الحياة العادية توقفت. القطارات لا تتحرك إلا الأحد، الترامواي متوقف دائما. كل التجمعات منعت. المسارح، صالات السينما، حفلات الغناء، القداديس وخدمات الكنيسة، المدارس، المخازن الكبرى… كل هذه مقفلة. الناس في البيوت، وإذا خرجوا لابسين الكمامات لا ترى منهم إلا العيون (…)”.

وفي ما يبدو أنه مقطع يثير الاستغراب باعتباره يصف حدثا وقع قبل قرن من الزمن ويتكرر اليوم كأنما التاريخ يعيد نفسه، إلا أنه يشيع في الوقت ذاته الطمأنينة بأن الجائحة إلى زوال تماما مثلما مضت جوائح أخرى في التاريخ، فالحياة تنتصر في نهاية المطاف، وهذا بالضبط واحد من مزايا الأدب التي تزيد عدد عشاقه حتى وإن كان مسموعا.

وعلى ذكر عشق الأدب المسموع، يستحضر الكثيرون واحدا من أكثر الأبيات الشعرية شهرة للشاعر العربي بشار بن برد، يقول فيه: “يا قوم أذني لبعض الحي قارئة.. والأذن تعشق قبل العين أحيانا”. وبتعديل بسيط لهذا البيت الشعري يصير من السهل القول “يا قوم أذني لبعض الكتب عاشقة.. والأذن تقرأ قبل العين أحيانا”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *